تعددية الخطاب… تعددية شبكات التنظيم

لقد بات من قبيل المتعارف عليه من خلال علاقات حركة النهضة بالإخوان المسلمين وتاريخها المتردد أو المتناوب بين السرية والعلنية وكذلك من خلال حاضرها الحالي أن لهذه الحركة، التي هي في الوقت نفسه حزب وجمعية دعوية، وجها رسميا تظهر به في الحوارات مع الأحزاب والهيئات والمنظمات في الداخل وفي الخارج، ووجها آخر خفيا، لا يعلمه إلاّ خاصة الخاصة، يقوم على تنظيم ذي تراتبية صارمة، ويتم بواسطته إعداد ذوي الحظوة من الكوادر، فيؤطرهم ويهيئهم شيئا فشيئا لعدد من المهمات المختلفة كل حسب استعداداته وقدراته؛ فمنهم من يبقى في السرية حسب مقتضيات عمل الحركة ومنهم من يتم إظهاره للعلن؛ حتى قيل إن النهضة لم تزوّد قواعدها ببطاقات انخراط بل ابتزّتهم عقائديا بإبرام عقود استعباد بالرضا والقبول الطوعيين بفضل المفعول السحري للإديولوجيا الخلاصية! فهم ما فتئوا يتعاملون بنظام البيعة والدفاع الأعمى عن الأخ ظالما كان أو مظلوما كما كان يمارس في عهود سيادة النزعات العشائرية المغلقة - إذ من المعلوم أن نصرة الأخ الظالم هي بنصحه وتوجيهه إلى الكف عن ظلمه بل رده عن الظلم ولو بالردع، لا تشجيعه على التمادي فيه بالمساندة أو حتى بالصمت عن أفعاله- وهذا واضح منذ ما قبل الحملة الانتخابية وخلالها، ويظهر حتى لدى كوادرها بل نوابها في المجلس التأسيسي وفي أداء قياداتها من خلال طريقة وآليات إدارتهم للشؤون الحكومية؛ لذلك يمكن الجزم أن حركة النهضة مازالت هي هي في العمق والجوهر جماعة إخوانية لم تحد عن منطلقاتها الرئيسية ولم تغير شيئا كثيرا وعميقا من مسالك عملها.

ثم إن للحركة تنظيما شبه عسكري، يبدو كأنه ذراع ميليشوي غير معلن، وقد يضم في أكنافه عناصر متحمسة وشديدة التزمت لا تختلف كثيرا عن السلفية. وهو يظهر في مناسبات محددة كمناسبة المظاهرات لاسيما التي نظمت ضد قناة نسمة بعد عرضها لفيلم برسيبوليس أو في أثناء حملتهم في الانتخابات الماضية، وكذلك في التحرك المضاد لاعتصام باردو1، والتهجم على الاتحاد العام التونسي للشغل قبيل مؤتمر طبرقة وذلك بغرض إرباكه وتعطيله عن أداء دوره الاجتماعي، وتستعاد الكرة مرة إثر مرة قبيل احتفاله بالذكرى تأسيسه، وكذلك التحرك المضاد للحركة الاحتجاجية للإعلاميين أمام قصر الحكومة بالقصبة كما سبق أن أشرنا، وكذلك التحرك المساند لوزير الداخلية، وإحياء ذكرى الثورة في 14جانفي2011 واحتجاج نظموه مؤخرا أمام القناة التلفزيونية الوطنية. وهنا يمكن القول إنه بالنسبة للمحيط العربي فحماس والتنظيمات الإخوانية الأخرى بل حتى الشيعية كحزب الله هي مصدر إلهام للنهضاويين على الصعيد الحركي، أما في السياق التونسي فليس لحزب النهضة – على ما يبدو- اختلاف جذري مع طريقة أداء التجمع المنحلّ؛ لذلك ترى كثيرا من التجمعيين قد التحقوا بهم قبل الانتخابات وبعدها، ويبدو أنّ أغلبهم يتحوّلون إليهم شيئا فشيئا، وهو ما تعكسه شعارات عديدة يرفعها خصوم النهضة ومنها شعار شهير صيغَ في شكل النكتة الآتية: "صحّة اللحية يا تجمع!" .

إن كل هذا يوحي بأن النهضة – خاصة إذا كتب لها الاستمرار طويلا في الحكم- ستنتهي إلى نسخة جديدة للتجمّع البائد، بحيث ستكون الخارطة الحزبية مشكلة على النحو الآتي:

- تنزوي في الحزب ثلة من الإطارات القلة "الأوفياء" للمنطلقات الأخلاقية والدعوية للحزب في الذين يتحدثون عن الدين الحنيفي السمح "شريعة وعقيدة وأخلاقا"؛ إذ سيجدون أنفسهم يتناقصون رويدا رويدا ويمكن القول إنهم سيمثلون الجناح الضامر للدعاة السلميين المسمّين "معتدلين".

- وسينحو أغلب النهضاويين -خاصة من كان في أقصى اليمين منذ البداية - أكثر فأكثر إلى مزيد من التطرف. وربما يتركون الحزب إلى أحزاب سلفية أو تحريرية؛ وقد نجد في مداخلة أحد نواب النهضة في المجلس التأسيسي يوم 23/1/2012 حول المعتصمين والمضربين من أجل لقمة عيشهم نموذجا دقيقا على هذا التوجه الذي سانده عدد هائل من أنصار الحركة على صفحات الفيسبوك، فقد شكلت المداخلة الخطاب الأشد صراحة من ضمن خطابات النهضاويين إلى حد الآن، وهو خطاب جهادي حماسي وتقليدي لا يستوعب ما يسميه العلماء المعتدلون فقه الواقع وفقه الدعوة، كما يشير أحد المعلقين ويضيف قائلا: "ما كان لمسؤول سياسي ونائب للشعب أن يصدر عنه هذا المضمون في سياق سياسي محتقن ومناخ اجتماعي مشحون"، في حين يعتبره آخر "لحظة خطيرة بكلّ المقاييس؛ فاستشهاد النائب بآية كريمة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة/33، خارج سياقها يدفع لدوّامة من العنف ويبيح أرواح الناس !، ولقد انتصر لهذه المداخلة الراديكاليون النهضاويون كما في الشاهد الآتي وغيره كثير: " أعتقد أن الإسلامي الوحيد في حركة النهضة هو الصادق شورو، والبقية أمرهم مشكوك فيه، فحركة النهضة أبعد ما يكون حتى عن الإسلام الذي يعتبره الجهال معتدلا [كذا!] إذ هي منبطحة للغاية …. وإني بعد ما رأيت من تنازلات النهضة وانبطاحيتها وتجمع الخصوم على مهاجمتها والسعي إلى إفشالها، ونظرا أيضا إلى ابتعادها عن خطها الإسلامي حتى أصبحت تكاد تكون حركة علمانية أدعو إلى تكوين حزب إسلامي جديد على الأقل حتى لا تفشل التجربة الإسلامية في تونس لا قدر الله، لا يكون عدوّا للنهضة بقدر ما يكون معينا لها على أعدائها وعلى نفسها من أية تنازلات، أخرى كما أدعو الإخوة السلفيين إلى تكوين حزب سياسي جديد يضمهم "، فقد أثارت في الوقت نفسه موجة من الاستنكار العميق لدى الرأي العام من مفكرين وحقوقيين وصحفيين وفنانين وأكاديميين وعامة الناس حتى إسلاميين معتدلين في النهضة وخارجها، وستثير كثيرا من التحليلات والاستنتاجات. وقد أدانت بسببها "الجمعية التونسية للتنمية الديمقراطية وحقوق الإنسان" صمت رئيس المجلس التأسيسي إزاءها، واتهمته بالعجز والتقصير والتحيز، وطالبته بإيقاف النائب وبشطب المداخلة من محضر الجلسة، منبهة إلى أنها دعوة صريحة لسفك الدماء وبذلك فهي تشكل خرقا لقانون المجلس نفسه وسابقة خطيرة قد يفهم منها دعوة صريحة للإخلال بالأمن العام والاحتراب، وحمّلته مسؤولية ما قد يترتب عنها من منزلقات وخيمة العواقب.

- ولا يغر الناظر المدقق في شيء أن النهضاويين "كثيرو" الأنصار، فإن ذلك يتم عبر تكديس هؤلاء الأنصار لمجرد التعبير عن الانتماء للإسلام السياسي في شكله البسيط جدا؛ إذ يكفي أن يربط الفرد بين الدين والدولة ويعتبر أن الدولة تخضع للدين حتى ينتمي إليهم. إن شأنهم في ذلك لا يختلف كثيرا عن شأن قواعد التجمع الزائل إلا في الشعارات والمرجعيات؛ فهم مثلهم وأحيانا كثيرة هم هم، حطب القطار ووقود القاطرة، في حين يمسك بزمام القول الفصل أرباب النفوذ العائلي المرتبطين بالمصاهرة والقربى مع الغنوشي، والولاءات للقوى الإقليمية والدولية. وأما عن المتعاطفين فحدث ولا حرج؛ فالنهضاويون يجبلونهم جلبا عشوائيا دون أدنى التزام فكري معين، وربما بوليمة من الولائم أو بتوزيع بعض العطايا أو بوعد بوظيفة أو بتنظيم لختان أطفال أو لعرس جماعي…إلخ مما كشفت عنه خاصة الحملة الانتخابية السالفة.

- وفي الوقت نفسه من الواضح أنه بُعيد الثورة ومنذ أن صرح راشد الغنوشي بتصريح موارب يقبل فيه قواعد التجمع لأنهم لا يتحملون أوزار قيادته، بدأ يتراكم في الحزب كثير من الانتهازيين والمنافقين. وهؤلاء نشؤوا حزبيا في بيئة متعفنة من الولاء الكاذب والمحسوبية، فهم يتقنون فنون التّملق إلى درجة احتلال المواقع بل تسلق المناصب وسنراهم يميلون مع التوجهات المختلفة داخله بحسب غلبة أحدها وسيادته على التوجهات الأخرى؛ وهكذا نرى أن حزب النهضة بميكانيزماته العائلية والولائية لا يختلف في شيء واضح عن التجمع البائد وعن الأحزاب التي تنتهي دكتاتورية عاتية تحكمها عائلات سائدة وعلاقات مصلحية ودغمائية ضيقة ومغلقة. وقد بدأ هذا يظهر كما هو واضح من خلال "نظرية التدافع" في المجتمع التي ينشرها زعيم الحركة من أجل الأسلمة في حين يتعامل مع الخارج بقفازات الديمقراطية ولغة المصلحة وترتيبات الموائد والفوائد.

هكذا يمكننا الاطمئنان إلى القول إن تحت سطح التنظيم والتنظم في الظاهر فوضى من التوجهات المتناقضة المتضاربة العميقة. ومن أسبابها أن حركة النهضة لا تملك نظرية سياسية أو فكرية معلومة كالنظرية البعثية أو الناصرية أو الماركسية أو حتى ولاية الفقيه، ولا خطا نضاليا واضح المعالم، ولا رؤية مبدئية للتحالفات والعمل الجبهوي ذي الهدف الشعبي. إنهم يجمعون الشيء ونقيضه، ويؤلفون بين أفكار مختلفة من مصادر قد تكون متباعدة دون إيجاد لحمة بينها بالضرورة؛ وهذا ما يفسر ارتباكات عديدة يحتاجون بعدها للتوضيح والتأويل والتمحّل في اختلاق الظروف وافتعال التبريرات، حتى قيل عنهم إن كل تصريح لأحد قادتهم يحتاج إلى ما يقرب من علم "أسباب النزول" ، وحتى سمي الناطق الرسمي سمير ديلو بأنه "المكذب الرسمي " أو -بصيغة ألطف- الشارح والمؤول الرسمي.

ومن أمثلة التداخل والاضطراب في أداء شبكة الحركة/ الحزب/ التنظيم/ الحكومة أن "يقرر" وزير الداخلية إقالة إطار أمني تمهيدا لمقاضاته وذلك تحت تأثير الحزب وإطاراته وأنصاره الذين باتوا "ضجرين" من تهمة تهاون الحكومة مع قتلة الشهداء أو هكذا يدّعون بسبب ضغط الشارع عليهم والهمسات التي صارت ضجيجا يبلغ مسامعهم، ولكن يتفاجأ الناس بتصريح الناطق الرسمي باسم الوزارة يكذب ما راج عن القرار، وتهربا من الوزير من التعامل مع الإعلام العمومي -باعتبار القراءة النهضاوية القائلة بأن هذا الإعلام الذي يسميه حكوميا -زلة من لسانه وما أكثر زلاته!- هو من صنف الإعلام المخرب كما جاء على لسان رئيس الحزب، وأنه واقع تحت سيطرة اليسار كما يروّجون لذلك في الفيسبوك- يلقي ذلك الوزير خطابا يوم 12 يناير/ جانفي ليلا على غير العادة، وتحمله صفحة فايسبوك تابعة للحزب الحاكم على غير عادة البلدان التي تنحو نحو الديمقراطية. ولكن الوزير – وهذا منتهى المفارقة- لا يقول في ذلك الخطاب شيئا عمليا وواضحا حول مسألة الإقالة تلك، وإنما يسرد حديثا غامضا عن الإصلاح وإعادة توزيع المسؤوليات في الوزارة. وعلى إثر ذلك التصريح، ورغم غموضه، تحتفي الصفحات التابعة للحزب بقرار "التطهير" المزعوم، ويشرع أنصار الحزب وأعضاؤه بل حتى بعض نوابه في التأسيسي في المناداة عبر الأنترنت لمظاهرة أمام وزارة الداخلية مساندةً لوزير الداخلية ضد أعوان الوزارة ونقاباتها، وفي تلك المظاهرة يتم الاعتداء على صحافي ونائب في المجلس التأسيسي…

ثم إن الوزير يتمادى في فعله الخارق للمألوف البروتوكولي عندما يخرج ليلقي خطبة في جمهور حركة النّهضة الذي جاء تلبية للنداء، ولكي يكسر تجمعا كان يريد تنظيمه بعض أعوان الوزارة مساندة لزميلهم أو رئيسهم المنتظر إقالته في ذات الوقت، ناسيا الوزير أو متناسيا أنه وزير الدّاخليّة ورجل الدّولة، ضاربا حيادية وظيفته في الصميم… فماذا كان من أمر تلك المعمعة ؟! الطريف فيها أن يتمخض الجبل فيلد فأرا؛ فالإطار الأمني المعني والمتهم بقتل شهداء الثورة يصدر فيه قرار نقل من الوزير نفسه لوظيفة أخرى ملحقة بديوان الوزير، يعني شبه ترقية، ويخرج في اليوم الموالي على إذاعة "موزاييك أف أم" لا ليعلن براءته فحسب بل ليعتبر نفسه ضحية مكيدة اليسار المتطرّف الذي يريد إقالته في حين أن الصارخين بمساندة الوزير كانوا هم النهضاويون!! أفليس هذا أغرب من العبث كما وصفه ألبير كامو!؟ وأدعى إلى الغثيان الذي عبر عنه جون بول ساتر؟!… وعندما يحدث هذا أليس للمرء أن يتساءل عن المغزى والهدف والخطة وعن أي أجنحة التنظيم هي التي تتحرك؛ هل هي الحركة أم الحزب أم الميليشيا؟ وعلى أية إيقاعات يمكن أن تؤدي بالبلاد؟ لقد "نسي" نواب النهضة في المجلس التأسيسي يوم 20/1/2012 أنهم من المفترض أن يكونوا القيمين الساهرين على إشاعة المبادئ الديمقراطية التي يلوكونها صباح مساء، ورفضوا التصويت على لائحة تدين الاعتداء بالعنف المادي والمعنوي على زميلهم محمد البراهمي النائب عن حركة الشعب الذي تعرض له في أثناء مظاهرة المساندين لوزير الداخلية من طرف الميليشيا النهضاوية : أفلا يكون هؤلاء النواب النهضاويون بهذا الصنيع طرفا أساسيا وقدوة هامة في تنامي الاعتداء الميليشوي على المجتمع برمته؟! ومن العبارات التي قالها الجبالي –مراوغة- في خطاب الافتتاح يوم تنصيب الحكومة المؤقتة أن الحكومة ستعمل على تحييد بيوت الله عن الشأن السياسي، في حين أن انتخابات النهضة دارت كلها من المسجد إلى المسجد، وها هي يوم 20/1/2012 توزع بيانا في المساجد عقب صلاة الجمعة يتحدث عن "الحكومة ومنجزاتها"! ويحمل الوعيد للمضربين والمعتصمين وتهديدا للشعب بالشعب !!!

وللتعليق بصورة إجمالية وموجزة عن كل هذه التحركات أقول: إذا تحرينا المسيرات أو المظاهرات في جميع الدول الديمقراطيّة لن نجد واحدة تساند الحكومة، فالمسيرة أو المظاهرة ليست أنشودة حماسية مساندة لقرار يتّخذه الحاكم ومناشدة لمانح الرفاهة والسعادة. إن المظاهرات والمسيرات في جوهرها احتجاج على السلطة؛ أية سلطة سياسية يمينية كانت أو يسارية، لسبب بسيط هو أنه لا يجوز منطقيا جمع السلطة والاحتجاج على من هم تحت السلطة في يد واحدة، وإذا رافق ذلك حرمان من هم تحت السلطة من حق الاحتجاج فانتبه، فأنت في قلب التوتاليتارية! إنّ هذا اتفاق عرفي سياسي وإيطيقي من الأعراف الحداثية التي يجهلها العقل الحبيس في آليات تفكير وأداء لم تتجاوز عقلية العصر الوسيط.
مقتطف من مقال صادر عن مجلة الاوان بقلم العربي بن ثاير

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماذا تعرف عن اتحاد الشباب الشيوعي التونسي

مبادئ الشيوعية :الى من يظن أن الشيوعية تنشر الالحاد

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي