التعليم والديمقراطية: الإصلاح المنشود

"تمثل التربية أعظم و أعوص مشكل يمكن أن يطرح على الإنسان."إيمانوال كانط
يعتبر البعض أن الاهتمام بقضية إصلاح التربية و التعليم لا ترقى في أهميتها إلى قضايا حيوية من قبيل التشغيل و تشكيل الحكومات و كتابة دساتير الدول,غير أن هكذا رأي يجهل أو يتجاهل أن التربية و التعليم هما اللذان يصنعان مواطن المستقبل.نعم قد يكون التشغيل مثلا مسألة ضاغطة تحتاج إلى إجراءات عاجلة و كذلك الشأن بالنسبة لكتابة دستور و تشكيل حكومة, لكن تعليم و تربية المتعلم على الديمقراطية مقوم أساسي في بناء دولة المستقبل.من هنا فإن اهتمامنا بمسألة إصلاح التربية و التعليم باتجاه تكوين مواطن صالح ليس ترفا فكريا إنما هو يستجيب لحاجة ملحة تتعلق بنحت ملامح المواطن الذي نريد,و الأمر يزداد أهمية عندما نضيف أن ربع السكان في تونس مثلا يذهب إلى المدارس و المعاهد و الجامعات.
و انطلاقا من الوعي بهذا الهدف نتساءل اليوم عن دور التعليم و التربية في تحقيق هذا المطلب المنشود حيث تصنع العقول و يتشكل مواطن المستقبل .
نحن لدينا قناعة تتمثل في أن الديمقراطية ليست مجرد نظام حكم بل هي قيمة وممارسة نتعلمها و نتربى عليها و ليست معطى جاهزا بل هي مكسب صعب المنال .هنا, عند هكذا أمر يجب أن نتوقف كثيرا.فإذا تربى المتعلم على الديمقراطية فقد كسبت رهانا وطنيا و إنسانيا قد لا يضاهيه رهان آخر.
و من أجل تحديد دور التعليم و التربية في تحقيق الديمقراطية لا بد نظريا من تحديد دقيق لمعاني التعليم و التربية و الديمقراطية في مرحلة أولى من أجل تحديد , فضاءات تعلم الديمقراطية و ممارستها في مرحلة موالية.

مفاهيم التعليم,التربية,الديمقراطية:

نعني بالتعليم النشاط الذي يكتسب من خلاله المتعلم جملة من المعارف و المهارات تدريجيا وفق مراحل تأخذ في الاعتبار النمو الحسي و العقلي للشخص ( بياجيه).و يعتبر ابن خلدون في الباب السادس من المقدمة أن" التعليم ملكة تختلف عن الفهم و الوعي " أي أنه لا يكفي أن تكون عالما بعلم معين حتى تستطيع تعليمه.فالتعليم فن أو صناعة تكتسب و تختلف طرقه من مدرسة إلى أخرى و من عصر إلى آخر.كما يلاحظ أن انتشار التعليم مؤشر أساسيّ على تطور العمران و قيام الحضارة.إذ ينتشر التعليم كما و كيفا بانتشار العمران و يقل كما و كيفا كذلك بقلة العمران.
قد يبدو التعليم من خلال هذا التحديد الخلدوني مقتصرا على مجال العلم و المعرفة ,فهل أن ربط التعليم بالديمقراطية لا يكون إلا لجهة المعرفة و العلم وحسب؟
إن الديمقراطية في هكذا سياق هي موضوع معرفة و علم يشمل الاشتغال على المفهوم و تاريخ ظهوره و تحديد خصائص أنظمة الحكم و مقارنتها ببعضها البعض و تحديد شروطها و أسسها على المستوى النظري.و يمكن تسمية هذا العلم بعلم السياسة من حيث أنه يهتم بالدراسة الوصفية لأنظمة الحكم و آلياتها و التي يمثل نظام الحكم الديمقراطي أحد أشكالها. غير أن معرفة الديمقراطية نظريا لا يعني أن الإنسان قد أصبح ديمقراطيا على المستوى العملي.من هنا لا بد من ربط التعليم بالتربية.وبالتالي نعيد طرح السؤال بطريقة جديدة:كيف يمكن تربية الإنسان على الديمقراطية فيظهر ذلك من خلال الفعل و الممارسة؟
علينا إذن أن نحدد معنى التعليم في علاقة بالتربية و هو ما لم يهتم به ابن خلدون .
التربية معجميا مصدر فعل ربى يربي بمعنى أصلح و قوم وتفيد الرعاية و التقويم, فالوالدان يربيان أبنائهما بمعنى الرعاية و التقويم.وفي نفس السياق تعني التربية التأديب أي تنشئة الإنسان على جملة من آداب السلوك القويم.
فإن كان التعليم يرتبط بالمعرفة النظرية فإن التربية ترتبط بالسلوك و الأفعال الصادرة عن الإنسان.
غير أن هكذا فصل مجرد إجراء منهجي لا يصمد أمام التجربة الواقعية,إذ أن المعرفة لا تنفصل عن الفعل حتى إن بلغت درجة التأمل الخالص,و فعل الإنسان لا ينفصل عن المعرفة مهما كانت محدودة.
و إذا أردنا تحقيق التوازن في شخصية المتعلم فيجب أن يكون سلوكه مرتبط بمعرفته و معرفته مرتبطة بسلوكه.من هذا المنطلق فالديمقراطية ليست مجرد معرفة فكم من عالم كان عدوا لدودا للديمقراطية بشكل مرضي ينم عن خلل ما في الشخصية , إن الديمقراطية بما هي معرفة و فعل في نفس الوقت لا ترتبط في تقديرنا بالشأن السياسي فحسب و إن كانت تعني في البداية شكلا من أشكال الحكم يقوم على حكم الشعب نفسه بنفسه,بل هي أيضا قيمة تظهر من خلال أفعال الإنسان و سلوكه.لهذا نقدر أن مفهوم الديمقراطية قد تطور من مجرد كونه شكل من أشكال الحكم إلى قيمة مركبة تحكم السلوك تتضمن معاني الاعتراف بالاختلاف في مجالات متنوعة من الحياة الإنسانية مثل الاختلاف بين الثقافات والاختلاف بين الآراء و الاختلاف بين الأديان بل التأسيس لذلك في مجالات واسعة من التجربة الإنسانية لا تشكل التجربة السياسية إلا إحدى مظاهرها.إذ يمكن أن نتحدث في هذا السياق عن التعليم الديمقراطي و التربية الديمقراطية.
خصائص التربية و التعليم الديمقراطيين:
التعليم الديمقراطي مصطلح حديث يعني أن حق التعلم تضمنه الدولة لكل مواطن بلغ سن التعلم بصرف النظر عن انتمائه الاجتماعي أو جنسه أو لونه أو معتقده.ويعد هذا الأمر مكسبا من مكاسب الدولة الحديثة حيث كان التعليم قديما و في العصور الوسطى حكرا على بعض أبناء الطبقات المسيطرة, صاحبة النفوذ.أما التربية الديمقراطية فهي مصطلح حديث رافق المطالبة بحرية الإنسان و القطع مع أشكال الوصاية التي لا تحترم استقلالية الفرد منذ الطفولة.يقول روسو أحد فلاسفة الأنوار و أدبائه في كتابه الذي خصصه للتربية تحت عنوان"إميل أو عن التربية":" ليس المهم مقدار ما يتعلم الطفل بل المهم ألا يفعل الطفل أمرا يخالف إرادته."

فضاءات التربية و التعليم:
يخطىء من يعتقد أن التربية و التعليم مهمة تقوم بها المدارس و المعاهد و الكليات فقط حتى أن الكثير من المفكرين لا يفصلون بين المدرسة و الأسرة و المجتمع.
ـ الأسرة : الفضاء الأول الذي يتعلم فيه الطفل و يتربى على جملة من المبادىء و القواعد التي توجه سلوكه بوعي أو دون وعي.لذلك من المهم أن نتساءل إن كانت الأسرة التونسية قادرة على تربية البنين و البنات على الحوار و النقد و احترام المختلف أي على المبادىء الديمقراطية.
ـ المدرسة: أصبحت المدرسة اليوم فضاء يأمه أغلب أبناء الشعب و هو مكسب عظيم لا بد من المحافظة عليه و تدعيمه,لكن لابد كذلك أن نعي أن المدرسة فضاء تصنع فيه الحكومات نوعية المواطن الذي تريد أن تحكمه.يقول روسو في هذا الشأن :"الحكومة تصنع المواطن و التربية هي أداة صنعه".من هنا تتأتى خطورة المسألة,فأي مواطن تريد أن تصنعه الحكومات المقبلة؟
ـ الفضاء العمومي : نعني به الأحزاب و الجمعيات و النقابات و هي الان في تكاثر مستمر حتي أن البعض يتحدث عن "انفجارات " حزبية و جمعياتية و حتى نقابية أسوة بالانفجار الديمغرافي.و السؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق : هل تعد الأحزاب و الجمعيات و النقابات في بلادنا فضاء مناسبا للديمقراطية ؟

إن أي مشروع لإصلاح التربية و التعليم لا يحب في تقديرنا أن يغفل لحظة عن ربطه بالديمقراطيه معرفة و سلوكا.ذلك أن تربية المتعلم, مواطن المستقبل على الديمقراطية لا يقل أهمية عن تجذيره في هويته و إكسابه معارف و مهارات تساعده على الاندماج الفاعل في مجتمعه , فالمواطنه الحقيقية تتحقق بهكذا شروط مجتمعة .
ـ انتهي ـ خالد كلبوسي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة