دفاعا عن "المجلس الوطني لحماية الثورة، دفاعا عن جبهة 14 جانفي، دفاعا عن الثورة: من هم دعاة الركوب على الثورة؟

دفاعا عن "المجلس الوطني لحماية الثورة، دفاعا عن جبهة 14 جانفي، دفاعا عن الثورة:
من هم دعاة الركوب على الثورة؟


سقطت حكومة الغنوشي يوم الأحد 27 فيفري وأدّى سقوطها فيما أدّى إلى قيام حملة هوجاء ضد "المجلس الوطني لحماية الثورة". واستقبلت وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمقروءة وصفحات "النات" كمّا هائلا من النقود والشتائم والسبّ الموجّه ضدّ المكونات الجمعياتية والحزبية التي يحتضنها المجلس الوطني لحماية الثورة.

لمعرفة من يقف وراء هذه الحملة المسعورة تجب الملاحظة أنها تزامنت مع تحرّكات في بعض الشوارع والمدن بقيادة بقايا التجمع وميليشيات النظام القديم التي لم تكتف بالمطالبة بعودة الغنوشي بل نظمت أعمال العنف والحرق والتخريب لترويع المواطنين. ولعلّ أبلغ ما حدث ما جدّ في مدينة قصرهلال. ما حدث في قصرهلال هو تعبيرة واضحة لما حدث في كامل البلاد منذ استقالة الغنوشي: تجمعات تدعو إلى عودة حكومته وتطالب بفك اعتصام القصبة وأعمال تخريب وعنف أينما أمكن ذلك لميليشيات التجمع وحملة إعلامية ضد مكونات المجلس الوطني لحماية الثورة وخاصة ضد إتحاد الشغل وضد حزب العمال وممثله حمّة الهمامي.

هكذا يبدو تقاسم الأدوار بين بلطجية التجمع في الشوارع والكم الهائل من الأصوات التي احتلت وسائل الإعلام وركزت تشويهاتها ضد قوى الثورة. ولكن الجميع لا يدرك اليوم بوضوح ممّن تتركّب قوى الثورة المضادة. فإلى جانب بقايا التجمع جاءت التعزيزات من صفوف ما تبقى من الأحزاب الكرتونية حليفة نظام بن علي المنهار. بعض رموز هذه الأحزاب التجأ إلى اجتماعات المنزه والمنار والقبّة ليدّعي الحديث باسم "الأغلبية الصامتة" أي في الواقع باسم الأقلية الانتهازية التي كانت تدعم بن علي ونظامه والتي توارت عن الأنظار وأجبرتها الثورة على الاختفاء والصمت.

إلى جانب ميليشيات التجمع وبقايا الأحزاب الكرتونية تتضخم قوى الثورة المضادة بالعناصر المنتمية لـ"حركة التجديد" وحزب نجيب الشابي الذين ثارت ثائرتهم بسقوط حكومة الغنوشي وفقدانهم لكراسيهم الوزارية.

ومع الأسف أن بعض الوجوه المحسوبة على الديمقراطية والتقدمية اختارت في هذا الظرف بالذات مهاجمة القوى الثورية تحت تعلاّت مختلفة وتركت جانبا الصراع المبدئي والضروري ضد حكومة الغنوشي والتجمع ومليشياته والبوليس السياسي وقد سخّرت بذلك أصواتها وأقلامها لمحاربة هذا أو ذاك من مكونات المجلس الوطني لحماية الثورة. الغباء الذاتي أيضا دفع بهذه الوجوه إلى المساهمة في خلق حالة من الضوضاء والغموض السياسي سهلت أعمال العنف والتخريب التي ذهب ضحيتها مواطنون عاديون ومناضلون مثلما حدث في مدينة قصرهلال أين يصارع الموت الطالب أحمد أمين بن علي أحد مناضلي الإتحاد العام لطلبة تونس الذي كان ضحية لاعتداء همجي من قبل مليشيات التجمع.

هكذا ضمت قوى الثورة المضادة خليطا هائلا من أنصار النظام القديم ومليشياته وبقايا الأحزاب الكرتونية المندثرة وأحزاب المعارضة اللبرالية التي شاركت في حكومة الغنوشي ورهط من الذوات المتفاقمة النرجسية لتلتقي كلها موضوعيا في خندق واحد وليصب فعلها السياسي في مصب واحد ألا وهو الدفاع على ما تبقى من نظام الديكتاتورية.

لنأتي الآن إلى الإنتقادات التي وجهت إلى المجلس الوطني لحماية الثورة.

يشترك في صياغة هذه الإنتقادات كل من دافع عن حكومة الغنوشي و"الشرعية الدستورية". فمواجهة مجلس حماية الثورة يهدف في آخر التحليل إلى تفكيك وحدة الحركة الديمقراطية في مواجهة بقايا النظام الديكتاتوري وتشتيت صفوفها بإشعال حرب بسوس بين فصائلها، حرب عنونها الكل ضد الكل. لقد تكفل البعض بالتشكيك في وجود حركة النهضة داخل المجلس، وتكفل البعض الآخر بإعلان الحرب ضد اتحاد الشغل وأمينه العام وطعن البعض الآخر في تواجد "الوطنيون الديمقراطيون" وتيارات البعث وتقوم شلة أخري بسب وشتم حزب العمال، وهكذا دواليك. إن الهدف السياسي لدى كل خصوم مجلس حماية الثورة، عدى دفاعهم المعلن وغير المعلن عن حكومة الغنوشي وعن الشرعية الدستورية البائدة، هو ضرب وحدة الحركة الديمقراطية والثورية حتى تبقى مشتتة الصفوف ودون برنامج سياسي يقودها وتستنير به الجماهير في التصدي لمخططات ومناورات قوى الثورة المضادة.

أولا: استقلالية المنظمات؟

الكثير من منتقدي تركيبة مجلس حماية الثورة ركزوا على ضرورة أن تبقى المنظمات حيادية وخارج كل تحالف سياسي وأن لا تنخرط في أعمال مشتركة مع أحزاب سياسية بتعلة الحفاظ على استقلاليتها. اعتمادا على ذلك جاءت الهجمات ضد الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وضد جمعية المحامين وضد جمعية القضاة وضد الإتحاد العام التونسي للشغل. وفي الواقع أصحاب هذه الانتقادات لم يبلوروا انتقاداتهم من باب الصدق والنزاهة أو الحرص على استقلالية المنظمات. هدفهم من ذلك هو إضعاف الجبهة الواسعة التي تمّ تحقيقها داخل المجلس ضد حكومة الغنوشي وتوجهاتها السياسية وهم يحبذون لو انساقت هذه المنظمات وراء حكومة خيانة الثورة أو على الأقل أن تبقى في مواقع الحياد بينما تهدد القوى المضادة بتصفية الثورة وتركها في مرحلة الحد الأدنى الذي يسهل الالتفاف عليه فيما بعد.

والحقيقة أن المسائل العالقة بمصير الثورة ونتائجها، من ذلك حل التجمع ومحاسبة ومحاكمة المتسببين في سرقة أموال الشعب وتقتيل أبنائه وحل البوليس السياسي، ذراع الديكتاتورية القمعي، وتحرير القضاء وإستقلاليته وانتخاب جمعية تأسيسية هي التي حسمت الصراع السياسي داخل أغلب المنظمات. هذا الصراع اختزلته في الأيام الأخيرة الموقف من حكومة الغنوشي بين مناصر لها ومعارض. لقد فشل أنصار الغنوشي وأنصار الأحزاب اللبرالية المتحالفة مع بقايا النظام القديم هذا الصراع السياسي داخل أغلب المنظمات والجمعيات لذلك طالبوا بحيادها وعدم انخراطها في تحالف سياسي. المثل الشعبي يقول في هذا الباب "إلي ما يلحقش النخلة إيقول صيش".

يجب أن نذكرّ بأن المنظمات التي انخرطت في مجلس حماية الثورة قامت بذلك في إطار احترام استقلالية قرارها أي أن أحدا لم يجبرها على ذلك بقطع النظر عن صحة موقفها أو خطئه. بهذا المعنى يمكن القول أن الرابطة التونسية لحقوق الإنسان مثلا، التي اتخذت قرارها بالمشاركة في مجلس حماية الثورة من هيئتها المديرة، ليست أقل استقلالية في قرارها عن "جمعية النساء الديمقراطيات" التي حبذت البقاء خارج المجلس. هذه الجمعية كانت لها أولويات سياسية أخرى. وهذا الأمر ينطبق على جمعية القضاة والمحامين والإتحاد العام التونسي للشغل. بل يمكن الجزم أن الجمعيات القليلة التي بقيت خارج مجلس حماية الثورة يهيمن داخلها الموقف السياسي الأقرب إلى تواصل حكومة الغنوشي. فأنصار التجديد وحزب نجيب الشابي متواجدون في أغلب المنظمات ولهم تأثيرهم داخلها.

إن تحالف المنظمات والأحزاب هو دليل على تقدير سليم للمخاطر التي تتهدد الثورة كما هو برهان على النضج سياسي لأصحابه، نضج لم تعرفه تونس في تاريخها النضالي من قبل. ولقد كنا دوما خلال عهد الديكتاتورية ندعو إلى توحيد صفوف الحركة الديمقراطية والثورية وهاهي ثورة شعبنا تتيح لنا ذلك. ومثل هذه التحالفات التي تجمع في صلبها الأحزاب والجمعيات ليست بدعة تونسية. ومعروف العمل بها في تجارب الثورات وحتى في فترات الصراع السياسي السلمي بما في ذلك داخل أكثر الدول ديمقراطية.

إن الأمر الأهم في الوضع الراهن لا يتمثل في الدفاع عن نوع من الاستقلالية الوهمية للمنظمات والجمعيات. ونقول وهمية لأن مثل هذه الإستقلالية لا معنى لها سياسيا غير مهادنة بقايا النظام الديكتاتوري وترك السلطة وجهاز الدولة بيديها تتحكم به كما تشاء وتناور كما يحلو لها. وليس الوضع وضع "توخي مبدأ الحياد والتسامي عن الصراعات" بقدر ما هو وضع يتطلب الدفاع عن الثورة وعن ديمقراطية فعلية وعن حريات كاملة وواسعة. لأن أكبر الضمانات لحماية استقلالية القرار داخل المنظمات والجمعيات هو الانتهاء من نظام التجمع والبوليس السياسي وانتصار الثورة انتصارا كاملا. إن الذين يدافعون عن حياد المنظمات بينما تتلقى الثورة الضربات القاسية من عنف وتخريب وقتل ودسائس ومناورات، هم من أنصار الثورة المضادة شاءوا ذلك أم أبوا. هذا إن لم يكونوا من أنصار الغباء السياسي، وذلك مهما أبدوا من حسن النوايا، لأنهم من دعاة تفرقة وتشتت القوى الديمقراطية والثورية ديدنهم في ذلك إشعال نار الفتنة وحرب الكل على الكل.

ثانيا : السكتارية والإقصاء؟

الغريب أن أعداء تقارب المنظمات والأحزاب داخل مجلس حماية الثورة يطالبون المنظمات بتركه والخروج منه وفي نفس الوقت يوجهون إلي أنصاره تهمة الإقصاء ومحاولة الإنفراد بالقرار السياسي.

إن تهمة الإقصاء هذه خرقاء ومردودة على أصحابها. فمن ناحية يرفض أصحابها الدخول لمجلس حماية الثورة ومن ناحية ثانية يتهمون مكوناته بالإقصاء ومن ناحية ثالثة يستنكرون أحقية التواجد في داخله لهذا الطرف السياسي أو ذاك. بعضهم يستنكر تواجد حركة النهضة والبعض يستنكر تواجد الحركات البعثية والبعض الآخر يندد بمكونات جبهة 14 جانفي وهكذا دواليك. إن مجلس حماية الثورة لم يُقص أيّا كان من دخوله. لقد وُجّهت الدعوة لكل الأحزاب والحركات والمنظمات ما عدى التجمع والأحزاب الكرتونية التي كانت سندا وديكورا لديكتاتورية بن علي. لقد ضمّ المجلس في صفوفه 28 مكونة جمعياتية وحزبية ولم تعرف تونس في تاريخها قط مجلسا بمثل هذا الاتساع والإجماع، زيادة على أنه احتضن أكبر الأحزاب المعارضة لديكتاتورية بن علي وأصغرها وأكبر الجمعيات وأصغرها التي وقفت طويلا في وجه الاستبداد السياسي. ورفضت حركة التجديد وحزب نجيب الشابي دخول المجلس بعد مشاركتهما في النقاشات الجارية لتكوينه بموجب الخلاف المبدئي حول صفته الاستشارية أو التقريرية في علاقته بحكومة الغنوشي التي لا شرعية لها ولا شعبية. ودافع ممثلي التجديد وحزب نجيب الشابي على الصفة الاستشارية أي أن يخضع مجلس حماية الثورة لحكومة الغنوشي وأن يكتفي بإبداء رأيه دون صلاحيات تذكر، واقترح الرئيس المؤقت فؤاد المبزع أن يقوم شخصيا بتعيين عشر أعضاء داخله وتعين رئيسه وخضوعه لحكومة الغنوشي. أي أن أحمد إبراهيم ونجيب الشابي والمبزع كانوا على نفس الموقف المتمثل في "التشليك" السياسي لمجلس حماية الثورة. ولم يبق خارج المجلس إلا "جمعية النساء الديمقراطيات" و"مجلس الحريات" لا بسبب الإقصاء ولكن بمحض اختيار ممثلي هاتين الجمعيتين البقاء خارجه. أمّا في خصوص تمثيل الجهات فلم يكن في المقدور انتظار انتخاب ممثليهم الأمر الذي يتطلب شيئا من الوقت وإنما تُرك الباب مفتوحا حتى يلتحق به تدريجيا كل ممثلي الجهات.

أين هي السكتارية إذا وأين هو الإقصاء الذي يتشدّق به البعض وكيف يمكن القبول بتشويهاتهم التي تتهم مجلس حماية الثورة بأنه مجلس أقصى اليسار وأقصى اليمين؟

إن ألد أعداء هذا المجلس هم بقايا التجمع ومن تحالف معهم داخل حكومة الغنوشي من الأحزاب التي خانت الثورة والذين ترتعد فرائصهم من مشهد السقوط الكامل لنظام الدكتاتورية. ولكن من خصومه أيضا البرجوازية الكبيرة التي كانت السند الاجتماعي والعضوي لحكم بن علي والتجمع، دون أن ننسى بعض النوايا الحسنة من دعاة الحياد و"التسامي عن الصراعات". هذا ما يفسّر حملة التشوهات التي تصاعد نسقها في الأيام الأخيرة ضد مجلس حماية الثورة ومباشرة بعد استقالة الغنوشي. وتبع الحملة الإعلامية ضد المجلس وضد جبهة 14 جانفي أعمال العنف والتخريب وتجمّعات ميسوري الحال في المنزه والمنار والقبة الذين ثارت ثائرتهم وخرجوا عن صمتهم أمام مشهد انهيار حكومة الغنوشي وخطر إمكانية التوافق بين الوزير الأول الجديد ومجلس حماية الثورة. وتخفى كل هؤلاء وراء يافطة "الأغلبية الصامتة" أي الأقلية الداعمة لحكومة الثورة المضادة والتي لم تخرج من صمتها إلا بعد مداهمة الخطر لمعاقلها.

والمضحك أن هذا الرهط من البرجوازيين كانت أول مساهمة سياسية لهم في ثورة الشعب اغتصاب إرادة الجماهير باغتصاب صفة "الأغلبية الصامتة" والإدعاء الزائف بأنهم يمثلون أغلبية الشعب التونسي. إن الإدعاء بأن أغلبية الشعب التونسي كانت صامتة أو أنها كانت وراء حكومة الغنوشي هو إدعاء أخرق. لقد تناسى أصحاب مقولة "الأغلبية الصامتة" بسرعة مذهلة أين كانت أغلبية الشعب التونسي يوم الجمعة 25 فيفري. ثلاث مائة ألف متظاهر على الأقل خرجوا في مسيرات لا مثيل لها في تاريخ تونس تبنوا نفس مطالب معتصمي القصبة أي رحيل حكومة الغنوشي وحل التجمع وحل البوليس السياسي وحل المؤسسات الصورية من مجلس النواب ومجلس المستشارين وإبطال العمل بدستور الديكتاتورية وأخيرا انتخاب جمعية تأسيسية. وهي نفس المطالب التي صاغتها أرضية جبهة 14 جانفي منذ يوم 20 جانفي تاريخ تأسيسها. بعد مسيرات بهذا الحجم يتحدث برجوازيو المنار والمنزه والقبة والغنوشي عن "أغلبية صامتة" والحقيقة أنه كان من الأجدر بهم أن يتحدثوا عن أقليتهم، أقلية من أصابهم الصمّ والعماء السياسي.

ثالثا: كل السلطات لمجلس الثورة؟

الإدعاء بأن مجلس حماية الثورة طالب بكل السلطات التنفيذية والتشريعية هو أيضا افتراء وتشويه لأهدافه ولأرضيته السياسية. لقد طالب المجلس بلعب دور الرقيب على الحكومة المؤقتة أكانت حكومة الغنوشي أو أي حكومة أخرى. ولا يمكن لمجلس حماية الثورة أن يلعب دور الرقابة هذا دون أن تكون له صفة تقريرية بحيث تضطر الحكومة المؤقتة إلى التشاور وإلى التوافق معه في المساءل المصيرية والمتعلقة بالفترة الانتقالية. وهذا يعني عمليا أن المجلس يطالب بجزء من السلطة السياسية لا كل السلطة كما يدعي خصومه. وهذا الأمر ضروري لحماية مسار الثورة والتصدي لقوى الثورة المضادة. أين تكمن الضرورة في ذلك؟ في كون قوى الثورة المضادة وبقايا النظام القديم هي الماسكة حاليا بدواليب الدولة وبجهاز الإعلام وبجهاز القضاء وبجهاز الأمن بما في ذلك البوليس السياسي الذي يحرص الباجي قائد السبسي على صيانته.

الرقابة الشعبية على كل حكومة مؤقتة يمكن أن تمارس من جهتين. الجهة الأولى هي رقابة الشارع والمواطن والجهة الثانية هي رقابة المجتمع المدني المتمثل في الجمعيات والأحزاب السياسية التي قاومت الديكتاتورية ولم تكن سندا لها. إن مجلس حماية الثورة وممثليه في الجهات هو الذي يحتضن اليوم المجتمع المدني التونسي: الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وجمعية القضاة وجمعية المحامين والإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد العام لطلبة تونس وباقي الجمعيات وأكبر وأصغر الأحزاب السياسية. ثم إن أبواب المجلس مفتوحة لمن بقي خارجه من الأحزاب والجمعيات، زيادة على أن الأحزاب والجمعيات التي بقيت خارج المجلس إنما تعد على أصابع اليد الواحدة. لذلك لا نرى أي تناقض بين اعتصام القصبة ومسيرات 25 فيفري التي طالبت بسقوط حكومة الغنوشي وبمجلس تأسيسي وبين مجلس حماية الثورة الذي يطالب بمراقبة أي حكومة مؤقتة تتولى الإعداد لانتخاب المجلس التأسيسي انتخابا تتوفر فيه مقومات الحرية والديمقراطية.

ماذا يعني بقاء مجلس حماية الثورة خارج كل سلطة ودون صلاحيات تقريرية ودون صلاحيات رقابة كما يدعو إلى ذلك خصومه؟

إنه يعني ببساطة أن تبقى كل السلطات التنفيذية والتشريعية بيد حكومة مؤقتة لا يوجد في صلبها ثوري واحد، حكومة لا يوجد في صلبها رجل واحد عارض أو ناضل ضد ديكتاتورية بن علي وعائلات الفساد! وتريدوننا أن نقبل بمثل هذه الحكومة وأن يعطيها الشعب الثائر وشعب الشهداء ثقته ودعمه لاستكمال وصيانة ثورته؟!

"ان الثورة يحميها من قاموا بها"، هذا ما يقوله بعض خصوم مجلس حماية الثورة ونحن متفقون معهم على هذا الأمر، تمام الاتفاق. ولكن دعنا نوضح الأمر.

أولا مجلس حماية الثورة هو الوليد السياسي الشرعي للثورة. أغلب مكوناته ساهمت في النضال ضد نظام الاستبداد وكانت محلّ قمعه وبطشه.

ثانيا هل يمكن اعتبار محمد الغنوشي الوزير الأول السابق وفؤاد المبزع رئيس البرلمان الصوري الذي زوّر واغتصب إرادة الشعب والباجي قائد السبسي الوزير الأول الحالي ومن لف لفهم من حماة الثورة، هل قاموا بهذه الثورة؟ أليس هؤلاء هم رجالات ديكتاتورية بن علي وديكتاتورية بورقيبة، أليس هؤلاء هم ديناصورات العهد البائد؟!

ولكن انتهازيي الأمس كما انتهازيي اليوم يحبذون أن تبقى كل السلطات، التنفيذية والتشريعية بيد هؤلاء لا مراقب ولا حسيب. أمّا أن يكون جزء من هذه السلطة بيد أبناء الشعب وأبناء الثورة فذلك أمر مزعج ومخيف!

رابعا: الوصاية والركوب عل الثورة؟

إن أبخس الاتهامات والتشويهات التي وجهت لأنصار مجلس حماية الثورة وخاصة لأنصار جبهة 14 جانفي هي تلك الاتهامات التي تدعي وصايتهم على الثورة وركوبهم عليها. وينصحنا البعض بـأن نتفضل بعدم استعمال "الخطاب الثوري للركوب على الثورة" وأن لا نشكك في "شرعية الحكومة بتكوين مجلس مصطنع يفتقد لأي شرعية" وبأن نقبل بـ"الشرعية الدستورية" "أداتنا" لـ"الديمقراطية والحرية" "في المرحلة الانتقالية".

ويرى أصحاب هذه التشويهات أن مناضلي الأطراف المكونة لمجلس حماية الثورة ولجبهة 14 جانفي لم يكن لهم دور أو تأثير في الثورة ولكن ذلك لم يمنعهم من تجميع كل أقلامهم وكل حقدهم وغضبهم ضد هؤلاء المناضلين.

والمغالطات هنا لا تحصى.

أولا ثورة الشعب التونسي لم تأت من لا شيء وليست طفرة داروينية ولا لغزا عصي الفهم، هي نتيجة تراكم تضحيات أجيال من المناضلين السياسيين والنقابيين والحقوقيين والطلبة. هؤلاء كانوا دوما في صلب الثورة وفي مقدمة النضال ضد الديكتاتورية وتحمّلوا أعباء ذلك طيلة عقود كاملة وساهموا من موقعهم في تراكم الغليان والحقد الشعبي على نظام الاستبداد والفساد. هؤلاء هم الذين انخرطوا في الثورة منذ بدايتها في الحوض المنجمي. هؤلاء هم الذين وقفوا إلى جانب انتفاضة سيدي بوزيد منذ اليوم الأول من قيامها.

نحن نسأل خصومنا من من الأطراف المكونة لمجلس حماية الثورة ولجبهة 14 جانفي لم يتعرّض إلى قمع البوليس السياسي والمحاكمات والسجن والتشريد والتعذيب وحتى القتل في زنزانات الداخلية؟! تتهموننا بركوب ثورة الشعب التونسي، قولوا لنا إذا من كان في سجون بن علي إلى حد يوم 14 جانفي وحتى بعده ومن شمل العفو التشريعي العام ومن عاد من ديار التشريد بعد 14 جانفي؟!

هذه المكونات السياسية والجمعياتية هي جزء لا يتجزأ من ثورة الشعب التونسي ولها أحقية دفعها والدفاع عنها وأغلب هذه المكونات لم تنتظر لا تأشيرة وزارة الداخلية ولا "الشرعية الدستورية" لنظام بن علي لتنخرط في نضال الجماهير. ولكن الثورة بطبيعتها، في تونس، كما في كامل الأوطان وعبر التاريخ، لها قوانينها. فلا تخضع لجدول أعمال الأحزاب والمنظمات ولا لتخطيط هذا الزعيم أو ذاك.

ثانيا خصومنا يقبلون بالشرعية الدستورية، شرعية النظام البائد لتحقيق مهام الثورة. خصومنا يسمحون لحكومة الغنوشي ولفؤاد المبزع ورشيد عمار أن تتكلم باسم الثورة ويعيبون ذلك علينا، على من قضى عمره في التحضير لها ودفع من أجلها أغلى الأثمان. ثم يتهموننا بالإقصاء. أليس ذلك من قبيل المهازل؟!

نحن نسأل خصومنا: من له أحقية الدفاع عن الثورة، أهم اللذين حكموا البلاد طيلة عقود مع بن علي وعائلات الفساد وحتى الذين حكموا مع بورقيبة، أم اللذين دخلوا البرلمان الصوري من أحزاب الكرتون والمعارضة اللبرالية والإصلاحية، أم اللذين نادوا بانتخاب بن علي سنة 2009، أم اللذين نادوا إلى حكومة إنقاذ وطني مع بن علي إلى حدود ساعات من هروبه، أم اللذين نبذوا كلمة "ثورة" من برامجهم السياسية نبذهم للطاعون، أم اللذين لم يكونوا ليتجرؤوا حتى على وصف نظام بن علي بالديكتاتوري، أم الذين لم يرفعوا إصبعا واحدا ضد ديكتاتورية بن علي بمن فيهم الوزير الأول الحالي الباجي قائد السبسي، أم اللذين اكتشفوا ثوريتهم يوم 15 جانفي؟!

عندما كنا نتكلم عن الثورة وعن إسقاط الديكتاتورية كنتم تصفوننا بالحالمين والمتطرفين وعندما كنا ندعوكم إلى الثقة بشعب تونس وبطاقات جماهيره الثورية كنتم تخاطبوننا بالواقعية وبسياسة فن الممكن بدعوى أن شعب تونس "جبان" و"خبزيست" وأن شباب تونس لا يهتم لا بالسياسة ولا بالنضال وأنه شباب كورة وملاهي. وعندما دعا رفاقنا في النقابات إلى إضراب مساندة لانتفاضة الحوض المنجمي أقمتم الدنيا ولم تقعدوها واتهمتمونا بتنظيم الإضرابات السياسية. واليوم أصبحنا في قاموسكم دعاة الركوب على الثورة والوصاية عليها!

ثالثا إن من يهدد الثورة ويعمل على حصرها في الحد الأدنى ويحاول الالتفاف عليها لا يتمثل لا في مجلس حماية الثورة ولا في جبهة 14 جانفي. والمضحك أنكم تعتبروننا قلة لا وزن لها سياسيا (!) نحن ندعوكم إلى قراءة أرضية ومطالب هذه الجبهة وستجدونها نفس المطالب التي ينادي بها الشعب ومظاهرات 25 فيفري ومعتصمو القصبة وهاهي تتحقق الواحدة بعد الأخرى حتى استكمال الشعار المركزي لثورة الشعب التونسي: "الشعب يريد إسقاط النظام"، الشعار الذي يهزّ الآن أركان الوطن العربي بأكمله.

الثورة تهددها بقايا النظام القديم وبلطجية التجمع والبوليس السياسي وبقايا الأحزاب الكرتونية والانتهازيين من كل درب وصوب وثوريو 15 جانفي. هؤلاء لازالوا يمسكون بدواليب الدولة والإعلام والقضاء وباقتصاد البلاد. الأولى بكم أن توجهوا نيرانكم ضد هؤلاء لا ضد مناضلي مجلس حماية الثورة وجبهة 14 جانفي.

وأخيرا لنذكر بخطاب حزب العمال زمن الشدة وزمن الحصار، لعلّ الذكرى تنفع قصيري الذاكرة، وانتهازيي اليوم حتى تبيان الغث من السمين وحتى يعرف شعبنا من هم الذين يركبون ثورته ومن هم الذين دافعوا عنها ولايزالون. بمناسبة المهزلة الانتخابية لسنة ‏‏2004‏ صاغ حزب العمال موقفه المبدئي من ديكتاتورية بن علي في وثيقته "من أجل بديل ديمقراطي وشعبي"، جاء فيها:

"إن الشعب التونسي بكل طبقاته وفئاته، وأحزابه وجمعياته ومنظماته وشخصياته التي لها مصلحة في الحرية السياسية، مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى التخلص من الدكتاتورية. ومن نافل القول إن هذه الدكتاتورية لا يمكنها بأي شكل من الأشكال، ومهما وَهَمَ الواهمون، أن تتمقرط أو تتنحى من تلقاء نفسها... إن الديمقراطية لن تتحقق بواسطة هذه الدكتاتورية أو بالتعاون معها بل ضدها وعلى أنقاضها. وما من شك في أن الشعب التونسي الذي يحفل تاريخه بالنضال والتضحيات قادر على هزمها وبناء النظام الديمقراطي الذي ينشده.

... إن الانتقال إلى النظام الديمقراطي لن يتحقق إلا عن طريق انتخابات حرة تسهر على تنظيمها هيئة أو حكومة مؤقتة تحظى بتأييد القوى الديمقراطية وتتمتع بكامل الصلاحيات خلال الفترة الانتقالية لإنجاز تلك المهمة. ويكون الهدف من تلك الانتخابات إقامة مجلس تأسيسي توكل له مهمة صياغة دستور جديد يرسي القواعد الأساسية للنظام الديمقراطي المنشود في نطاق الاستقلال التام للبلاد وتحررها من أي هيمنة خارجية".

هذا ما دعا إليه ، ليس يوم 14 جانفي 2011 وإنما سنة 2004. وقبل انتخابات 2009 جاء في وثيقة "حزب العمّال الشيوعي التونسي يدعو إلى مقاطعة الانتخابات وتعبئة الشعب التونسي من أجل افتكاك حقوقه ووضع حدّ للدكتاتورية" (24 أوت 2009) ما يلي:

"إن التغيير الديمقراطي الحقيقي لصالح الطبقات والفئات الكادحة والشعب التونسي عامة لن يتحقق عن طريق نظام بن علي البوليسي أو بالتعاون معه ومهادنته و"اللعب" في دائرة منظومته وبالتالي المشاركة في مهازله الانتخابية ومؤسساته الصورية بل بالنضال ضده بالاعتماد على الجماهير الشعبية الواعية والمنظمة للدفاع عن حقوقها المادية والمعنوية، وهو ما يتطلب التوجه إليها والعمل في صفوفها باستمرار حتى تنخرط بمئات الآلاف إن لم يكن بالملايين في الشأن العام فتنتفض ضد الاستبداد وتفرض إرادتها وتحقق التحول الديمقراطي والوطني وتكرسه عبر الدعوة إلى مجلس تأسيسي يسنّ دستورا جديدا يضع مقومات نظام جمهوري ديمقراطي وعصري".

وأود أن أذكر بموقفي في جدالي مع دعاة "الواقعية" و"الإصلاح" في التعامل مع ديكتاتورية بن علي، خاصة من أنصار التجديد وحزب نجيب الشابي، في مقالة نشرت على صفحات "البديل" ("انتخابات" 2009 وسبل التغيير الديمقراطي في تونس ـ 22 أفريل 2009 )، جاء فيها ما يلي:

"الديمقراطي الحقيقي في الظرف الراهن (أفريل 2009) هو الذي يساعد على نهوض نضالات الفئات الاجتماعية المستغلة والمفقرة، يواكب تضحياتها اليومية ويطور قدراتها على الرفض والاحتجاج. إن تضاعف النضالات، بصغيرها وكبيرها، البارز منها وغير البارز، هنا وهناك، سيمثل حربا اجتماعية حقيقية، ستنتهي عاجلا أم آجلا بإنهاك قوى السلطة وبنهوض حركة اجتماعية شاملة. وعند المنعرج الحاسم سيكون في مقدور قوى شعبنا تمزيق جسد الديكتاتورية وتهشيم عظامها".

"...المسألة الثانية التي يثيرها الجدل القائم حاليا بين الديمقراطيين حول "انتخابات" 2009، تتعلق بسبل التغيير الديمقراطي ومحتواه. إجمالا هناك صراع بين رؤيتين للمسألة.

الرؤية الأولى تتبنى إمكانية تحقيق التغيير الديمقراطي دون سقوط عنيف للديكتاتورية ومؤسساتها. دعاة هذه الرؤية يناضلون من أجل إصلاحات ديمقراطية ويعتقدون أن مثل هذه الإصلاحات هي من مصلحة المعارضة والمجتمع كما هي من مصلحة السلطة. لذلك هم يسلكون مسلك الحوار معها وليسوا من دعاة تأجيج النضالات الاجتماعية ضدّها، بل يسعون إلى احتوائها وكبح جماحها. هؤلاء يتهمون كل تجذر في مواجهة السلطة بالتطرف ويحبذون سياسة التواصل مع التسلط، عساه يرأف بالمجتمع وبالمعارضة. وهم ينبذون العنف بكل أشكاله ولكنهم لا يقطعون مع مؤسسات العنف ولا يطالبون بتصفيتها ( البوليس السياسي، وزارة الداخلية، الحزب الحاكم ـ إن كان لازال في مقدورنا تسميته بالحزب ـ، ومؤسسة الجيش). من الديمقراطيين إذا، من يحبذ بث الأوهام حول إمكانية إصلاح سلطة التسلط ومؤسساتها. لذلك يقبل البعض منهم اليوم بانتخابات مغشوشة سعيا منهم إلى تفادي خندق المقاطعة وشرورها.

وعلى عكس ذلك، لا تؤمن الرؤية الثانية (رؤية حزب العمال) بإمكانية تحقيق تغيير ديمقراطي مع تواصل مؤسسات الديكتاتورية. فالديمقراطية هي في تعارض تام مع مصلحة السلطة القائمة ولا يمكن أن تبنى إلا على أنقاضها. فإسقاط الديكتاتورية هو هدف كل نشاطها السياسي. والانتقال الديمقراطي يتطلب انتخاب جمعية تأسيسية تمثل بحق الشعب التونسي وتسن دستورا جديدا للبلاد، ديمقراطيا ويحمي كل الحريات. أمّا انهيار الديكتاتورية فلا يمكن أن يتحقق بمعول العمل الإرهابي المعزول عن فعل الجماهير بل سيكون ثمرة نهوض حركة جماهيرية عارمة لا تعرف الخوف ولا التردد. أما قوة الجماهير فستكون ضرورية ولا مندوحة عنها لتصفية مؤسسات التسلط وبنيانه".

"... فسبيل التغيير الذي يجب الإعداد له ليس انتخابيا وإنما هو سبيل النهوض الشعبي الذي يلقي بكامل قوى الشغيلة في اتجاه واحد، اتجاه يهدف إلى كنس الديكتاتورية ودكّ مقوماتها. إنه الطريق الوحيد الذي سيمكن شعبنا من الديمقراطية الحقيقية والشعبية. إذ كيف لنا أن نتصور تغييرا حقيقيا، قادرا على هزم بوليس بن على وترسانة العنف التي بين يديه دون عزم وتصميم الآلاف بل ومئات الآلاف من المواطنين على التخلص نهائيا من سلطة الاستبداد؟!"

عندما كان رفاقنا يصوغون تصوراتهم الثورية هذه ويصغون لنبض الجماهير الثوري كان أنصار حكومة الغنوشي من الأحزاب الإصلاحية وأنصار الشرعية الدستورية يتهموننا بالتطرف والمغالاة. واليوم يتهموننا بركوب الثورة والوصاية عليها. يقول المثل "إن لم تستح..."!

سمير حمودة
6 مارس
2011

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة