صوت الشعب: اللسان المركزي لحزب العمال الشيوعي التونسي: العدد 287 فيفري 2011




استقالة الغنوشي، خطوة إيجابية في اتجاه إسقاط الدكتاتورية
الثورة التونسية: طابعها، آفاقها ومعيقات تطورها
مصطلحات الثورة
لتستكمل الثورة مهامها
سمير حمّودة: التعبيرات الاجتماعية لـ"حكومة الغنوشي ـ فيلدمان"
المهمة الملحّة لإنقاذ الثورة
هل رحل بن علي؟
بيان: الشعب الليبي الشقيق يثور على النظام القذافي المتخلف
حتى نحقق ثقافة ديمقراطية
حصاد المطر... أم حصاد النّضال؟
استقالة الغنوشي، خطوة إيجابية في اتجاه إسقاط الدكتاتورية

قدّم محمد العنوشي مساء يوم الأحد 27 فيفري، استقالته من الحكومة. وجاءت هذه الاستقالة بعد سلسلة من الاحتجاجات عمّت مختلف جهات البلاد وعرفت أوجها في الأيام الثلاثة السابقة لإعلان هذه الاستقالة، حيث اعتصم عشرات الآلاف في ساحة القصبة بالعاصمة وفي عدة مدن مثل صفاقس وسوسة وسيدي بوزيد والقصرين وغيرها. وقد واجهت حكومة الغنوشي هذه الاحتجاجات السلمية بالقمع وترويج الإشاعات ونشر الميليشيات وأعوان البوليس السياسي لتخريب نضالات الشعب التونسي والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة. وقد وصل الأمر إلى حد إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين مما تسبب في وفاة عدد من المحتجين انضافوا إلى بقية الشهداء الذين سقطوا برصاص بن علي وببقايا نظامه.

إن حزب العمال يعتبر استقالة الغنوشي انتصارا آخر للشعب التونسي وخطوة هامة في نضاله من أجل إسقاط الدكتاتورية بعد أن تمكن من إسقاط الدكتاتور، ويتقدم الحزب بأحرّ التعازي إلى عائلات الشهداء ويطالب بفتح تحقيق جدي في ما حصل في الأيام الأخيرة لتحديد المسؤوليات وإحالة القتلة والمجرمين على القضاء المستقل لينالوا ما يستحقونه من عقاب. ويندد الحزب بعدم جدية الحكومة في فتح ملف شهداء الثورة وإحالة من قاموا بالقتل أمرا وتنفيذا على القضاء.

إن حزب العمال يعتبر أن استقالة الغنوشي جاءت متأخرة وكان من المفروض أن تتم منذ الأيام الأولى التي نادى فيها الشعب التونسي باستقالته وباستقالة حكومته، لكن هذه الحكومة رفضت الاستجابة لمطالب الشعب وتمادت في سياستها اللاشرعية ضاربة بمطالب الشعب عرض الحائط وهذا يؤكد أن القوى الرجعية والمضادة للثورة متمسكة بمصالحها وغير مستعدة للتنازل عنها بدون نضال وبدون تضحيات.

كما أن حزب العمال يعتبر أن استقالة الغنوشي غير كافية ويطالب باستقالة كل الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية تحظى بثقة الشعب ونابعة من ثورته المجيدة وقادرة على تحقيق أهدافها. وهذا لن يتم إلا بتشكيل حكومة توافقية في نطاق "المجلس الوطني لحماية الثورة" الذي يضمّ أغلب القوى السياسية والمدنية، وفي نطاق أيضا مشاورات مع كل القوى الثورية في البلاد على المستوى الوطني وعلى مستوى الجهات. وهذه الحكومة ستتولى السهر على تنظيم الحياة العامة للمواطنين وتصريف شؤونهم اليومية بالإضافة إلى تهيئة الظروف لانتخاب مجلس تأسيسي لصياغة دستور جديد للبلاد وبناء النظام الديمقراطي الجديد وفقا للإرادة الشعبية.

إن حزب العمال يحمّل السلطة الحالية المسؤولية كاملة عن كل ما يحصل في البلاد من فوضى وقتل واعتداء على الأملاك لأنها تتمادى في تجاهلها لمطالب الشعب وفي مقدمتها استقالة كل الحكومة، وحل كل المؤسسات الصورية التابعة لنظام بن علي (التجمع الدستوري الديمقراطي، مجلس النواب، مجلس المستشارين، المجالس البلدية...) وتفكيك المنظومة القمعية التي لا تزال تنشط بكل فعالية (البوليس السياسي، الميليشيات...)، وإبطال العمل بالدستور الحالي وبكل القوانين المعادية للحريات وللديمقراطية، وتشكيل حكومة مؤقتة تشرف على انتخاب مجلس تأسيسي يؤسس للنظام الديمقراطي الجديد.

وقد أكدت السلطة الحاكمة حاليا أنها لا تزال متمادية في هذا النهج من خلال تعيين رئيس حكومة جديد لم يكن له أي دور في الثورة. وقد تم هذا التعيين دون تشاور مع القوى الثورية في البلاد. وحزب العمال يعتبر هذا الإجراء غير كافي ولن يحل المشكلة وهو ما عبر عنه المعتصمون في القصبة منذ سماعهم بخبر استقالة الغنوشي وتعيين الباجي قائد السبسي خلفا له، إذ رددوا شعارات معادية لهذا التوجه: "مسرحية... مسرحية... والحكومة هي هي"، و"يا حكومة استقيل راهو الشعب عندو البديل".

إن حزب العمال يدعو الشعب التونسي بكل فئاته، وخاصة الشباب، إلى مواصلة النضال بكل حزم والتزام اليقظة الدائمة تجاه كل المناورات التي تحاك ضد الثورة التونسية من طرف القوى الرجعية في الداخل والخارج، هذه القوى التي لا مصلحة لها في نجاح هذه الثورة لأنها تعرف أن هذا النجاح سيهدد مصالحها وسيشجع بقية الشعوب في المنطقة العربية والإسلامية وفي بقية العالم على النسج على منوالها.

- تحيا الثورة... تسقط الدكتاتورية...
- لنواصل النضال من أجل استكمال مهام الثورة.

حزب العمال الشيوعي التونسي
28 فيفري 2011

الثورة التونسية: طابعها، آفاقها ومعيقات تطورها

يحق للشعب التونسي أن يفخر بإنجازه التاريخي العظيم، بثورته على نظام بن علي، على الاستبداد الذي مثـّل وعلى امتداد أكثر من 20 سنة واحدا من أعتى النظم الدكتاتورية في العالم. وقد باتت ثورة الكرامة التونسية اليوم مضرب الأمثال ونموذجا يلهب مشاعر وطاقات شباب الوطن العربي والعالم وشعوبه التواقة للحرية والكرامة. فعلى منوالها نسج الشعب المصري الشقيق وأطاح بالطاغية مبارك. وها هي جماهير البحرين واليمن وليبيا والجزائر والمغرب والسودان والعراق تهبّ للشوارع لتسير نحو نفس الهدف، التخلص من أنظمة الفساد والقهر والعمالة.

لقد كان الشعب التونسي أيّاما قليلة من تاريخ احتراق الشهيد البطل محمد البوعزيزي يبدو وكأنه مستكين خانع ولا مبال بالقهر والظلم والاستغلال الذي ألحقه به نظام بن علي، حتى ذهب في ظن الكثير من المثقفين ضيقي الأفق إلى نعته بأنكى النعوت. ولكنه وكما سبق له أن فعل في الستينات والسبعينات (جافي 1978) والثمانينات (ثورة الخبز) هبّ وبصورة مفاجئة ليقول لا للظلم والقمع غير آبه لا بالبوليس ولا بالرصاص الحيّ. فمن سيدي بوزيد شبّ حريق الاحتجاج ليعمّ جميع المدن المجاورة (المكناسي، منزل بوزيان، الرقاب...). ومن ولاية سيدي بوزيد توسّعت الانتفاضة إلى القصرين وتالة ومن ثمة إلى سليانة فالكاف فجندوبة... ولم تهدأ حتى دخلت تونس العاصمة بأحيائها الشعبية وخاصة "حي التضامن" فتحوّلت هذه الانتفاضة إلى ثورة حقيقية، ثورة شعبيّة عارمة لتنادي برحيل بن علي وإسقاط نظامه.

1 – ثورة ديمقراطية

تتحدّد طبيعة كل ثورة بطبيعة القوى الاجتماعية التي شاركت فيها وكانت لها مصلحة فيها وبالأخصّ تلك التي لعبت فيها الأدوار الأساسية. كما تتحدّد بطبيعة البرنامج الذي انقادت به، أي الشعارات والأهداف التي رسمتها لنفسها (بصورة واعية أو عفوية) وأخيرا بطبيعة القيادة السياسية التي نظمتها وأطـّرتها وقادت أطوارها.

إن الثورة التونسية لم تتخذ طابعا طبقيّا معينا، ولم تضطلع فيها طبقة من الطبقات لوحدها بالدور الأساسي. فهي من هذه الناحية كانت من صنع جميع الطبقات والشرائح الشعبية المتضرّرة من سياسة النظام الدكتاتوري لبن علي. فإلى جانب الشباب المعطل عن العمل في سيدي بوزيد والقصرين وباقي الجهات فقد لعبت شرائح الموظفين (رجال التربية وغيرهم) والمحامين وعمال المؤسسات الصناعية والخدماتية وصغار التجار والحرفيين وحتى شرائح واسعة من سكان الأرياف والشباب الطلابي والتلمذي وأصنافا أخرى من الأجراء كالصحافيين وغيرهم، لعبوا كلهم دورا هاما في انتشار حركة الانتفاضة واحتدامها حتى تحولت إلى عصيان مدني وثورة شعبية عارمة ضمت الرجال والنساء والشباب والعائلات جنبا إلى جنب في المظاهرات والمسيرات والمواجهات مع قوات البوليس وعصابات الميليشيا الدستورية.

وعلى خلاف ما يدّعي الكثير من مردّدي الخطب البرجوازية الإصلاحية، فإن هذه الثورة لم تكن ثورة عفوية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لأنها سرعان ما رفعت شعارات سياسية واضحة رغم أنها انطلقت في البداية بمطالب اجتماعية جزئية (حق الشغل). ومن هذه الشعارات السياسية "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" و "لا لا للطرابلسية الي نهبو الميزانية" و"ثورة ثورة مستمرة وبن علي على بره"، و"بن علي يا جبان شعب تونس لا يهان"، "حريات حريات لا رئاسة مدى الحياة"، إلخ. وهي شعارات طرحت إسقاط النظام وشهّرت بنظام المافيا والفساد وطالبت بالقضاء على الاستبداد ونادت بالحريات. وقد لعب العنصر الثوري والتقدمي من نشطاء الحركات السياسية اليسارية والقومية العاملين في النقابات وفي منظمات حقوق الإنسان والحركة الطلابية والتلمذية ومن العاطلين عن العمل دورا بارزا في بث هذه الشعارات السياسية الواضحة وفي رفع مستوى الوعي أثناء الاحتجاجات من مجرد مطالب اجتماعية أو تعابير احتجاج وتذمّر إلى مطالب سياسية تستهدف نظام الحكم ونمط التنمية المتبع وتنادي بالديمقراطية والحريات وبالتنمية العادلة.

ويمكن القول، أن الثورة التونسية لم تكن ثورة عفوية، بمعنى ثورة احتجاج من دون أفق وأهداف، بل على عكس الدعايات الرائجة، فقد كانت ثورة واعية بمصالحها وبأهدافها واستماتت في الدفاع عنها رغم القمع والإيقاف والقتل وكل أشكال التنكيل ورغم المناورات ومحاولات الالتفاف والمغالطة (خطب بن علي، محاولات حزب التجمع ووسائل الإعلام وحتى بعض المعارضين الإصلاحيين الذين ساروا في ركاب بن علي أيام الثورة).

لكن، وإن كانت الثورة واعية من حيث طرحها السياسي وبرنامجها العام المعبّر عنه في الشعارات والأهداف، فإنها من ناحية التنظيم، وخاصة التنظيم والتخطيط المركزي أي من حيث القيادة، كانت بالفعل عفوية لأنها لم تسر تحت توجيه قيادة سياسية موحدة ومنظمة بقدر ما سارت إمّا بكامل العفوية (خاصة في الأحياء الكبرى في تونس العاصمة) أو تحت قيادات سياسية ونقابية جهوية منفصلة اجتهدت كل واحدة منها وفق المعطيات الخصوصية للجهة وبحسب قدرتها على التأثير والقيادة. ورغم أن وسائل الاتصال الحديثة (الهاتف والأنترنيت...) قد ساعدت بشكل كبير على انتشار المعلومات والأخبار وحتى على تنظيم التحركات وعمليات المساندة أحيانا فإنها مع ذلك لم تكن لتفوّض دور القيادة السياسية المنظمة والممركزة للثورة.

ومعلوم أن هذه النقيصة الكبرى توعز لتخلف الحركة السياسية في تونس بشكل عام ولتخلفها خصوصا عن الانتفاضة. فالحركة السياسية المعارضة، أحزابا وتنظيمات، كانت، ولأسباب تاريخية وسياسية معروفة، تعاني من الانحسار والتشتت والانقسام.

لقد عمل بن علي منذ مجيئه للحكم إثر انقلاب 7 نوفمبر على تهميش أحزاب المعارضة وعزلها عن الحركة الاجتماعية، وعلى بث التناحر والانقسام فيما بينها بل وذهب إلى إثارة القلاقل داخل كل حزب علاوة على تدجين كل الأحزاب المعترف بها تقريبا إما بربطها بعجلة نظامه وتحويلها إلى واجهة ديكورية للدكتاتورية التي أقامها أو بمحاصرة كل من حاول منها الحفاظ على حد أدنى من الاستقلالية والنقد تجاه نظامه. أمّا الأحزاب غير المعترف بها فقد ألحق بها سلسلة من حملات القمع المتتالية التي أنهكتها وأجبرتها على العمل في السرية المطبقة وضرب حولها حصارا بوليسيا مشدّدا ومنعها من أبسط أشكال التعبير والاتصال والعمل. وفي مثل هذه الأجواء عاشت كلّ أحزاب المعارضة (بما في ذلك الموالية لبن علي) تحت وطأة الانغلاق السياسي والإعلامي التام ولم تكن بالتالي مهيأة لأبسط المعارك السياسية بما في ذلك الانتخابية منها، فما بالك للتأثير أو قيادة تحركات وانتفاضات اجتماعية جماهيرية كبرى من قبيل انتفاضة الحوض المنجمي أو ثورة الكرامة الأخيرة.

غير أنه لا بدّ من القول أيضا أنه علاوة على هذه العوائق الموضوعية، فإن الغالبية العظمى من أحزاب المعارضة كانت تفتقد لبرامج تغيير حقيقية وشاملة وكانت تركز أساسا على الجوانب السياسية مهملة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لذلك بدت كأحزاب ليبيرالية غير مرتبطة، حتى من حيث الأطروحات، بشرائح الشعب المفقر. بل أن الكثير منها كان يقرّ ويروّج للمعجزة الاقتصادية التونسية حاصرا بذلك إخفاقاته مع نظام بن علي في مسألة الحريات فقط. ولم تكن قوى اليسار بأفضل حال، ذلك أن بعض حساسياته وتياراته تحوّلت إلى فعاليّات نقابيّة منغمسة في صراعات المواقع داخل الجهاز البيروقراطي للاتحاد العام التونسي للشغل ومنحصرة في أحسن الحالات في المطالب المادية والمهنية الجزئية منصرفة عن قضايا المجتمع والحكم حتى غدا نوعا من البيروقراطية الناشئة. أما بعضها الآخر فقد انحاز، حين استشعر أهمية النضال السياسي العام، إلى الجبهة الإصلاحية جاعلا من فزّاعة "الإسلاميين" ذريعة للتغطية على نزعته الإصلاحية المتهافتة.

وبمثل هذه التوجهات وهذه المعنويات لم تأخذ هذه الطائفة من الأحزاب والحساسيات السياسية الإنذار الذي وجهته حركة الحوض المنجمي مأخذ الجدّ ولم تقرأ في تتالي الاحتجاجات من فريانة إلى بن قردان مرورا بالصخيرة وجبنيانة وغيرها ما ينبئ باحتمال انفجار الأوضاع الاجتماعية وقيام الثورة في تونس. لذلك لم تعدّ نفسها بصورة مسبّقة لهذه التطورات التي كانت كل الدلائل تشير إلى حتمية قيامها.

أما حزب العمال رغم كونه تنبأ بهذه الانتفاضة ونبه إلى حتمية انفجارها منذ ما يزيد عن سنة وأكد مجددا على قرب اندلاعها (انظر افتتاحية "صوت الشعب" عدد نوفمبر 2010 بعنوان "الحركة الاجتماعية تطل برأسها"، وأعد مناضليه لذلك من جميع النواحي السياسية والإيديولوجية والتنظيمية والأجنبية، فإنه لم يكن قادرا لوحده على تأمين قيادة سياسية مركزية فاعلة للثورة لمحدودية إمكانياته البشرية والعملية للعوامل الموضوعية والتاريخية التي سبق ذكرها.

وخلاصة القول فإن الثورة التونسية وفي غياب القيادة السياسية الواعية الماسكة بكل أدوات ومقومات التأطير فيها والتأثير والترجمة ونظرا بمحدودية دور الطبقة العاملة فيها واعتبارا للدور الذي لعبته بقية الشرائح الأخرى الكادحة البرجوازية الصغيرة المدينية والريفية في مجرياتها، كانت ثورة برجوازية صغيرة ديمقراطية استهدفت الدكتاتورية، أي لم يتجاوز سقفها تغيير شكل الدولة من شكل استبدادي فاشستي إلى شكل ديمقراطي يتراوح بين الشكل الديمقراطي الشعبي والشكل الديمقراطي البرجوازي الليبرالي. ولا يزال يجري حتى اليوم صراع مرير بين الرؤيتين اللتين بينهما توزعت القوى السياسية توزيعا جديدا.

2 – آفاق الثورة:

ما تزال الثورة في تونس في منتصف الطريق إذ أسقطت الدكتاتور بن علي ولم تسقط بعد أركان الدكتاتوري كنظام، ذلك أن الأجهزة التي حكم بها بن علي من مجلس نواب ومجلس مستشارين (رغم تجميدهما شكليا) ومن جهاز الحزب الدستوري والبوليس السياسي والأجهزة الإدارية على صورتها القديمة، لا تزال قائمة وهي تحاول اليوم العودة للعمل تحت الحكومة الحالية، حكومة الغنوشي المعززة بحزبي "الديمقراطي التقدمي" و"التجديد".

وفيما يحاول الشعب وقواه الثورية والديمقراطية العمل على استكمال هذه الثورة لتحقق كل أهدافها، تحاول الرجعية المتمثلة في بقايا النظام القديم معتمدة على التحالف الجديد مع حزبي "التجديد" و"الديمقراطي التقدمي" وبمساعدة خفية من دوائر أجنبية (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وليبيا) الالتفاف عليها وإجهاضها والاكتفاء بالتنازل عن بعض الإصلاحات الجزئية الظرفية.

إن ثورة الشعب التونسي في مفترق الطرق بين خيارين أساسيين، إما المضي قدما في تحقيق أهدافها وإما الخضوع لمخطط الالتفاف والإجهاض الذي تنفذه الحكومة تدريجيا بالتغاضي لا فقط عن مطالب الثورة الأساسية وإنما أيضا بالتراجع حتى عن بعض القرارات التي اضطرت لاتخاذها تحت وطأة الضغط الشعبي مثل حل الحزب الدستوري وتعقب ومحاكمة رموز النظام البائد، إلخ.

وليس خاف عن أحد أن دفـْع الثورة إلى الأمام وإفشال هذا المخطط يقتضي اليوم مزيدا من الضغط الشعبي والإصرار أكثر على إسقاط هذه الحكومة للانطلاق في مسار جدّي للإعداد وتنفيذ برنامج التغيير الديمقراطي الحقيقي.

صحيح أن التحاق حزبي "الديمقراطي التقدمي" و"التجديد" وبعض الوجوه المحسوبة على المعارضة والاستقلالية كوزير التربية الحالي الطيب البكوش أو وزير العدل لزهر الشابي كان قد لعب دورا خطيرا في مغالطة الرأي العام الوطني وإرباك جزء من فعاليات الثورة.

صحيح أن الدور المخزي للبيروقراطية النقابية في اتحاد الشغل الذي لعب أمينه العام عبد السلام جراد دورا تخريبيا لجرّ هيئته الإدارية لاتخاذ مواقف مساندة للحكومة كان هو الآخر قد بثّ الكثير من الأوهام والغموض حول الحكومة الجديدة.

صحيح أن ارتباك وتردّد الكثير من فعاليات المجتمع المدني وبعض مناضلي الجهات حيال الحكومة الجديدة قد أضفى عليها ولو لفترة قصيرة نوعا من المصداقية وبثّ الوهم حول إمكانية أن تكون الحل لإعادة الاستقرار والأمن ولعودة الحياة العامة لمجراها الطبيعي ولإجراء التغيير الديمقراطي في تونس.

لقد شكـّل تعيين الحكومة الجديدة عاملا كبيرا في تراجع حركة الاحتجاج الميداني في الشـّارع طوال الأسابيع الأخيرة. ولكنّ العديد من ممارسات وقرارات هذه الحكومة، مثل الهجوم القمعي الفاشستي على اعتصام القصبة الذي دشنت به عهدها وتهجمات وزير التربية على سلك الأساتذة وتعيين ولاة جدد من التجمع الدستوري الديمقراطي وتعيين رؤساء اللجان الثلاث (الإصلاح السياسي، تقصي الحقائق حول الفساد والتجاوزات الأمنية)، كل هذه الممارسات والقرارات وغيرها عجلت في كشف حقيقتها كحكومة معادية للثورة رغم كل الجهود التي يبذلها نجيب الشابي وأحمد إبراهيم والطيب البكوش والغنوشي لمغالطة الشعب. لذلك هبّتْ الجماهير مجدّدا لطرد الولاة التجمعيّين ووزير الخارجيّة (أحمد ونيّس)، واستمرّت في محاصرة رموز التجمّع في الإدارات والمؤسسات، وواصلت تركيز اللـّجان الجهويّة والمحلية لصيانة مكاسب الثورة، ونظمت المسيرات والاحتجاجات وقوافل التضامن والشكر للجهات الأكثر تضررا من أحداث قمع الثورة، ودعت مجددا لحل "التجمع الدستوري" وتصفية أملاكه ومقراته وحل الحكومة، ورفضت اللجان الصورية والفوقية. ويتخذ نسق هذه الأعمال شكلا تصاعديا حتى عاد اليوم شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" إلى صدارة الاهتمامات والمطالب والتحركات. وفي خضم هذه التطورات الهامة تحسن دور المعارضة السياسية، أحزابا وجمعيات ومنظمات، لعل أبرز ما يدل على ذلك ظهور جبهة 14 جانفي التي قدّمت بديلا سياسيا متكاملا ساهم في جمع كل الفعاليات حول مشروع بعث المجلس الوطني لحماية الثورة.

إن ميلاد "المجلس الوطني لحماية الثورة" يعدّ في حدّ ذاته خطوة سياسية على غاية من الأهمية تعطي لمواجهة الحكومة المنصّبة أبعادا جديدة إذ يقدم بديلا سياسيا وعمليا لتجاوز ما يسمى بالفراغ الدستوري والسياسي علاوة على أنه يشكل عامل ضغط من فوق على الحكومة وأداة سياسية لتوجيه وقيادة الضغوط القاعدية والتعبئة الجماهيرية في الجهات والنقابات وفي قطاع الشباب وكل فعاليات الشارع المحتج حتى إسقاط الحكومة. ويكرّس "المجلس الوطني لحماية الثورة" مبدأ الشرعية الثورية التي حلت محل شرعيّة مؤسسات النظام القديم ويفتح الباب لتجاوز كل الالتباسات حول مشروعية الإجراءات المتخذة أو الواجب اتخاذها لتأمين الانتقال الديمقراطي السلمي نحو نظام ديمقراطي شعبي حقيقي.

فالمجلس الوطني بتركيبته يمثل كل تعبيرات الشّعب، السياسية منها (الأحزاب) والمدنية (الجمعيات والمنظمات) والنقابية (اتحاد الشغل والمنظمات المهنية الأخرى كالمحامين والصحافيين والعاطلين عن العمل) والجهات (المجالس الجهوية لحماية الثورة واللجان) ويشكل بالتالي نوعا من البرلمان المؤقت الممثل للإرادة الشعبية تمثيلا توافقيا يتناسب مع طبيعة الظرف في ظل استحالة تنظيم انتخابات فورية وفي ظل غياب القوانين المنظمة للحياة السياسية الموروثة عن النظام السابق والمنافية لأبسط قيم الحريّة والديمقراطيّة قد جمّد العمل بها.

وبالنظر لخاصيّة هذا المجلس كهيئة نيابيّة توافقية، هي الأقرب في الظرف الراهن لتمثيل فعاليات وتعبيرات الشعب، فإنه يبقى الإطار الأكثر مشروعية لاستصدار الأحكام والقوانين الوقتية لتنظيم الحياة السياسية في المرحلة الراهنة ريثما يقع تنظيم انتخابات المجلس التأسيسي. و"المجلس الوطني لحماية الثورة" هو الإطار المؤهّل بحكم خاصيّاته أيضا لتعيين الحكومة الجديدة التي بدورها أن تحوز على قبول كل فعاليّات وتعبيرات الشعب وتكون بالتالي قادرة على تصريف شؤون الحياة العامة في المرحلة الانتقالية برضا الشعب ومساندتها بما يسمح لها بإعادة بسط الأمن بتعاون شعبي واسع وبإعادة تنشيط أجهزة الإنتاج والتجارة وكامل الدورة الاقتصادية وتنظيم الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والرياضية دون تعطيل أو معارضة.

لقد اهتدت الثورة أخيرا بعد مرحلة من التردّد والشكّ إلى توفير الأداة والمدخل لحسم الصراع الدائر بين إرادة استكمال مهام الثورة وبين إصرار قوى الردة على إجهاضها. فالمجلس الوطني لحماية الثورة هو اليوم المدخل إلى المرحلة الجديدة، مرحلة فض كل أشكال التلاعب "الدستوري" والحلول المتخذة على مقاس حكومة بقايا النظام القديم. وهو المدخل لتسيير المرحلة الانتقالية تشريعا وتنفيذا عبر مراقبة الحكومة أو حلها وتعويضها بأخرى مقبولة من قبل الشعب وهو المدخل أيضا لإعداد الانتخابات القادمة.

وسيكون من الوجاهة بمكان أن يضفي الرئيس المؤقت على هذا المجلس الطابع "الشرعي" بالتصديق عليه هذا إذا كان فعلا قابلا بانتقال السلطة بصورة سلمية وتجنيب البلاد حالة من الازدواجية في السلطة مع ما قد ينجر عن ذلك من تطورات خطيرة. أما إذا خضع الرئيس المؤقت إلى ضغوط حكومة الغنوشي ورفض "تشريع" المجلس فإن هذا الأخير سيضطر إلى أن يفرض مشروعيته بالقوة معتمدا على قبول الشعب به، فعاليات سياسية وجمعياتية وجهوية.

إن الحكومة الحالية لا تستند إلا إلى بقايا الأجهزة القديمة لنظام بن علي مدعومة بالأموال المكدسة لديها وبمساندة ودعم الدوائر الأمريكية والأوروبية، ولكنها بالمقابل تفتقد للشرعية والمساندة الشعبية.

أمّا المجلس فإنه كسلطة جديدة يستند إلى الشرعية الشعبية التي تمثلها الأحزاب والجمعيات والمنظمات والجهات واللجان والمجالس الشعبية. ورغم أنه يفتقد للأجهزة الإدارية الرسمية وللأموال التي في حوزة الحكومة الحالية فإن مساندة الشعب له تبقى هي العنصر الحاسم في الصراع الدائر الآن والذي من المنتظر أن يحتدم أكثر في الأيّام القادمة.

وتؤكـّد حالة نهوض حركة الاحتجاج الجديدة التي دشـّنها اعتصام القصبة الحالي والتحركات في الجهات وانتشار المسيرات والمظاهرات وتصاعد نسق بعث اللجان والمجالس الجهوية، تؤكد كلها أن حالة اللاحسم التي دامت بضعة أسابيع آخذة في التطور نحو الحسم لصالح المجلس الوطني لحماية الثورة والتمشي الذي وضعه لاستكمال مهام الثورة. ويعتقد أن الفترة القليلة القادمة ستأتي بالجديد في هذا الصدد ومن غير المستبعد أن تجبر الحكومة ذاتها على الانحلال والتلاشي.

3 – معيقات الثورة وعوامل نجاحها:

وتبقى هذه المؤشرات بلا معنى إذا لم يقع تحويلها فعلا إلى شروط مادية لفرض التغيير، إذا لم يقع تكثيف الضغط الشعبي في كل قطاعات الشعب، الشباب والنقابات والجهات والشارع، حتى تضطر الحكومة إلى الإذعان لإرادة الشعب وتحلّ نفسها بنفسها فاسحة المجال إلى حكومة تحظى بثقة الشعب وقادرة على بسط الاستقرار والهدوء وتصريف شؤون المواطنين وتعد بسرعة شروط تنظيم انتخابات عامة لانتخاب برلمان جديد لنظام سياسي جديد، أي وضع دستور جديد يؤسّس لحياة سياسية جديدة. ومن هنا جاءت صفة "التأسيسي" لهذا البرلمان، لهذا المجلس النيابي.

إن العقبة الأولى في وجه هذه الإمكانية هو الحكومة الحالية المتمترسة في كراسيها متعللة بالشرعية. ونتساءل هنا من أين استمدت هذه الحكومة شرعيتها؟ هل استمدتها من الشعب؟ أم من القانون؟ أم من مؤسسات نظام بن علي؟ وللجواب على ذلك لا بدّ من القول أن الشعب أكد ويؤكد اليوم مجددا أنه غير قابل بهذه الحكومة ولا هو راض عنها وليس أدل على ذلك من الاعتصامات والمظاهرات والمسيرات التي هي الآن بصدد الانتشار في كل مكان منادية بإسقاط النظام وإسقاط الحكومة. وقد سبق للشعب أن عبّر عن استيائه من التشكيلة الحكومية إبّان الإعلان عنها. وجاء هذا الرفض في تحركات الجهات وتشكيل اللجان الخارجة عن سلطة الحكومة كما جاء في رفض الولاة الذين عيّنتهم. وحتى المنظمات التي زكـّت الحكومة، مثل عمادة المحامين واتحاد الشغل فقد استنكرت قواعدها هذه التزكية ولقيت قيادتهما نقودا حادة من منخرطيها ممّا أجبر هيئة المحامين على إصدار موقف ثان مناقض لموقف التزكية، موقف رافض للحكومة. وأجبرت قيادة الاتحاد على التراجع تدريجيا عن موقفها المساند للحكومة والعودة مجددا إلى العمل ضمن الأحزاب والجمعيات والمنظمات المطالبة بمجلس وطني لحماية الثورة. فمن أين إذن استمدت الحكومة شرعيتها؟ هل من القوانين الحالية؟ إذا كان الأمر كذلك لا بدّ من التذكير أن الثورة قد وضعت ترسانة القوانين بما في ذلك الدستور جانبا باعتبارها قوانين موروثة عن نظام بن علي، أي قوانين الدكتاتورية التي رفضها الشعب. فالاستناد إلى هذه القوانين هو نفي للثورة وتشبث بأسس العهد البائد وهو تبرير مرفوض لمشروعية مرفوضة. أما إذا كان الادعاء بالشرعية يستند إلى مؤسسات النظام السابق فهو كذلك طغى في الثورة وتشبث بالنظام القديم والحال أن الشعب نادى ولا يزال ينادي بحل هذه المؤسسات من مجلس النواب إلى مجلس المستشارين إلى جهاز التجمّع الدستوري الديمقراطي وجهاز البوليس السياسي والمجالس الجهوية والبلدية المنصبة. إن كل هذه المؤسسات مرفوضة من الشعب ومطعون في شرعيتها ولا يمكن أن تكون سندا لشرعية الحكومة. وعليه فإن الحكومة الحالية حتى وإن ضمت في صفوفها أحزابا وقفت بهذا الحد أو ذاك ضد نظام بن علي، حكومة غير شرعية وتشبثها بهذا الادعاء وإصرارها على البقاء هو شكل من أشكال التصعيد وتعمد استبقاء التوتر ومثار لمزيد الاحتجاج والتمرد الأمر الذي سيزيد من تعطيل الحياة العامة والحركة الاقتصادية.

وتتحمل الحكومة الحالية تبعات هذا التصعيد وكل الانعكاسات السلبية لا فقط على النظام العام بل وكذلك على شروط الحياة المادية للشعب والبلاد في توقف الحياة الاقتصادية.

وتمثل حملات الإعلام المنظم حول فزّاعة "الفراغ" واحدة من عوائق تطور الثورة وبلوغ أهدافها، لأن هذه الحملة التي تبث المغالطات والخوف في صفوف الشعب رغم فشلها إلى حد الآن في ذلك، تهدف إلى تقسيم الشعب وربما إثارة نوع من الاقتتال داخله والتنحي عن ثورته وأهدافها.

وعلاوة على ذلك فإن هذه الحملة عادت لتوظف مجددا وسائل الإعلام لصالحها وإقصاء الرأي المخالف وتجديد أساليب الدعاية القديمة التي مارسها نظام بن علي. ولولا استمرار الضغط لذهبت الحكومة بعيدا في إجراءاتها لمحاصرة حرية التعبير علما وأنها حالما أعلنت عن تشكيلتها أصدرت أوامرها للقنوات التلفزية والإذاعية والجرائد بالتركيز على الدعاية لها والتضييق على الرأي المخالف لها. وليس من باب الادعاء القول أن الشعب تفطن مبكرا لهذا التحول السلبي في أداء وسائل الإعلام، الأمر الذي جعل الكثير من الناس يرفض بعض وسائل الإعلام ويطردها ويمنعها حتى من تغطية بعض التحرّكات والأنشطة.

إضافة إلى ذلك تستعمل الحكومة الحالية أشكالا أخرى متعددة لعرقلة تطور الثورة. من ذلك استعمالها للمال العام بشكل زبوني وحث المؤسسات المالية العمومية والأجنبية على دعمها ماليا، وهو ما كشف بسرعة عن حقيقتها كحكومة مأجورة ومرتبطة بالخارج. ونلاحظ اليوم تكثيف أمريكا وأوروبا وخاصة فرنسا من تدخلاتها من أجل تمويل حكومة الغنوشي حتى تتمكن من التغلب على مصاعبها المالية وإرضاء قطاعات من المحتجّين حتى تصرف النظر عن موقفها السّياسي الرافض لها.

ولكن الشعب التونسي أبدى درجة عالية من النضج وأدرك مقاصد كل هذه المحاولات لإعاقة الثورة. فبعد مدة قصيرة من الارتباك والتردد عادت الحركة لسالف حيويتها لتطالب مجددا بحل الحكومة وإسقاط النظام مسلحة هذه المرة ببديلها العملي لما يسمّى بالفراغ وبتمشّي متكامل حتى إقامة مؤسسات النظام الجديد. وتستدعي هذه العودة تصعيد التعبئة الشعبية في الجهات ولجانها ومجالسها لحماية الثورة وفي قطاعات الشباب والنقابات والمحامين وفي الشارع الشعبي ككل فالنصر بات قريبا.

تونس في 21 فيفري 2011

مصطلحات الثورة

يرفع الشعب التونسي جملة من الشعارات تحاول الدعاية الرسمية التشويش عليها بجملة من المغالطات والتشويهات لبثّ الغموض حولها ولصرف انتباه الجماهير عنها ولزعزعة القناعة بأحقيّتها وصدقها. ومن هذه الشعارات:

1 – المجلس الوطني لحماية الثورة:

أ - تعريفه

هو هيئة تمثل كل الفعاليات المناضلة التي تتبنى أهداف الثورة ومنخرطة في النضال من أجلها كل من موقعه وحسب طاقته ووسائله وفي مجال اختصاصه ووجوده. وهذه الفعاليات هي الأطر والمواقع التي تنظمت فيها قطاعات وشرائح وأصناف اجتماعية ومهنية من أبناء الشعب، الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات واللجان والمجالس والرابطات والمنتديات بما في ذلك المجموعات الناشطة على شبكة الأنترنيت.

هذه الهيئة تتركب من ممثل أو ممثلين عن كل فعالية من هذه الفعاليات تنادت بطواعية وتلقائية إلى الاجتماع والحوار ولبعث هذه الآلية التي دون اللجوء إلى الانتخابات تشكل نوعا من الإطار النيابي الممثل لشرائح واسعة من الشعب، وخاصة الشرائح الناشطة والفاعلة في الحياة السياسية. ولم تلجأ هذه القوى لانتخاب "المجلس الوطني لحماية الثورة" لسببين، أولهما لأن الظروف العامة لا تسمح بعد بإجراء انتخابات. وثانيا بسبب غياب قانون انتخابي جديد يؤطر العملية الانتخابية، لأن القانون الانتخابي القديم غير ديمقراطي وقد جمّد العمل به. فالقانون الذي اعتمدته هذه الهيئة هو التوافق بين أعضائها على أرضية سياسية مشتركة حول مطالب وأهداف الثورة.

ب - صلاحياته

"المجلس الوطني لحماية الثورة"، وفي غياب هيئات منتخبة ولأنه يضم كل القوى، يتمتع بالصلاحيات التي تتمتع بها الهيئات الممثلة التي تستطيع استصدار الأحكام القانونية الرسمية التي تستوجبها الظرفية الانتقالية. لذلك من صلاحيات المجلس إصدار القوانين المؤقتة لسد الفراغ إلى غاية انتخاب هيئة جديدة شرعية تستمد شرعيتها من صندوق الاقتراع. وإلى جانب إصدار القوانين الوقتية فإن المجلس باعتباره الهيئة الأكثر تمثيلية، بل الهيئة الممثلة الوحيدة في الظرف الراهن، له حق مراقبة كل الهيئات المكلفة بتنفيذ القوانين التي يصدرها. وأولى هذه الهيئات التنفيذية هي الحكومة المؤقتة. ومراقبة الحكومة تعني أن يصادق المجلس على القرارات والتعيينات والإجراءات التي تتخذها لتنظيم وتصريف الشؤون العامة طوال الفترة الانتقالية.

وعلاوة على ذلك يمكن للمجلس أن يبعث بعض هياكل التفكير والدراسة مثل اللجان التي تدرس وتقترح مشاريع قوانين (دستور، قوانين أخرى) لتكون جاهزة وتعرض على المجلس التأسيسي الذي ستفرزه الانتخابات القادمة. وتكون هذه اللجان تحت نظر المجلس، يعيّنها ويتابع أعمالها ويحدّد صلاحيّاتها ومجالات اختصاصها.

ج – مدته

تمتد مدة وجود المجلس على طول الفترة الانتقالية أي من تاريخ بعثه (بعد سقوط نظام بن علي) إلى يوم تنظيم الانتخابات العامة القادمة. وبانتخاب مجلس نواب جديد ينحل مجلس حماية الثورة من تلقاء نفسه لأنه بوجود مجلس نواب جديد لم يعد هناك من مبرر لوجوده. فمجلس النواب الجديد، الذي تنبثق عنه حكومة جديدة، يصبح إلى جانب الحكومة مع جملة من المؤسسات والقوانين الجديدة، المسؤول على حماية مكاسب الثورة وتجسيدها.

د - الاعتراف به

بتشكله يكون المجلس قد حاز على مصادقة واعتراف القوى المكونة له، الأحزاب السياسية المشاركة فيه وقواعدها، والجمعيات ومنخرطيها والمنظمات الجماهيرية كاتحاد الشغل ومنخرطيه وعموم العمال واللجان والمجالس في الجهات والأعضاء والجماهير التي تعمل في إطارها والرأي العام الذي يقبل به. وإلى جانب ذلك حبذا لو تعترف به السلطة، رئيسا وحكومة، إذا كانت فعلا ترغب في تسليم السلطة بصورة سلمية لهذه الفعاليات التي تمثل قطاعات واسعة من الشعب حتى تجنب البلاد أي منزلق نحو التناحر والاقتتال، وهكذا يصبح المجلس حائزا على ما يشبه الإجماع في البلاد.

لكن إذا رفضت السلطة الموافقة على وجود المجلس فإنه سيكون مضطرا لفرض نفسه كأمر واقع بحكم أنه يحظى بموافقة جزء كبير من الشعب طالما أنه يتبنى كل مطامح وأهداف الشعب والثورة. وهو في هذه الحالة يمثل سلطة جديدة موازية لسلطة الحكومة الحالية التي لا تستند لا إلى قطاعات من الشعب ولا تتبنى مطالبه وأهداف ثورته. عندئذ سيتخذ قراراته ويمر إلى تنفيذها وستلقى هذه القرارات موافقة الشعب، سيعين موظفي الدولة (ولاة ورؤساء مديرين عامين وسلكا ديبلوماسيا) سيوافق عليهم الشعب لأنه سيعينهم بناء على موافقة الأحزاب والجمعيات والمنظمات واللجان والمجالس في الجهات، أي سيعين من يحظى بموافقة شعبية. وإذا ما عينت الحكومة ولاة أو مسؤولين آخرين فستتولى اللجان والمجالس الجهوية والأحزاب والجمعيات والمنظمات ومناضليهم طردهم. وهكذا سيفرز الشعب السلطة المقبول بقراراتها من تلك التي لا تحظى بموافقته.

2 – الفترة الانتقالية

أ – تعريفها

هي الفترة الزمنية الفاصلة بين تاريخ سقوط نظام سياسي قديم، له مؤسساته وقوانينه ومسؤولوه ونظام جديد منظم له هو الآخر مؤسساته وقوانينه الجديدة ومسؤولوه الجدد.

الفترة الانتقالية التي تمر بها بلادنا اليوم هي الفترة التي بدأت من يوم 14 جانفي، يوم سقوط نظام بن علي وتفكك أجهزته (حكومة ومؤسسات نيابية وحزب التجمع، إلخ.) وستنتهي يوم تنظيم انتخابات عامة لانتخاب مجلس تأسيسي (برلمان).

ب – خاصيّاتها

من خصائص هذه الفترة أن القوانين والأحكام التي كان الناس يقبلون بسلطتها ويخضعون لها تتوقف عن العمل والنفاذ، وتعوّضها معايير تعامل جديدة يفرضها الشارع. فمثلا حسب القوانين والأحكام القديمة لا يحق لمجموعة من المواطنين التجمّع أو التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة إلا بموافقة وزارة الداخلية. أما اليوم فقد أصبح من حق كل مجموعة من الناس أن تنزل لهذا الشارع لتعبّر وتتظاهر دون أي ترخيص أو موافقة ودون أن يتدخل البوليس لقمعها ولو عنّ له أن يفعل ذلك لواجهه المتظاهرون للدفاع عن حقهم.

إذن خاصية الفترة الانتقالية هي أن الشرعية تتحول من الأجهزة النظامية القديمة إلى الجماهير الشعبية المنظمة في أحزاب وجمعيات ومنظمات مهنية، إلخ. أو غير منظمة، لتمارس بما تراه صالحا دون أن يمنعها أحد، لا لأن الأجهزة القديمة أصبحت تقبل بذلك (لأن هذه الأجهزة إما أنها انحلت أو أصبحت غير ذات فاعلية أصلا) وإنما لأن إرادة الجماهيرية لم تعد تقبل بالخضوع لتلك الأجهزة والمؤسسات وهذه هي الحالة الثورية.

المرحلة الانتقالية هي إذن مرحلة استثنائية (غير منظمة بالمعنى القديم للكلمة) تعمل حسب التوافق السياسي، أي ما يجتمع عليه الشعب بصورة تلقائية مدفوعا بأحاسيسه ومزاجه وبوعيه وإدراكه وبمطالبه. والمرحلة الانتقالية بصفتها مرحلة استثنائية من وجهة نظر القوانين والأجهزة توفر لنفسها أجهزة ومعايير استثنائية لا تقوم على القوانين القديمة وإنما على ما يتفق عليه الشعب بصورة تلقائية. وهذه هي الشرعية الثورية التي تنبني عليها المؤسسات المؤقتة التي يضعها الشعب في حالته الثورية لتصريف شؤون حياته ريثما يضع أسس النظام الجديد الذي يريده.

3 – الحكومة المؤقتة:

هي حكومة يقع تعيينها بحسب الظروف، إما من طرف من يقوم مقام رئيس الدولة إذا كان هذا الأخير لا يزال يتمتع بصلاحيات دستورية أو من طرف هيئة ممثلة جديدة (المجلس الوطني لحماية الثورة مثلا) أو من طرف قيادة الجيش إذا تسلمت الحكم (مثلما حصل في مصر) لتتولـّى تصريف شؤون الحياة العامّة لفترة محدودة في الزمن ريثما يقع إعادة تنظيم جهاز الحكم من جديد. في حالة أخرى يمكن أن تكون الحكومة المؤقتة، حكومة ثورية مؤقتة ويفترض عندئذ أن تكون هناك قوة أو قوى (جبهة) سياسية هي التي دعت ونظمت وقادت الثورة، وحالما تنجح في الإطاحة بالنظام القديم تنتصب كحكم بديل فتشكل حكومة وتستلم كل دواليب الحكم وتسير الحياة العامة وتعدّ العدّة لتركيز أجهزة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي البديل. ومعلوم أن هذه الحالة لا تنطبق على ثورتنا الحالية لأسباب يطول شرحها (انظر: الثورة التونسية ، طبيعتها، آفاقها ومعيقات تطورها في صوت الشعب عدد فيفري 2011).

لكن ومهما كان من أمر فإن إعلان حكومة مؤقتة يعني بالضرورة أن النظام القديم قد سقط وأن حكومته قد انحلت وتأتي الحكومة المؤقتة كحل لملأ الفراغ بصورة مؤقتة. تقوم الحكومة المؤقتة بملأ الفراغ السياسي الذي تركه غياب الجهاز التنفيذي للدولة وتتولى تصريف شؤون المواطنين وحفظ الأمن وسلامة الوطن وتسيير الجهاز الإنتاجي والحياة السياسية والعلاقات العامة التي يفترضها نظام التعايش في المجتمع.

ويمكن لها بحسب الظروف أن تتخذ بعض الإجراءات الوقتية المستعجلة من أجل تجاوز أسباب الأزمة التي أدت إلى انهيار النظام (مثل إطلاق سراح المساجين، إطلاق الحريات العامة والفردية بما يتوافق والوضع الأمني، العفو التشريعي، إلخ.).

ومن جهة أخرى تتولى الحكومة بنفسها أو عن طريق آليات أخرى تضعها أو توافق عليها لإعداد الشروط القانونية والسياسية اللازمة للعودة إلى الحياة الطبيعية. بلغة أخرى تتولى، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، التحضير لانتخابات عامة لانتخاب هيئات الحكم الجديد (البرلمان إلخ..) ووضع القوانين الجديدة لنظام مستقر. وتنتهي صلاحيات الحكومة المؤقتة بانتهاء المرحلة الانتقالية التي ولدتها.

4 – المجلس التأسيسي

هو برلمان ينتخب بالاقتراع السرّي والمباشر من طرف الشعب. وعادة ما يقع انتخاب المجلس التأسيسي إما لأول مرة في نظام لم يكن يتمتع فيه الشعب بحق التمثيل النيابي تماما أو بعد ثورة تكون قد عصفت بنظام قديم لم تكن فيه المؤسسة البرلمانية ممثلة ومطعون في شرعيتها.

وتجري انتخابات المجلس التأسيسي عامة دون الاعتماد على القوانين الموجودة، فيقع تجميد تلك القوانين أو إبطال العمل بها وتتولى هيئات الحكم المؤقتة (المجلس الوطني لحماية الثورة، الحكومة المؤقتة...) وضع أحكام قانونية لتنظيم الانتخابات (قانون انتخابي مؤقت) يضبط شروط الترشح والانتخاب والحملة الانتخابية، ونظام التصويت والفرز والإعلان عن النتائج وتاريخ إجراء الانتخابات، إلخ.

إن أهم ما في هذه الانتخابات أنها تجري على أساس قواعد جديدة تختلف عن قواعد الانتخابات في النظام القديم المطاح به. وحالما يتم انتخاب البرلمان الجديد يتولى وضع دستور جديد لا علاقة له بالدساتير القديمة، دستور يضع أسس النظام السياسي الجديد. لذلك يعتبر هذا البرلمان مجلس تأسيسي لأنه وكما قلنا يؤسس لنظام جديد لا علاقة له بالنظام السابق. ويمكن أن يكون النظام الجديد جمهورية برلمانية أو رئاسية، أي نظام رئاسي أو نظام برلماني أو نظام مختلط بين الرئاسي والبرلماني. ولكل نظام من هذه الأنظمة خاصيّاته.

ومعلوم أن النظام البرلماني هو النظام الأقرب للديمقراطية في أنظمة الديمقراطية البرجوازية لأنه يمنح ممثلي الشعب أي أعضاء البرلمان صلاحيات مهمة لا فقط في وضع الاختيارات العامة للدولة وإنما أيضا في مراقبة الحكومة ومتابعة عملها واتخاذ إجراء سحب الثقة منها إذا حادت عن تلك الاختيارات والبرامج.

أما النظام الرئاسي فهو يعطي صلاحيات أكبر لرئيس الدولة الذي يمكن أن يكون رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس الإدارة مثلما كان الشأن في عهد بن علي. والنظام الرئاسي عادة ما يؤدي إلى قيام نظام الحكم الفردي بالنظر للصلاحيات والأدوار الممنوحة لرئيس الدولة. لهذه الأسباب نادت القوى الديمقراطية في تونس بنظام برلماني لأنها اكتوت بتسلط الحكم الفردي في عهدي بورقيبة وبن علي.

يعمل المجلس التأسيسي لمدة نيابية كاملة (4 أو 5 سنوات حسب ما سيحدده الدستور الجديد). ويتولى خلال هذه المدة بعد وضع الدستور الجديد الذي يمثل القانون الأساسي لنظام الحكم الجديد، وضع بقية القوانين الأخرى المنظمة للحياة العامة السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. وحالما تنتهي مدته يقع تجديده في دورة انتخابية عادية لانتخاب تركيبة جديدة للبرلمان وتنتهي فترة التأسيس بانتهاء الدورة النيابية الأولى التي تولاها المجلس التأسيسي لتعود الحياة في هذه المؤسسة إلى مجراها الطبيعي العادي.

لتستكمل الثورة مهامها

مرّت خمسة أسابيع على سقوط الدكتاتور وفراره من البلاد خوفا من محاسبة الشعب له. ولكن الاقتناع السائد هو أن الدكتاتورية لم تسقط. وتلك هي الحقيقة وذلك هو الواقع. ولا يمكن للثورة أن تنجح دون استكمال هذه المهمة، مهمة إسقاط الدكتاتورية، مؤسسات وأجهزة وتشريعات، حتى يظفر الشعب التونسي بحريته وحقوقه كاملة.

إن المسألة الأساسية في كل ثورة هي مسألة السلطة، وطالما أن السلطة لم تنتقل إلى الشعب الذي قام بالثورة، فإن هذه الأخيرة لم تستكمل مهامها، ولم تحقق أهدافها، في إسقاط النظام القديم ووضع أسس النظام الجديد، الديمقراطي، الشعبي.

إن السلطة في تونس ما تزال بيد بقايا النظام القديم، الدكتاتوري، الرجعي، الذي يمثل مصالح الأقلية البورجوازية الكمبرادورية، المتحالفة مع الشركات والمؤسسات الأمريكية، وهذا التحالف هو الذي له المصلحة في الاستبداد، في حرمان الشعب التونسي من حريته وحقوقه حتى يسهل استغلاله ونهبه.

إن حكومة محمد الغنوشي هي التي تمثل اليوم بقايا النظام القديم، وهي التي تسعى بكل الطرق وبدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى إعادة ترميم هذا النظام مع إضفاء صبغة "ليبيرالية" عليه. إن ما تتخذه من إجراءات وقرارات في كافة المجالات يصب في هذا الاتجاه (تركيبة اللجان، تعيين الولاة ومسؤولي وسائل الإعلام، التلاعب بالدستور إعدادا لانتخابات رئاسية، إلخ.). أما الشعب التونسي فهو يريد شيئا آخر، عبّر عنه منذ انطلاق الثورة وهو القطع مع الدكتاتورية واجتثاثها. وليس من طريق إلى ذلك سوى المجلس التأسيسي عبر إسقاط الحومة الحالية وتشكيل حكومة "مؤقتة" لا علاقة لها بالنظام السابق وحزبه، تكون مهمتها، عدا تصريف الشؤون العادية، الإعداد لانتخاب ذلك المجلس في مناخ من الحرية.

إن الشروط الدنيا لانتخاب هذا المجلس، هي العفو التشريعي العام لفائدة كل المساجين السياسيين السابقين، وضحايا الدكتاتورية عامة، وإلغاء ترسانة القوانين المعادية للحريات وتعليق العمل بالدستور، إلى جانب حل جهاز البوليس السياسي وضمان حياد الإدارة واستقلالية القضاء عبر تغيير رموز الفساد والاستبداد في هاتين المؤسستين، في انتظار إعادة تنظيمهما تنظيما ديمقراطيا شاملا"...

إن المجلس التأسيسي المنتخب هو الذي يملك وحده الشرعية التي تمنحه حق تقرير النظام السياسي الذي يريده الشعب. كما يملك وحده، حق وضع الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الجديدة للبلاد. وبالطبع، بقدر ما يكون هذا المجلس ممثلا للعمال والكادحين والفقراء، يكون النظام السياسي الذي سيقرره والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سيضعها أقرب إلى طموحات هذه الطبقات والفئات الشعبية.

إن ما حكم على الوضع أن يكون على ما هو عليه اليوم، أن تبقى الثورة "معلقة" في منتصف الطريق، هو الضعف التنظيمي والسياسي، للشعب الذي قام بالثورة. إن الرجعية تستغل نقطة الضعف هذه للالتفاف على الثورة وإجهاضها وحصرها في مجرد حزمة من الإصلاحات، لا غير. ولكن الشعب هو الآن بصدد تجاوز نقطة الضعف هذه، وإعادة تعبئة صفوفه لمواصلة المسيرة حتى إسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة مؤقتة لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية.

إن القوى الحزبية والجمعياتية التي لها مصلحة في استمرار الثورة تتكتل. فقد قامت "جبهة 14 جانفي" التي تضم القوى اليسارية والقومية التقدمية. كما تشكل "المجلس الوطني لحماية الثورة" والجمعيات والهيئات. وعلى صعيد آخر، وهذا هو الأهم، فإن القوى التي أفرزتها الثورة بصدد التنظم في مجالس جهوية ومحلية ومن المفترض أن تكون لهذه المجالس تمثيليتها داخل "المجلس الوطني لحماية الثورة". وبهذه الصورة سيصبح هذا المجلس الإطار الأوسع تمثيلية في هذه المرحلة والذي سيكون قادرا في حال إسقاط الحكومة الحالية على تشكيل حكومة مؤقتة جديدة تشرف على المرحلة الانتقالية.

إن المطلوب اليوم لمواصلة الثورة وإنجاحها هو:

أولا: تثبيت المجالس الجهوية والمحلية وتحويلها إلى سلطة فعلية في "الأرض". وثانيا: مواصلة التعبئة الشعبية، اليومية في شكل اعتصامات ومسيرات. وثالثا: التصدي للإجراءات والقرارات التي تتخذها الحكومة الحالية لفرض الانتخابات الرئاسية في مستهل الصائفة القادمة. وهي الخطوة الأولى، ضمن خطتها لإعادة إنتاج النظام القديم.

إن الثورة سيرورة. وهذه السيرورة لا بد من متابعتها بدقة ويقظة حتى تصل إلى نهايتها، بانتصار القوى الثورية والشعبية.

سمير حمّودة :
التعبيرات الاجتماعية لـ"حكومة الغنوشي ـ فيلدمان"

أمام سخط الشعب التونسي واحتجاج مئات الآلاف من الجماهير ومطالبتها بإسقاط حكومة الغنوشي اضطر تحالف التجمع والأحزاب الليبرالية إلى المناورة السياسية التي انتهت منذ أيام إلى ترقيع الحكومة بوجوه تجمعية من الدرجة الثانية. وتهدف هذه المناورة إلى استبلاه الشعب وإيهامه بأن الحكومة الجديدة هي بحق حكومة انتقالية. وفي الواقع لا يستجيب التحوير الأخير لمطلب الشعب في التخلص من سلطة التجمع والمجرمين بقدر ما يستجيب إلى ضرورة إنقاذ النظام القديم المتهاوي.

الهجوم الذي شنه البوليس منذ أيام على معتصمي ساحة القصبة وما تبعه من سخط عارم لدى المواطنين والمدافعين عن حقوق الإنسان دفع بالحكومة المرقعة لتوّها إلى تطوير مناوراتها السياسية. وتجسد ذلك فيما تجسد في التعويل على المواهب المسرحية لوزير الداخلية الجديد الذي حرص على إبراز بطولاته الخيالية في مواجهة المتآمرين من البوليس السياسي. فكان الكذب على الشعب التونسي ثاني مهام الحكومة الجديدة بعد أن كان أولّها الهراوات التي انهالت على معتصمي ساحة القصبة.

التحويرات الحاصلة أخيرا في قائمة الولاة دليل آخر على تواصل هيمنة التجمع على جهاز الدولة وإمساكه بمقاليد السلطة وعدم التفريط فيها لقوى الشعب .كما يُبيّن سذاجة البعض وخبث البعض الآخر ممن يعتقدون في "تكنقراطية" حكومة التحالف بين رجالات النظام القديم والمعارضة المخزية.

إنّ أشدّ المدافعين عن "حكومة الغنوشيي ـ فيلدمان" يقسمون بكل المقدسات أن التجمع لا يتحكم فيها وأن رجالات النظام القديم لا سلطة لهم عليها.

فمن يقف إذا من القوى السياسية وراء الحكومة الحالية؟ ومن نصبها لتتكلم باسم الشعب ومن فوّض لها تسيير المرحلة الانتقالية؟

من الواضح أن نصيب الأسد داخل الحكومة الحالية يعود إلى التجمع ورجالات ومختصّي الاختيارات الاقتصادية الليبرالية التي دأب على تطبيقها الديكتاتور المخلوع. وليس لحركة التجديد (ممثلها أحمد إبراهيم) والحزب الديمقراطي التقدمي (ممثله أحمد نجيب الشابي) إلا دور الديكور الانتقالي. ولتقييم وزن هاذين الحزبين يكفي أن نُذكرّ أنه لم يكن في مقدور ممثليهم داخل الحكومة إنقاذ المعتصمين بساحة القصبة من عنف وهراوات وزير الداخلية الجديد ولا منع سقوط ضحايا جدد في الكاف وقبلي وسيدي بوزيد برصاص البوليس أو في مراكز الشرطة. واكتفى هذان الحزبان بالتنديد بالعنف وبمطالبة الحكومة التي ينتميان إليها بالكف عنه.

تنديد أحزاب المعارضة المشاركة في الحكومة بتركيبة اللجان، التي تمّ تعيينها لتحضير المرحلة الانتقالية والتحقيق في السرقات والاغتيالات، والتي يُهيمن عليها التجمع والمقربون من العائلات المالكة والفاسدة هو دليل آخر على أن المعارضة الليبرالية لا وزن ولا قرار لها داخل السلطة الحالية.

من الواضح أن المعارضة التي تتمسك بتلابيب الغنوشي لم يُترك لها من دور إلا دور مغالطة الشعب وإيهامه بأن ثورته قد حققت مطالبه.

إن المناورات الحالية تهدف كلها إلى إيقاف مسار الثورة عند الحدّ الأدنى للإجهاز عليها تماما في مرحلة قادمة. ولتحقيق ذلك تسعى الحكومة الحالية لإبقاء كامل جهاز الدولة بيد التجمع وحلفائه. أما المسؤولون الجدد الذين يُسميهم البعض كوادر وتقنيين وخريجي مدارس عليا، ليسوا في الواقع إلا الخدم الوضيع للرأسمالية التابعة ولعائلات الفساد الماسكة إلى حد اليوم باقتصاد البلاد.

إن حكم بن علي لم تكن قاعدته الاجتماعية والطبقية محصورة في عائلات الفساد. هذه العائلات ليست إلا الشجر الذي يخفي الغاب. فطبقة الأعراف، أصحاب المؤسسات الكبرى، كانت تقف بكاملها وراء حكم بن علي. والحالات الاستثنائية تأكيد للقاعدة. هذه الطبقة الرأسمالية المحلية في تحالف اقتصادي وسياسي مع الرأسماليين الأجانب، غربيين كانوا أو عربا. ولكن هذا التحالف الكمبرادور لم يستخدم فقط بن علي وعائلاته لتعميق الخيارات الإقتصادية الليبرالية وتوسيع الإستثمارات الهادفة إلى تراكم الثروة والأرباح في يد حفنة من البرجوازيين.

الفئة الاجتماعية الثانية التي ارتكز عليها تحالف الكمبرادور ليست طبقة في حد ذاتها وإنما هي جيش هائل من الانتهازيين والوصوليين واللصوص من كل درب وصوب.هؤلاء انتشروا في كامل جهاز الدولة وإدارة اقتصاد البلاد من أعلى إلى أسفل. ويضم جيش الانتهازيين والوصوليين هذا خليط هائل من كل الطبقات، من المثقفين والمحامين والنقابيين البيروقراطيين والقضاة الخسيسين والإداريين اللاهثين وراء الترقيات الاجتماعية ومنشطي صحافة العار والأحزاب الكرتونية وأعضاء الجمعيات والمؤسسات الصورية ولجان الأحياء التي تظم في أغلبها حثالة المجتمع. الكثير من المنتمين إلى هذا الخليط الاجتماعي لهم بهذه الدرجة أو تلك يدّ مع التجمع وأخرى مع البوليس السياسي.

وفي تحليلنا للارتباطات الاجتماعية للنظام القديم لسنا في حاجة إلى ذكاء وقّاد لمعرفة أين موقع طبقة الأعراف (البرجوازية المحلية) والرأسماليين والمستثمرين الأجانب وخدمهم (المتمثل في جيش الانتهازيين والوصوليين) من الثورة؟

هذه القوى هي قوى الثورة المضادة ومن الطبيعي أن تقف الآن وراء حكومة الغنوشي التي تمثل الضمانة السياسية والأمنية لتواصل حكم البرجوازية المحلية والمستثمرين الأجانب. هكذا نفهم تصريحات الناطقين باسم الحكومة الفرنسية والأمريكية، منذ الساعات الأولى لهروب بن علي، الداعية إلى ضرورة سير العملية الانتقالية في إطار احترام دستور البلاد ومؤسساتها ونبذ "المتطرفين". أي أن تتم المرحلة الانتقالية في إطار احترام دستور ومؤسسات الدكتاتورية التي لا شرعية لها والتي قامت على اغتصاب إرادة الشعب التونسي. ممّا يجعل من المرحلة الانتقالية مرحلة وأد للثورة، لا في مطالبها السياسية فقط بل أيضا في مطالبها الاجتماعية.

وإذ تسعى قوى الردة إلى خنق الثورة وحصرها في جملة من الحريات السياسية الهشة فذلك بهدف أن تضمن للبرجوازية المحلية والرأسمالية العالمية تواصل الخيارات الاقتصادية القديمة التي مكنتهما من الاستحواذ على خيرات البلاد وإغراق تونس في المديونية والبطالة والتفاوت الجهوي والتفاوت في توزيع الثروة وثمار النمو الاقتصادي كمظهرين من مظاهر التفاوت الطبقي.

هذا التحليل يسمح لنا بفهم خلفية بعض التسميات الأخيرة في حكومة الغنوشي. فما يُسمّيه البعض بالتكنوقراطيين ليسوا إلا خدم بن علي الذين كُلفوا طيلة عقدين من الزمن على الأقل بلعب دور عملاء الدوائر الرأسمالية العالمية والحكومات الإمبريالية. وإذا ما أراد البعض التثبت في هذه الحقيقة يكفي الإطلاع على وظائفهم ومسؤولياتهم السابقة وما تمتعوا به من امتيازات حتى يدركوا أن هؤلاء القوم كانوا مهندسي الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية للعهد القديم.

أمّا القوى السياسية التي سعت الإدارة الأمريكية، بلسان مبعوثها للشرق الأوسط، الصهيوني الشهرة السيد فيلدمان (والذي استقبله الغنوشي قبل القيام بالتحوير الوزاري الأخير) إلى إبعادها عن مواقع القرار متهمة إيّاها بالتطرف، فهي نفس القوى التي وجّه لها بن علي نفس التهمة وقمع مناضليها وزجّ بهم في السجون. هذه القوى كانت ألد أعداء الدكتاتورية.

ولكن ميزان القوى السياسي بين القوى الداعمة للنظام القديم وبين القوى الديمقراطية، أي بين البرجوازية المحلية وحلفائها وبين الشعب التونسي حدثت فيه تغييرات هامة منذ قيام ثورة 14 جانفي وسقوط بن علي.

لم يعد في مقدور البرجوازية المحلية وحلفائها أن يحكموا البلاد كما في السابق. عليهم الآن بتطوير مناوراتهم السياسية وعدم الاكتفاء بسياسة الهراوات والقمع البوليسي. أولى هذه المناورات، التي بدأت قبل رحيل بن علي بسويعات وتحت تأثير ضغط الشارع والنهوض الجماهيري، تمثلت في إسراع البرجوازية إلى توسيع رقعت تحالفاتها. من ناحية لم يعد في مقدور النظام البرجوازي التابع أن يحافظ على طابعه الديكتاتوري ولا أن يكتفي بديكور الأحزاب الكرتونية. ومن ناحية ثانية غدا من الواضح أنه في حاجة ملحّة إلى أحزاب الديكور الانتقالي. دم جديد يُعيد الحياة إلى جثة جسمه السياسي المتهاوي.

إن دخول حزبي "التقدمي" و"التجديد" إلى حكومة الإنقاذ التي دعى إليها بن علي ثم الغنوشي كان أوّل طعنة لمسار الصيرورة الثورية وأول مناورة سياسية نجحت في تحقيقها القوى المعادية للثورة وأول محاولة للغدر بمطالب الجماهير. لقد هرول ممثلو هذين الحزبين، بناء على نداء بن علي، لتكوين "حكومة إنقاذ وطني"، بينما كان الشعب التونسي يصرخ كرجل واحد بسقوط النظام وبرحيل الطاغية. وبينما كانت الجماهير تطالب بحل التجمع وتقتحم مقراته، كان أحمد نجيب الشابي، لا الغرياني،أول المدافعين عن "شرعية" بقائه. هكذا خضعت خيانة الشعب لمبدأ المناولة السياسية.

وزيادة على أن دخول هذه الأحزاب الليبرالية إلى حكومة الإنقاذ، لم يكلف البرجوازية المحلية وحلفائها الكثير فإنه قد مكنها من توسيع تحالفها الطبقي ليشمل جزءا من ممثلي الطبقة الوسطى المدينية.

ويمكن القول أن انخراط قيادة الأحزاب الليبرالية في حكومة الغنوشي يستجيب موضوعيا للمنحى السياسي (السيكولوجي في تمظهره غير الواعي) للفئات الأقل نضالية من الطبقة الوسطى والأقل تضررا من الأزمة الاقتصادية. هذه الفئات استهواها خطاب "عودة الحياة الاقتصادية" و"استقرار الأمن" وذلك على حساب استمرار الثورة حتى تحقيق أهدافها الديمقراطية.

بالمقابل يقف الجزء الأهم من الطبقة البرجوازية الصغيرة، وفي مقدمتهم المثقفون، في صف الثورة وإلى جانب الفئات الشعبية المطالبة بحل حكومة الغنوشي وحل التجمع وحل المؤسسات الصورية والمنادية بجمعية تأسيسية تُنهي نظام الاستبداد. وما دفاع المحامين وجمعيتهم عن اعتصام ساحة القصبة إلا أبلغ دليل على ذلك.

وقد تشهد الأسابيع والأشهر القادمة احتداد مظاهر الصراع الطبقي بين تحالف البرجوازية الكبيرة وعائلات الفساد والأحزاب اللبرالية وبين تحالف الفئات الشعبية والفئات الأكثر ديمقراطية وثورية من البرجوازية الصغيرة. هذه التحالفات ستفعل فعلها في الواقع الاجتماعي حتى وإن بقيت منقوصة الوعي ومنقوصة التنظيم. الشيء المؤكد أن تحالف الأحزاب الليبرالية والبرجوازية الكمبرادورية المنقاد بالاختيارات الاقتصادية للرأسمالية العالمية لن يكون في مقدوره تقديم أي حل لمظاهر البطالة والفقر والفساد والتفاوت في توزيع الثروة بين الفقراء والأغنياء وبين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية للبلاد. تلك هي مقدمات تواصل النفس الثوري ضمن الجماهير.

سمير حمّودة
7 فيفري 2011

المهمة الملحّة لإنقاذ الثورة

ساهمت الأحداث والتطورات الأخيرة في دفع عملية الفرز السياسي بين القوى الداعمة للثورة والقوى المعادية لها.

أهم هذه الأحداث الهجوم البوليسي الفظيع الذي قامت به الحكومة، المرقّعة أخيرا، على المعتصمين بساحة القصبة وما تبع هذا الهجوم من مغالطات ومناورات كانت ترمي إلى تشويه مناضلي المناطق الداخلية للبلاد الذين مثلوا العود الصلب ضمن قوى الانتفاضة والذين قدّموا أطول قائمة من الشهداء. وشملت عمليات التشويه كل الطاقات الصادقة التي ساندت وحاولت حماية هذا الاعتصام الشرعي والسلمي.

لكن مغالطات الحكومة ومناورات أجهزتها الإعلامية والبوليسية غدت مفضوحة بعد سويعات فقط من تنفيذ الهجوم مما يؤكد يقظة المواطنين والمناضلين على اختلاف مشاربهم ووعيهم بحقيقة هذه الحكومة كاستمرار وتواصل لنظام الاستبداد وأساليبه القمعية.

أما شدة العنف الذي تعرض له المعتصمين وما تبعه من إيقافات وتهديد بالمحاكمة تؤكد مرة أخرى أن ماكينة القمع بذراعها القضائي لاتزال تشتغل تحت إمرة رجالات العهد القديم وأن "تكنقراطية" الحكومة المنقحة ليست إلا أكذوبة سخيفة ومناورة لبث الرماد في العيون. حكومة تقاسم الأدوار بين تقنيي الدوائر الخارجية وبين أخلص المخلصين لنظام بن علي وفي مقدمتهم محمد الغنوشي وبين خونة الثورة من الأحزاب اللبرالية اللاهثة وراء الكراسي الوزارية والرافعة لرايات الثورة المضادة والمنقادة بالأوراق الأمريكية في المحافظة على مؤسسات النظام القديم التي لا سند شعبي لها ولا شرعية .

وإلى جانب ما تعرض له الطلبة والتلاميذ من عنف خلال احتجاجات يوم أمس تؤكد شهادات العديد من المواطنين والناشطين في مختلف الجهات وخاصة تونس العاصمة والقصرين أن البوليس السياسي وأجهزة القمع وميليشيات التجمع لاتزال طليقة الأيدي في التنكيل بقوى التحدي والصمود. بالمقابل ليس لممثلي حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي أيّ وزن سياسي فيما تتخذه حكومة الغنوشي ـ فلدمان والأجهزة الأمنية من قرارات ولا حكم لهم فيما يجري من أعمال عنف واعتداءات على قوى الثورة وحتى على بعض مناضليهم. والبيان الأخير للسيدة مية الجريبي لم يعد يتحدث عن الثورة بل عن النهج الإصلاحي لحزبها.

لقد ترك رجالات النظام القديم دور الديكور الديمقراطي لحزبي التجديد والتقدمي كما. تركه في السابق بن علي للأحزاب الكرتونية. وليست تنديدات هذه الأحزاب وبياناتهم الأخيرة ومطالبتهم للحكومة التي يجلسون بداخلها بالكف عن أعمال العنف إلا دليل واضح عن عجزهم السياسي وعن الدور الحقيقي الذي عهدَ به النظام القديم وأمريكا لقادة هذه الأحزاب، أي دور تخريب الثورة.

ولكن قوى الثورة، بتنوعها وزخمها النضالي ووعيها السياسي وجماهيرها وحقوقييها ونقابييها ومنظماتها وأحزابها لم تقل كلمتها الأخيرة، رغم تشتت قواها، وهي تواصل المقاومة والصمود وهي تنهض وتعاود النهوض هنا وهناك بألف شكل وألف مبادرة وبآلاف الوجوه والضمائر رغم تهديدات البوليس وهراواته.

شعبنا يزخر بالطاقات الثورية القادرة على دفع الثورة إلى الأمام وتحقيق أهدافها في إسقاط حكومة الردة وحل التجمع وحل أجهزة البوليس السياسي وحل المؤسسات الصورية التي اغتصبت إرادة الشعب طيلة 23 سنة من حكم بن علي. لنتذكر أن المتآمرين على الثورة والذين يتحكمون في هذه الحكومة كانوا أقزاما عندما كان بن علي عملاقا!

ولكن تحليلنا لصيرورة الثورة لا يجعلنا نغض الطرف عن مكامن الضعف فيها. فقوى الثورة في حاجة إلى مغادرة موقعها الدفاعي الحالي وضرورة المرور إلى سياسة الهجوم على قوى الردة والخيانة. فالمرحلة الراهنة لم تعد فقط مرحلة تظاهرات واحتجاجات وتنديدات بالحكومة الحالية. يجب أن يمرّ المواطنون إلى المبادرة الأكثر جرأة. يجب أن تنخرط الجماهير في المهمة التي ستنهض بالثورة وتعطيها نفسا جديدا تاركة الحكومة الحالية في مواقع الدفاع والشلل السياسي. هذه المهمة تتمثل في خلق سلطة شعبية على نحو سلمي وديمقراطي وجماهيري. هذه المهمة تتطلب انتخاب الشعب لممثليه الثوريين. لتحقيق ذلك نقترح ما يلي:

أولا، عدم الاعتراف بأي سلطة مهما كان حجمها وبأي ممثل للحكومة الحالية.

ثانيا، رفض أي انتخابات تدعو لها هذه الحكومة أو تشرف عليها.

ثالثا، في مقدور الشعب أن يقوم بانتخاب ممثليه في أقرب وقت، اليوم وليس غدا.

رابعا، عملية الانتخاب الديمقراطية والعلنية والجماهيرية تتكلف بها لجان المواطنة وتتم في أقرب الآجال.

خامسا، ممثلو الشعب الذين يقع انتخابهم في المدن والقرى يكوّنون مجالس مؤقتة للثورة يمثلون القاعدة الجماهيرية والشرعية للحكومة المؤقتة الثورية القادمة.

سادسا، مقرات مجالس الثورة هي المعتمديات والولايات والبلديات ومقرات التجمع.

سابعا، تقوم مجالس الثورة استنادا إلى شرعيتها الانتخابية بحل كل مؤسسات الدولة غير المنتخبة بما في ذلك المجالس البلدية الحالية التي جاءت بها انتخابات مزيفة.

ثامنا، على مناضلي الأحزاب والمنظمات المدنية والنقابات أن ينخرطوا بكل قواهم في خدمة عملية تنظيم الانتخابات وأن يحرصوا على أن تكون المجالس الثورية المنتخبة مكونة من خيرة المناضلين والمناضلات دون إقصاء لأي كان من قوى الثورة ودون حسابات سياسوية ضيقة.

قد يبدو أن الدعوة إلى انتخابات ثورية عملية صعبة ومعقدة. هي كذلك إذا ما تركناها تنتظر نسق الأحزاب السياسية وتحالفاتها. ولكن الأمور ستسير على نحو مختلف تماما إذا ما أخذت الجماهير بزمام المبادرة وتبنت العملية الانتخابية وتكلفت بتنظيمها بالإعتماد على قواها الذاتية دون أي وصاية سياسية. دور المناضلين يكمن في الإرشاد والاقتراح لا في الوصاية ولا في التحكم في مجرى الثورة فالشعب التونسي برهن عن وعي سياسي لا مثيل له ولاتزال استعدادات أغلب الأحزاب السياسية والمعارضة متخلفة عن وعي الجماهير وعن استعداداتها الثورية. وفي كل الحالات من مصلحة الأحزاب أن تترك المبادرة للجماهير المنتفضة وتدفع بها إلى الأمام. نحن نعتقد أن انتخاب ممثلي الشعب في مجالس ثورية حتى وإن كان تواجد الأحزاب السياسية ضعيفا بداخلها هو الذي سيولد وضع سياسي هو أكثر ديمقراطية وأكثر حرية بألف مرة من أي تطور سياسي مغاير تتحكم فيه هذه الحكومة أو أي حكومة أخرى.

من الممكن انتخاب مجالس الثورة أينما أبدى المواطنون استعدادهم لذلك واقتنعوا بضرورتها لإنقاذ الثورة، خاصة في القرى والمدن والجهات الأكثر نضالية ونهوضا. إذا نجح مثل هذا المسار الانتخابي، ولو جزئيا ولو في بعض المناطق، سيزود الثورة بنفس جديد وسيرفع معنويات الجماهير ويعطيها الثقة بذاتها وبقواها وسيؤدي حتما إلى شلل وانهيار حكومة الغنوشي ـ فلدمان.

وفي كل الحالات سيبين المسار الانتخابي لممثلي الشعب طريق خلاص الثورة وسيعطي للجماهير المنتفضة قوة جبارة وسيضاعف من عزمها وإرادتها آلاف المرات. كما ستنهار كل الحجج السياسية، من قبيل الفراغ السياسي وغياب المؤسسات وخطر الفوضى، التي تتشدق بها أحزاب خيانة الثورة في دعمها للحكومة الحالية.

لن تنقذ الثورة إلا مبادرة الجماهير ولن يملئ الفراغ السياسي والمؤسساتي إلا جرأة الجماهير،لا حسابات أحزاب الكراسي ولا وزراء الغنوشي ولا وزراء الطباشير والبقدونس.

فلينتخب الشعب ممثليه الثوريين، اليوم وليس غدا وسترتعد فرائص قوى الردة والخيانة.

سمير حمودة
1 فيفري 2011

هل رحل بن علي؟

قدّم الشعب التونسي خلال انتفاضته الأخيرة على الدكتاتورية والفساد أروع مثال في الوحدة والوعي وضحى بمئات الشهداء والجرحى من أجل أن يصنع ثورة حقيقية ستكون بلا شك مضرب الأمثال لدى شعوب العالم.

ومن نافل القول أن ما حدث في تونس هو نتيجة تراكمات عديدة وتغير للظروف الموضوعية والعوامل الذاتية التي أدت في النهاية إلى الإطاحة برأس النظام... وكما هو معلوم فإن بداية الانتفاضة كانت عفوية، معبّرة عن حالة من الغضب واليأس والقهر ارتفعت فيما بعد إلى المطالبة بالشغل وتحسين ظروف العيش لتصل في النهاية إلى التشبث بالحرية والإصرار على رحيل بن علي ونظامه. وقد لعب الوعي السياسي للنقابيين والحقوقيين والشباب والأنترنيت والمعارضة السياسية دورا فعالا في بلورة هذه المطالب وتوجيه الانتفاضة نحو التغيير الحقيقي.

إن عنجهية العصابة الفاسدة وجهلها لنفسية التونسي وثقة الامبريالية والقوى الخارجية في صلابة الآلة القمعية لنظام بن علي ووجود متناقضات داخل السلطة قد أثر بشكل كبير في الإسراع بسقوط بن علي وهروبه. لكن العامل المحدد هو صلابة الجماهير الشعبية وإصرارها وتضحياتها ووحدتها لما انتفضت ونزعت الخوف والاستكانة وصاحت بصوت واحد: الشعب يريد إسقاط النظام.

إن تطور الأحداث وتسارعها وفرار الرئيس المخلوع فاجأ الجميع. وكل الدوائر الامبريالية والرجعية العربية أصيبت بالهلع والذعر ولعلها محقة في ذلك وهي التي انطلقت في احتواء الموقف والسعي إلى الخروج بأخف الأضرار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه والبناء عليه في قادم الأيام من خلال إطلاق آلتها الإعلامية والديبلوماسية والاقتصادية.

فهل رحل بن علي؟ سؤال يطرح نفسه ويستمد شرعيته في الواقع. فالواقع عنيد دوما وما يجري يوضح الصورة ويزيل الغشاوة. وإليكم بعض المشاهد.

المشهد الأول: ظهر الغنوشي رئيس حكومة بن علي لمدة أحد عشرة سنة على شاشة التلفزة وعلى يمينه عبد القلال (المجرم الملاحق دوليا من أجل ارتكابه لجرائم التعذيب والتنكيل بالمعارضين السياسيين) وعلى يساره فؤاد المبزع (رئيس مجلس النواب المنصب واللاشرعي) وأعلن توليه "رئاسة الدولة" وفقا للفصل 56 من الدستور وقد ضاقت حينها حدقة عينيه وارتجفت يداه في حركة لاشعورية فخانت تماسكه المزيف. وفعلا لم يمض يوم واحد حتى عادت الرئاسة إلى المبزع.

المشهد الثاني: عصابات تجوب البلاد وتروّع الناس وتبث الفوضى والهلع بين المواطنين... أفراد مشبوهون، فيهم من ينتمي إلى الحرس الرئاسي أو إلى قوات الأمن الداخلي أو إلى أجهزة أخرى يندسون بين المواطنين ويزرعون الخوف بتحركاتهم المريبة بالإضافة إلى سجون تلفظ من بداخلها فيهرب من يهرب ويموت من يموت فتبرز صورة قاتمة محزنة مروعة تسفر عن عدد من الضحايا.

المشهد الثالث: الغنوشي ينصّب حكومته الأولى ويبقى على رموز النظام السابق على رأس وزارات السيادة وبديكور من حزبين معارضين استماتا في الذود عن الحكومة المنصبة، يخرج أحمد فريعة وزير بن علي الذي قتل قناصو وزارته عديد الأبرياء ويدلي بتصريح مهين للشعب وللشهداء. الغنوشي يظهر من جديد على شاشات القنوات الفضائية ويروي دون أي حرج ما دار بينه وبين الرئيس المخلوع في مكالمة هاتفية... في الوقت الذي ينادي فيه الشعب بسقوط النظام وحل الحزب الحاكم. ويلتزم الغنوشي الصمت من جديد وينتظر صحبة الرئيس المؤقت مجيء فلتمان مساعد وزير خارجية الأمريكية المكلف بالشرق الأوسط وتنصب بعدها حكومة ثانية...

المشهد الرابع: تبدأ ولاية وزير الداخلية بثلاثة حوادث مريبة. التدخل الوحشي لفك اعتصام القصبة وما خلفه من جرحى ومفقودين وربما موتى. ثم حادثة وزارة الداخلية التي قيل عنها أن آلاف أعوان الأمن اقتحموا مقر السيادة وحاولوا الاعتداء على الوزير ذاته ثم الانفلات الأمني وما خلفه من رعب وشك وتوجس لدى غالبية الشعب التونسي وأخيرا إطلالة وزير الداخلية في وسائل الإعلام بوجه الضحية البريئة. فلا هو أعطى الأوامر لقمع المعتصمين ولا هو على علم بما يدور داخل وزارته، فهو تفاجأ بالهجوم على مكتبه وهو لا يعرف البوليس السياسي. كما أنه لا يريد الخوض في مسألة حل حزب بن علي لكي. وأنهى بوعدنا (أو توعدنا) بمزيد من مراكز الشرطة والترفيع في عدد أعوان البوليس، كأن ما يوجد منه لا يكفي. ثم يقرر زيادات مهمة في رواتب البوليس ويحل تفقدية الأمن المسؤولة على محاسبة رجال الأمن.

المشهد الخامس: تركيز الإعلام على الدعاية للعودة إلى العمل والاستقرار والدراسة وإرجاع الأمور إلى نصابها وتفادي الفوضى وهذا ترديد لخطاب الحكومة الساعية لمقايضة الشعب على حريته وأمنه بالاستبداد والفوضى. ومن جهة أخرى بالغت وسائل الإعلام في إبراز المطالب الشخصية والمشاكل القطاعية وهي فعلا مطالب حقيقية لكن مطالبة الحكومة المؤقتة بها يعطيها مصداقية وشرعية. ثم إن توقيت طرح جملة هذه القضايا والسعي إلى تناولها وحلها في الوقت الراهن يضيّع على الشعب فرص المطالبة بالأهم ألا وهو التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التغيير الحقيقي.

ونحن نتناول كل هذه الوقائع لا يجب أن ننسى فضيحة إيقاف العربي نصرة صاحب قناة حنبعل ونجله بتهمة الخيانة العظمى وإيقاف البث قبل الإفراج عنهما في ظرف ساعات. وعلى عكس ما تم التصريح به فإن الأسباب الحقيقية تتمثل بالأساس في الحوار مع حمه الهمّامي الناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي التونسي لما في كلامه من وضوح مزعج للحكومة ولأطراف أخرى.

هذه إذن بعض الأحداث أردنا التذكير بها باختزال باعتبارها تؤشر على مؤامرة تحاك سرا وعلانية ضد الشعب التونسي الأبي ولنتساءل بكل عفوية عن السبب الذي يدعو الغنوشي إلى التشبث برئاسة الحكومة ما لم يكن طالبا للعرش أو مكلفا بمهمة أو مأمورية من عدة أطراف أخرى تعمل من وراء الستار.

وجاءت تعيينات المسؤولين بالعديد من الوزارات وكذلك الولاة لتؤكد تواصل سيطرة التجمع على جهاز الدولة وإمساكه بمقاليد السلطة. كما أن المعلومات تشير أن بعضهم متورط في قضايا فساد ورشوة ومتهم بالسيطرة على الناس ونهبهم والوشاية بهم وممارسة العنف والضغط عليهم بشتى الوسائل.

خلاصة القول، إن حكومة الغنوشي تستخف بالعقول وتضحك على الذقون. إن إجهاض التغيير الديمقراطي هو مصلحة أكيدة للمنتفعين الموالين للنظام الاستبدادي البائد لذلك تركز الحكومة الحالية على المعادلة التالية: الاستبداد مقابل الأمن. وتحاول تسريبها إعلاميا وعمليا عبر افتعال الفوضى في عدة مناطق من البلاد وبث الإشاعات. مع الدعوة إلى رفع شعار التسامح والوحدة وذلك بهدف ربح الوقت لإنعاش النظام وإعادة الحياة إليه تدريجيا وكأني بالمسؤولين لم يستوعبوا الدرس بعدُ ولم يدركوا أن الشعب التونسي سيظل متماسكا، واقفا صفا واحدا ضد الطغاة، ولن يتوحد أبدا مع المتآمرين والمناوئين ولن يتسامح من هنا فصاعدا مع جلاديه واللصوص ومصاصي الدماء وهاتكي الأعراض.

إن النظام البائد يستعيد أنفاسه ليكتم أنفاسنا، إنه يريد الوقوف على قدميه ليدوسنا من جديد. إننا نعيش قصة سطو معلنة، سطو على دماء الشهداء وعلى تضحيات الجماهير وعلى أحلام الشعب وآمال الشباب وفرح الأمة.

إن محترفي الانتهازية السياسية ينفذون عملية سياسية مشبوهة ومعيبة فهم فاقدون للشرعية الدستورية والشعبية. فمن قال لهم إن الشعب يريد انتخاب رئيس حسب الدستور الذي تم تشويهه وتفصيله وترقيعه عدة مرات. إن الشعب يرنو إلى الحرية والعدالة والكرامة الوطنية، يريد دستورا يخدم مصالحه ويؤسس لبناء دولة مدنية ديمقراطية تضمن المساواة بين الجميع وتفصل بين السلطات وبين الدين والدولة وتقر نظاما برلمانيا وتضمن الحريات العامة والفردية.

هل رحل بن علي؟ نعم لقد هرب. والواقع يفرض جلبه ومحاكمته على خلفية الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب. كذلك لا بد من محاكمة نظامه وإعادة الاعتبار للضحايا إبان وقوع الانتفاضة وقبلها فالشعب قادر على كنس صنائع بن علي وأزلامه مثلما كنس الدكتاتور وأدخله مزبلة التاريخ.

ماهر

بيان :
الشعب الليبي الشقيق يثور على النظام القذافي المتخلف

يواصل الشعب الليبي الشقيق انتفاضته بكل تصميم وبكل إصرار حتى تحقيق مطلبه الأساسي وهو إسقاط نظام القذافي، هذا النظام الذي حكم ليبيا بالحديد والنار منذ ما يزيد عن الأربعين عاما وحرم شعبها من حريته ومن حقه في التمتع بخيرات بلاده. ولم يكن مفاجأ أن يواجه هذا النظام المجرم انتفاضة الشعب الليبي بالقمع والتقتيل مستعملا في ذلك شتى أنواع الأسلحة بما في ذلك سلاح الجو، ومستعينا بالمرتزقة وبالمجرمين المأجورين. ورغم سقوط المئات من الشهداء وآلاف الجرحى فإن آلة القمع القذافية لم تتمكن من إخماد الانتفاضة الشعبية العارمة، بل إن ذلك زاد من تصميم الشعب الليبي على إسقاط القذافي وكنس نظامه الدكتاتوري مستلهما من التجربتين التونسية والمصرية.

إن حزب العمال الشيوعي التونسي يحيي صمود الشعب الليبي الشقيق ويعبر عن مساندته ووقوفه إلى جانبه ويقف إجلالا للشهداء الذين سقطوا بأسلحة القذافي المجرم، ويدعو الشعب التونسي وكل الشعوب العربية إلى تقديم الدعم المادي والمعنوي لانتفاضة شعب ليبيا الشقيق وذلك بإرسال قوافل المساندة والمساعدة وتنظيم المظاهرات والتظاهرات المساندة.

ومن جهة أخرى فإن حزب العمال يندد بشدة بالمجازر التي يرتكبها نظام القذافي في حق الشعب الليبي وبالصمت والتواطؤ العربي والدولي إزاء هذه المجازر، ويطالب المجتمع الدولي وكل المنظمات الحقوقية والإنسانية إلى التحرك بسرعة من أجل إيقاف حمام الدم واتخاذ ما يلزم من إجراءات لإحالة القذافي ورموز نظامه على المحاكم لينالوا ما يستحقونه من عقاب.

كما يدين حزب العمال الموقف المخجل لحكومة الغنوشي مما يجري في ليبيا، حيث اكتفت وزارة الشؤون الخارجية في بيان لها بالتعبير عن "انشغالها الكبير" و"حزنها العميق" عن الخسائر البشرية الجسيمة، وكأن هذه "الخسائر البشرية" نتجت عن كارثة طبيعية خارجة عن النطاق وليس عن مجازر يرتكبها نظام مجرم ومجنون في حق شعب أعزل، وكان من المفروض على حكومة الغنوشي إدانة هذه المجازر بشكل صريح تجاوبا مع الموقف الشعبي التونسي. ولم تكتف وزارة الخارجية بهذا فقط بل حمّلت الضحية والجلاد نفس المسؤولية عندما أهابت "بكل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الدولة والمجتمع الليبيين أن تعمل على حقن الدماء...". وفي ذلك إشارة واضحة إلى عدم تحميل نظام القذافي مسؤولية المذابح.

إن حزب العمال الشيوعي التونسي واثق من قدرة الشعب الليبي على الإطاحة بنظام القذافي وإقامة دولة ديمقراطية تعيد للشعب الليبي حريته وكرامته وتمكنه من الاستفادة من خيرات بلاده وثرواتها الكثيرة، وهو ما سينعكس إيجابيا على الأوضاع في تونس ويساعد الشعب التونسي على استكمال ثورته وربط علاقات أخويه مع الشعب الليبي.

- عاشت انتفاضة الشعب الليبي
- يسقط نظام القذافي
- عاشت نضالات الشعوب العربية من أجل الخبز والحرية والكرامة الوطنية

حزب العمال الشيوعي التونسي
تونس في 22 فيفري 2011

حتى نحقق ثقافة ديمقراطية

إن استباق الثورات والانتفاضات الشعبية، بعصور تنوير ثقافية يبدو شرطا للنهوض بالشعوب والمجتمعات من عصور الانحطاط والذل. فالوعي الثقافي مؤشر لحالة الجيشان في أعماق الشعب، لأنها المنبئة بأن المجتمع يتمخض عن عالم جديد قيد الولادة. لذا لا بد أن يترسخ الأدب والفن في أعماق الأحياء من البشر الذين ينشدون الحد الأدنى من حياة الحرية والكرامة والمستقبل المضيء... فذاكرة الناس لا تنسى، والكذب والزيف وحقن عقول البشر بالأضاليل وطمس الحقائق سُجّل بكثير من المقت والازدراء في ذاكرة الشعب الذي استذل وأهين بقوة القمع والخوف.

وكماركسيين يجب أن نكشف هذا العار الذي يرى في البشر قطيعا، يأكل ما يقدم له من فتات أسيادهم غير قادرين على الإبداع.

ولسائل أن يسأل: ما علاقة الماركسية بالأدب والفن؟

إن للفلسفة الماركسية مفهوما للعالم كله ونظرية في المعرفة ومنهجا ماديا جدليا في البحث والتحليل، وهي كذلك لا تهمل الفن والأدب من بحثها.

وقد طبق ماركس وأنجلس المادية التاريخية كمنهج في الأدب والفن ليوضحا الأثر السيء للأدب البورجوازي على البروليتاريا. كما بيّنا من منظور الصراع أن الأدب والفن في أي عمل ذو حدين: موضوعي وذاتي: كفاح الإنسان في العالم، طبقيا ضد القوى الطاغية اقتصاديا واجتماعيا، وداخليا، نزوعا نحو التوازن النفسي ضد الاغتراب والإحباط والألم... الذي يكرسه الجهل ومظاهر الانتهازية والطائفية، وهذا الاغتراب ما قبل الوعي، يدفع هذه الطبقات أحيانا لتكون ضد مصالحها ومستقبلها على نحو إرادي.

لذا نجد أن ماركس وأنجلس يدعوان، في كتاباتهما وملاحظاتهما، الأدباء والفنانين أن يرسموا صورة دقيقة لواقع الصراع الطبقي في العالم، ويسهموا في تشكيل الضمير الطبقي لدى المستغلين. فالفن الطلائعي مذهب يحوي بداخله كل المضامين والقياسات الجمالية والإنسانية. وعلى نفس الدرجة يعمل على إبراز النضال الطبقي ويكشف الدعاية الرأسمالية والبورجوازية الفجة التي تؤسس لثقافة استهلاكية وتشيّء الإنسان وتدجنه وتفرغه من كل القيم الراقية. فقد أكد ماركس حتمية وضرورة التصادم بين القوى المادية للإنتاج في مرحلة ما من تطورها مع علاقات الإنتاج القائمة التي تستحيل إلى قيود لقوى الإنتاج وهو ما سيؤدي إلى ثورة اجتماعية يتغير فيها البناء الفوقي بأكمله مع تغير الأساس الاقتصادي. وهنا لا بد أن نميز بين التغيّر المادي للظروف الاقتصادية للإنتاج والتي يمكن أن نحددها بدقة، وبين الإيديولوجيا التي يعي بها الناس هذا الصراع ويتغلبون بها عليه. لذا ينبغي على الفنان أن يفسر الوعي بتناقضات الحياة المادية، وبالصراع القائم بين القوى الاجتماعية للإنتاج وبين علاقات الإنتاج. وبإشارتهما إلى بعض القصص الأدبية أو اللوحات أو مدارس فنية يوضح ماركس وأنجلس أثر الرأسمالية ومعنى الإنتاج الرأسمالي، بمعنى أنهما يكتبان ليحققا فعلا سياسيا، وهنا لا بد من توضيح مسألة مهمة غالبا ما ركزت عليها البرجوازية في دعايتها ضد الثقافة والإبداع الطلائعي، مفادها أن الإبداع والأدب والثقافة عليها أن تتخلص من الإيديولوجي والسياسي وكأن المبدع والمثقف كائن ضوئي فوق الصراع الطبقي، ومتعال عن هموم الإنسان الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكأن ما تروج له الرأسمالية والبرجوازية خال من الإيديولوجيا. إن المثقف الإنسان والمبدع الطلائعي هو كائن سياسي بامتياز لكنه يعالج ويمارس السياسة بآليات الثقافة وبرؤية المبدع وروح الفنان الذي ينتصر دائما للقضايا العادلة. إن المبدعين والفنانين في مختلف مجالات الإبداع هم "مهندسو أرواح". والفن هو تعبير عن الصراع، لا بين الفرد والمجتمع فحسب، بل أيضا بين الإنسان والطبيعة وبين قوى مناضلة صاعدة من جهة، وقوى معادية للشعب وتطور التاريخ نحو المستقبل الأكثر عدالة والأكثر تقدمية من جهة أخرى.

والواقع دائما يُعبّر عنه بأشكال مغايرة، لكن لا بد لنا أن نكون أوفياء لعصورنا وشهودا عليها، نرصدها ونحللها ونشهد عليها بكل تجلياتها الجائرة والقاسية والمنحطة رغم كثرة المضللين الذين يرفعون رايات الفرح والتفاؤل والطمأنينة في عصور الشقاء وفقدان الأمان وسحق الحرية والكرامة بأحذية بوليس الفاشية والرأسمالية.

ولعل اهتمام ماركس وأنجلس ببلزاك دون غيره من الواقعيين الآخرين، وإعلان أنجلس أنه تعلم من بلزاك ما لم يتعلمه "من كل كتب العصر التي كتبهــــــا المؤرخون والاقتصاديون والأخصائيون المحترفون مجتمعين"، خير دليل على أهمية الدور الذي يلعبه الأديب في مجتمعه. فقد فضح بلزاك البرجوازية الفرنسية. وروايته "الكوميديا الإنسانية" مفعمة بصور البرجوازيين الأدنياء والخسيسين الدساسين المتآمرين، والأجهزة الخفية المتحكمة بالشعب. إن روايته تعكس واقعيا الأهواء المرتشية وجنون التملك الذي تجاوز القانون في سبيل التلذذ بالعيش على حساب الشعب.

مثل هذا الأدب يبدو اليوم نادرا، بل ربما كان على حافة الانقراض. وهذه الصيغة واقعية في عصر الانحطاط وزمن الاستهلاك. فالأدب والفن مسخر لخدمة الطبقة الحاكمة التي بلورته ومنهجته لترسيخ بقاء الطبقة المسيطرة وإحكام هيمنتها المطلقة مسلحة بنظام قمعي، بوليسي، هدفها التدجين الديماغوجي للشعب بأسره. بمعنى أن الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج هي التي تملك الإنتاج الفكري في نفس الوقت، فتحول في ظلها الأدب والفن إلى ثقافة مؤسساتية مشلولة وضيقة الأفق. فالسلطة تأخذ من الأديب والفنان شرعيتها وهويتها ثم تدجنه داخل آلية قمعها وقانونها المزيف وغير الشرعي، وتعتبر العمل الفني سلعة تتحدد قيمتها بنجاح عملية البيع أو فشلها. وهي تسعى إلى المراوحة بين الثقافة السائدة والموروثة، والثقافة الغربية كسياج ملفق لحماية سلطتها السياسية مكرسة هيمنة فكرها وثقافتها البرجوازية، لتعرقل تقدم المجتمع داخل استمرارية واقع يظل أسيرا لهيمنة الماضي المقدس وحاضر يدغدغ غرائز الجماهير.

ولعل الواقع والمشهد الموضوعي للشعب في بلادنا اليوم، يورث إحساسا بالمرارة والعجز والسلبية لدى بعض الأدباء والفنانين. كما يولد شعورا بالهرب والحياد والاغتراب... للبعض الآخر. لكننا نجد أدبا يخترق الجميل إلى الكريه والدميم، ويتجاوز التفاؤل الأبيض باتجاه الواقع الأسود والسوداوي فيعريه: كما يرى الحب يرى الخيانة، وفي عصور القمع والذل وجنون الدم وبشائر الموت على يد الدكتاتورية، لا يمكن أن يكتب أديب وروائي مثل عبد الجبار المدّوري والأزهر الصحراوي وجلول عزونة ومحمد جابلي ورضا البركاتي والفاضل الجعايبي وسامي النصري وتوفيق الجبالي ونور الدين الورغي وغيرهم والسينمائيين وخاصة من الشباب مثل نصر الدين السهيلي ورفيق العمراني والموسيقيين مثل منير الطرودي ورضا الشمك ونبراس شمام والذين ظلوا صامدين وما زالوا، عن التبشير بالحرية والديمقراطية والسعادة والفرح في ظل نظام فاشي.

إن حزب العمال يرى ولا يزال أن تحقيق ثقافة ديمقراطية مشروط بتوفر عوامل أساسية ثلاثة:

أولا، الحرية، أي حرية الإبداع في كافة المجالات الأدبية والفنية والعلمية.

ثانيا: تكفـّل الدولة بتمويل الثقافة حتى لا يتحول النشاط الثقافي إلى نشاط تجاري غايته الوحيدة الربح، وحتى تتوفر نفس الحظوظ لكافة أفراد المجتمع سواء في الخلق والإبداع أو في التمتع بالمنتوج الثقافي.

ثالثا: إعطاء الثقافة مضمونا وطنيا اجتماعيا، تقدميا، علميا، إنسانيا ينهض بالوعي الجماعي لأفراد المجتمع ينمي معارفهم ويرتقي بأذواقهم ويقربهم من الثقافات الإنسانية الأخرى. وعلى هذا الأساس فإن النظام الديمقراطي المنشود يضمن:
- حرية الإبداع والبحث العلمي
- التمويل العمومي للنشاط الثقافي
- بعث هيئات منتخبة في مختلف القطاعات الثقافية تتولى توزيع الدعم المالي.
- تطوير الفضاءات الثقافية (مسارح، قاعات سينما، إلخ.) وتوزيعها بشكل عادل على كافة مناطق البلاد.

وبصورة فورية:
- إلغاء لجان الرقابة على الإنتاج الأدبي والفني.
- إلغاء كافة القيود القانونية والعملية على حرية التعبير والإبداع.
- ضمان حق كافة المبدعين والمشتغلين في كافة القطاعات الثقافية في حرية التنظم. بعث مجلس وطني للثقافة ومجالس قطاعية منتخبة تتولى توزيع الدعم وفق معايير موضوعية.
- ضمان حق كافة المبدعين في استغلال الوسائل السمعية البصرية وخاصة منها الإذاعة والتلفزة لتقديم إنتاجهم.

حصاد المطر... أم حصاد النّضال؟

مقدّمة:

يُلاحظ المطّلع على النّصوص القصصيّة التي تنشرها "صوت الشّعب" من حين لآخر أنّها نصوص تعكس تجربة السّجن التي عاشها جمع من المناضلين وتجربة النّضال التي انخرط فيها الشّباب الطّالبي في الجامعة. وفي كلتا الحالتين بدت هذه النّصوص مسيّسة ذات خلفيّة إيديولوجيّة واضحة المعالم تدين واقع القمع والعسف والغطرسة وتنشد عالم الحرية والعدالة وتنسج على منوال الكتابات الواقعيّة شرقا وغربا لكنّها تتفرّد بمقوّمات تميّزها عن غيرها من الكتابات وتؤصّلها في الواقع الرّاهن.

وقد بدأ تواتر هذه النّصوص يشكّل متنا قصصيّا يشقّ طريقه تدريجيّا ويرسم ملامحه شيئا فشيئا ويتّسم بخصائص تكون عادة ملازمة لتيّار القصّة الواقعي ورافدة للنّضال الاجتماعي والسّياسي. وقد يفرز هذا التراكم الكمّي تيّارا قصصيّا مستقلاّ بذاته ينضاف إلى التيّارات الموجودة ويغني السّاحة الأدبيّة.

وقصّة "حصاد المطر" لصاحبتها "آرام"، الصّادرة بـ"صوت الشّعب" عدد 283 تنحو هذا المنحى، وسنركّز في دراستنا لها على عناصر الطّرافة التي تضمّنتها.

1 – مرجعيّة القصّة:

إنّ الواقع هو المعين الذي يستمدّ منه الرّوائي مادّته الرّوائيّة ويصوغ منه عالمه التخييلي. فالواقع لا يمكن الاستغناء عنه حتّى وإن انعزل الرّوائي انعزالا كليّا عن العالم الخارجي. فهو حاضر بشكل أو بآخر ينطلق منه الكاتب ليصوغه صياغة جديدة ويعبّر من خلاله عن جملة من القيم والمبادئ ويتوق إلى عالم أفضل. وقد اتكأت "آرام"، صاحبة قصّة "حصاد المطر"، على واقع الطّلبة في الجامعة المتميّز بثرائه وتنوّعه وتعدّد مكوّناته. فالجامعة رمز الرّفض و التمرّد والتحرّر وبناء الشّخصيّة. فيها يثور الطّلبة على كلّ المكبّلات الفكريّة والاجتماعيّة والقيم المتوارثة والعادات البالية، وفيها يسعون إلى نحت شخصيّة جديدة أكثر تحرّرا وتقبّلا للأفكار الثوريّة.

وقد صوّرت "آرام"، من خلال هذه القصّة، ظاهرة القمع المستشري في الجامعة ومطاردة السّلطة الحاكمة كلّ معارض لها ومقاومتها الطّلبة المناهضين لسياستها واستغلالها فترة الامتحان لإلقاء القبض على العناصر الطلابيّة الناشطة. إلاّ أنّ الطّالب، "نضال"، بدا شجاعا وغير مبال بمحاصرة الأمن السياسي الكلية رغم تحذير رفيقته له ومتحدّيا له رغم علمه بأنه ينتظره. لذا أُلقي عليه القبض ما إن دخل إلى الكليّة. وهكذا قابل "نضالُ" القمع بالتحدّي، وكثافة البوليس بالعزيمة الفولاذيّة، وتحذير رفيقته بإصراره على تنفيذ ما خطّط له. وأكّد أنّه يستهين بالبوليس السّياسي ويستخفّ بغطرسته. ولم يكن إلقاء القبض عليه علامة من علامات التهوّر والتباهي بقوّته بل كان إيمانا منه بأنّ المناضل مطالب بمواجهة الواقع بكلّ جرأة وتحمّل مسؤوليّاته بدون تردّد. وقد كان لـ"نضال"، أثناء لحظات الشدّة، رفيقة تشدّ أزره.

2 – بطلة القصّة:

هي طالبة لا تحمل اسما ولا لقبا.فهي إذن رمز إلى كلّ طالبة مناضلة، رمز غير مقيّد بمكان وزمان محدّدين بدقـّة. ومن خلال مرافقة الرّاوي لها في حلّها وترحالها وتتبّع خطواتها ورصد حركاتها وسكناتها وكشفه ما تبطن وما يعتمل في نفسها تجلّت لنا ملامح شخصيّتها وسمات نفسيّتها:

أ – تأثير الجامعة في شخصيّة الطّالبة:

كان للجامعة أثر في تطوير تفكيرها وتغيير سلوكها. فقد أضحت فتاة متحرّرة دون تهوّر ومتجاوزة نواميس المجتمع دون تصادم ورافضة ضوابطه دون استهتار. فهي تقيم في غرفة واحدة مع نضال رفيق دربها يجمعهما النّضال والمبادئ والحبّ دون الإحساس بأيّ حرج. ومن ثمّ لم تعد هذه الطّالبة جنوبيّة المنشأ رمز المحافظة وسلفيّة التفكير والانطواء على النفس والخشية من الاختلاط، بل تجاوزت الاختلاط إلى معاشرة رفيقها وإعلان حبّها له على رؤوس الملإ. ومن أمارات حبّها لرفيقها رسم قبلة على شفتيه وهي تودّعه في الصّباح متجهة إلى الكلية تحت رذاذ المطر.

ب – علاقة الطّالبة بالمطر:

هي طالبة متعطّشة إلى الارتواء وإطفاء لهيب ظمأ لا يرتوي، وعطشها هذا أفرزته عوامل مناخيّة واجتماعيّة ونفسيّة. فهي فتاة منحدرة من الجنوب موطن الصّحراء ورمز الجفاف والجدب والقحط. لذا هي في شوق دائم إلى الارتواء الذي حُرمت منه لمّا كانت تقيم في الجنوب. وقد تلقّفت نزول الأمطار بلهفة شديدة لتستمتع بقطراتها وتنتشي بصوتها العذب. بل إنّ المطر ارتقى إلى مصاف الحبيب وأصبحت علاقة الطّالبة به علاقة عاشقة بمعشوق، فقطراته رقيقة كغزل الحبيب مثيرة للنّشوة كهمسه باعثة للانشراح في النّفس كمداعبته. وأكثر من ذلك تحرّك هذه القطرات سواكن الطّالبة وتنقلها إلى عالم الطّفولة والطّهر والبراءة، عوالم اللّهو والمرح والسّعادة التي لاحدّ لها. وهكذا يصبح للمطر مفعول سحريّ وقدرة خارقة للمعتاد.

وللمطر دور آخر تكشفه الطالبة دون لبس.

ج – سيطرة الرّؤية الذّاتية على تفكير الطّالبة:

تغيّر كلّ شيء في هذا الصّباح واكتسبت الأشياء دلالة جديدة عند الطّالبة وأصبحت تنظر إليها من خلال نفسيّتها الحزينة. تقول:"لم كلّ شيء في حالة حداد هذا الصّباح؟ الشّوارع، السّماء وحتى الكلية؟ أم تراها هي وحدها من تشعر بذلك؟".

بدا كلّ شيء حزينا في حالة حداد وكأنّ العالم فارق شخصا عزيزا عليه. هكذا فقدت الطالبة القدرة على التمييز بين الأشياء وارتبكت رؤيتها وأصبحت رؤية ضبابيّة وهذا دليل على سيطرة الانفعال عليها وعدم التحكّم في مشاعرها ولعلّ ذلك يعود إلى تفاعل المطر مع الصّدمة التي عاشتها والمترتبة عن مفعول الأحداث التي جدّت في الكلية. وقد تجلّى هذا الارتباك في قاعة الامتحان.

د- لحظة الارتباك في الكليّة:

الامتحان لحظة قلق يعيشها الممتحن أثناء إجراء الاختبار، والنّجاح فيه لا يتوقّف على استعراض المعلومات وكتابة الفقرات فقط بل يقتضي الاستعداد النّفسي لتجاوز تلك اللّحظة. وقد بدت هذه الطّالبة مرتبكة غير قادرة على السّيطرة على نفسها، غاب عنها التّركيز منذ أن تسلّمت الورقة وشرد ذهنها وهربت الحروف من أمام عينيها كما يهرب المتظاهرون من البوليس وتفرّقت تارة وتجمّعت طورا. وهكذا تداخلت المشاهد وانتصب شبح البوليس أمام عينيها في لحظة تحتاج فيها إلى أقصى درجات التّركيز. وقد تُوّجت لحظة الارتباك هذه بخروج الطّالبة من قاعة الامتحان منكسرة خائبة لا تدرك كنه ما كتبت على ورقة الامتحان ساعية إلى إعلام رفيق دربها بما ينتظره.

ه – الطّالبة في الشّارع:

نقل السّرد ما عاشته الكلية في الأيّام الأخيرة وما لاحظته الطالبة أثناء خروجها وكشف ما كانت تبطن. فقد أكّد الرّاوي أنّ البوليس السّياسي شنّ حملة شرسة على الطّلبة واعتقل عددا كبيرا من المناضلين ظلّ مصيرهم مجهولا. أمّا الكلية فقد استحالت سجنا وعاشت وضعا استثنائيّا حيث أوصدت أبوابها وملئت ساحاتها بأناس غرباء انتقت الطّالبة لوصفهم لغة تترجم نقمتها عليهم وكراهيتها لهم، لغة تشنّع عليهم وتجرّدهم من صفتهم الإنسانيّة وتضعهم في خانة الحيوانات. تقول:" نظراتهم غريبة فيها لؤم وشرّ عظيمان، إنّهم كلاب الدّم".

وفي الشّارع كانت الطّالبة تسير خائفة تلتفت ذات اليمين وذات الشّمال ترغب في مهاتفة رفيقها وتحذيره من الذّهاب إلى الكلية حتّى لا يعتقله البوليس السّياسي. لذا كانت متلهّفة إلى مخاطبته وسماع صوته وتقديم النّصيحة له. وقد عاشت مرّة أخرى لحظة ارتباك لمّا هاتفت نضال فلم يجبها. لذا ركّز السّرد على الأحاسيس الغريبة الّتي تملّكتها والهواجس الّتي انتابتها. فقد استبدّ بها الخوف وخارت قواها وأخذها دوار وراحت تشجّع نفسها لتجاوز لحظة الضّعف الّتي عاشتها.

وكشف الحوار الّذي دار بينها وبين نضال وجها آخر من وجوه هذه الشّخصيّة، وجه الفتاة الرّقيقة الّتي تخشى أن يعتقل البوليس رفيقها ويبعده عنها ويحرمها من حنانه مدّة زمنيّة معيّنة. ومن ثمّ نتبيّن أنّ هذه الطالبة تعيش مفارقة عجيبة غريبة. فبقدر ما تنخرط في النّضال لا ترتضي اعتقال رفيق دربها وكأنّ طريق النّضال مفروشة بالورود، وبقدر ما تبدو مناضلة جريئة تبدو مشدودة إلى شريحة الفتيات الّلواتي لم يتخلّصن نهائيّا من الخوف. فهي تجسّد، في آخر المطاف، صورة الفتاة الشّرقيّة الّتي تكبّلها رواسب ثقافيّة وتربويّة تمنعها من التّحرّر النّهائي من كلّ المكبّلات رغم تخلّصها من عديد المعوقات.

ولمّا عادت إلى الكليّة كانت شاهدة على اعتقال رفيقها نضال فكشف هذا الاعتقال ملـْمَحًا آخر من ملامح شخصيّتها.

و – صورة الطالبة أثناء اعتقال نضال:

بدت صورة الطالبة في آخر القصّة صورة الفتاة الّتي صدمت بما حدث. فلمّا اعتقل نضال تسمّرت في مكانها وعجزت عن السبّ والشّتم والصّراخ في وجوه "الكلاب" ولم تتمكّن من تخليصه من البوليس. وهكذا بدت ضعيفة مستسلمة أمام عسف قوات الأمن.

قدّمت هذه الأقصوصة صورة لفتاة مناضلة تعيش حالات نفسيّة متناقضة أحيانا ولا تستقرّ على حال ووظّفت المطر لأداء أكثر من دور.

3 – رمزيّة المطر:

المطر له أهميّة لا حدّ لها في عقليّة الشّعوب وفي واقع الفلاّحين قديما وحديثا وعند الشّعراء والكتّاب. فقد اكتسب المطر عند جميع هؤلاء دلالات شتّى ووظّف في مجالات مختلفة. وقد أكّد خليل أحمد خليل أنّ العرب يحتفون بعلاقة الأرض بالسّماء وكواكبها عبر المطر وأنّ المطر يلعب، في المجتمع الزّراعي، دورا حياتيّا بالنّسبة إلى المزروعات والفلاحين حتّى نشأت حوله أساطير (انظر خليل أحمد خليل: مضمون الأسطورة في الفكر العربي ص41 وص52). كما أن بعض الدّراسات ركّزت على الماء. فقد أكّد أحمد الطبال أنّ "الماء هو الشكل الأوّلي للتّجلّي، وهو مصدر الحياة ورمز الحياة والخصب والطّهارة والجذب الجنسي والتّجدّد الجسدي والرّوحي والحكمة والمعرفة والخلود" (الماء في رمزيته الأسطورية والدّينية – مجلّة "الفكر العربي المعاصر" آذار- نيسان عدد 25 /1983 ص142).

ورمز الماء عند السيّاب في "أنشودة المطر" إلى الخصب والرّجاء والتّجديد والتّطوّر والأمل. وهكذا تعذّدت دلالات المطر حسب السّياقات وتواتر حضوره في المدوّنة الشّعرية العربية والقصصيّة على حدّ السّواء. فإلام يرمز المطر في هذه القصّة؟

حُمّل المطر أكثر من معنى في هذه القصّة:

أ- المطر رمز المحبّة: يؤكّد الرّاوي أنّ علاقة البطلة بالمطر علاقة اتّصال قوامها المحبّة الدّائمة والممتدّة من الماضي إلى الحاضر. ولعلّ مردّ هذا العشق إلى حرمان الطالبة من متعة المطر لأنّها كانت تعيش في مدينة صحراوية.

ب- المطر مصدر النّشوة: "قد يكون الماء رمزا للجاذبية الجنسيّة كما يُستخلص من قصّة "سومريّة" هكذا يؤكّد أحمد الطبال في المقال الّذي وقعت الإشارة إليه. وقد وجدنا في هذه القصّة تأكيدا صريحا لدور المطر في إثارة النّشوة لدى هذه البطلة. ولعلّ ذلك يعود إلى الجدب الجنسي والفراغ العاطفي. يقول الرّاوي: "لاشيء كان يبعث فيها النّشوة والانشراح كتلك القطرات المنسكبة من السّماء..".

ج - المطر والمفعول السّحري: اكتسب المطر مفعولا سحريّا وقدرة على تجاوز العادي وأضحى بإمكانه اختزال الزّمن ومسخ الطّالبة وتحويلها إلى فتاة صغيرة سعيدة تنعم بطفولتها الدفينة الخالية من الهموم اليومية ومآسي الحياة كما أنّ المطر أصبح قادرا على العبث بهذه الفتاة وتغيير حالتها. يقول الرّاوي:"رفعت رأسها فركت عينيها وعادت لورقتها بذهن شارد. لعلّه المطر من فعل بها هذا".

تلك هي تجلّيات دلالات المطر وقد يقودنا تعميق النّظر إلى استنتاجات أخرى.

4 - حصاد المطر أم حصاد النّضال؟

لئن وسمت القاصّة قصّتها بـ"حصاد المطر" فإنّ مادّتها الحكائيّة، هي في الحقيقة، إفراز لنضالات الطلبة ومقاومتهم عسف السّلطة الحاكمة وتصدّيهم للحصار الأمني الّذي يضيّق عليهم الخناق ويحرمهم من النّشاط النّقابي والسّياسي في الجامعة بكلّ حرّية.ومن ثمّ تسهم هذه القصّة في تسجيل جانب من حياة الطّلبة. فالنّضال يكمل الدّراسة ويثري زاد الطّالب ويطلعه على مجالات معرفية لا تتيحها له البرامج الرّسميّة. وهكذا يتفاعل حصاد المطر مع حصاد النّضال فتكون النتيجة هذه القصّة.

خاتمة:

قد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا أنّ هذه القصّة تتراوح بين الرّمز والمباشرتيّة وأنّها تقترب أحيانا من الخاطرة الّتي تفتقر إلى الإيحاء وتخلو من المحسّنات البديعيّة. ولكنّ الشيء الثّابت هو أنّ هذه الكاتبة قادرة على التّطوّر وتجويد أساليب الكتابة وصياغة كون حكائي يشدّ القارئ إليه شدّا والدّليل على ذلك هو تقديم الكاتبة بطلة لها أكثر من وجه واستعمال لغة تبدو شاعرية أحيانا.

أبو العلاء بن نصر



قائمة مراسلة حزب العمال الشيوعي التونسي
الموقع : www.albadil.org
البريد الالكتروني : contact@albadil.info
للإشتراك : ابعث رسالة إلكترونية فارغة إلى express-subscribe@albadil.info
للإنسحاب : ابعث رسالة إلكترونية فارغة إلى express-unsubscribe@albadil.info

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة