حزب العمال الشيوعي التونسي :اللائكية لا تعني الإلحاد وفصل الشعب عن تراثه
اللائكية لا تعني الإلحاد وفصل الشعب عن تراثه
يروّج أعداء اللائكية دائما أنها تعني الإلحاد. وقد دحضت هذا الادعاء في كتابات أخرى وبيّنت أن اللائكية تعني فقطعزل الدين عن السياسة حتى لا يتحوّل إلى أداة يبرّر بها الطغيان والتعسف والتمييز واغتيال الفكر الحر والخيانة الوطنية. وإذا كانت اللائكية تعني هذا فالسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو التالي: ما هي الطبقة أو الطبقات التي لها مصلحة في معاداة اللائكية وفي الخلط بينها وبين الإلحاد؟
بإمكاننا الجزم بأن القوى الاجتماعية الرجعية بمختلف شرائحها هي صاحبة المصلحة في ربط الدين بالسياسة وفي معاداة اللائكية وتشويهها والسبب واضح فهذه القوى هي الوحيدة التي لها مصلحة في تعطيل تحرر العقول وكبت الطاقات الخلاقة للشعب وهي التي لها مصلحة دائما في استعمال "الشرع قال... الشرع حرّم..." حتى تطمس الأسباب الحقيقية للمآسي والآلام التي يعاني منها الشعب فيذهب في اعتقاده أنها "عقاب من الله" أو "اختبار منه" وليست وليدة الاستغلال الرأسمالي.
إن الاتجاهات السياسية الظلامية هي أحد التيارات التي تخدم هذه القوى الاجتماعية الرجعية المحافظة حتى ولو تظاهرت شكليا بمعارضتها فهي التي توجد التبريرات الإيديولوجية لعسفها واضطهادها واستغلالها. مثال ذلك اعتبار فكرة "النقابات" بدعة غربية ولا وجود لها في الإسلام وذلك لحرمان العمال من التنظم المهني للدفاع عن حقوقهم (وحتى إذا وقع تبنيها فلغايات تكتيكية ظرفية) أو اعتبار المساواة بين المرأة والرجل كذبة استعمارية حتى تبقى المرأة سجينة البيت فريسة للجهل، مجمّدة الطاقات.
وبالمقابل فإن الطبقة العاملة وجميع الفئات الشعبية الكادحة هي التي لها مصلحة في اللائكية لأن لها مصلحة في تحرير طاقاتها الذهنية والفكرية لكي تنهض وتتقدم وفي إقرار ديمقراطية واسعة كشرط لمشاركتها في تسيير شؤون المجتمع وتنظيم صفوفها والرفع من وعيها دون أن يمنعها ذلك من ممارسة شعائرها الدينية في كنف الطمأنينة دون تدخل الإدارة أو البوليس لفرض هذا المعتقد أو ذاك.
ومن ناحية أخرى فعلى عكس ما يروّجه السيد الهادي الزريبي والظلاميون فإن اللائكية لا تفصل بين الشعب وتراثه. إن اللائكية تفتح الطريق للنظر في تراثنا بعين نقدية علمية دون ذاتية ومسبقات لاستجلاء مواطن القوّة والضعف فيه. وبالمقابل فإن أنصار الدولة الدينية يغلقون باب التفكير في هذا التراث فيشوهون ما هو تقدمي فيه بعنوان "الزندقة" و"الكفر" و"المادية"، ويمتدحون كل ما فيه من رجعي وظلامي. إن بداية التفكير هي بداية التكفير (العبارة مستوحاة من خاطرة للطاهر الحداد) عند هؤلاء فليس ثمة ما يخيفهم أكثر من الفكر النقدي الثوري.
والماركسيون اللينينيون وهم أكثر الناس تماسكا في الدفاع عن اللائكية لما للطبقة العاملة والشعب عموما من مصلحة في ذلك، هم في الوقت ذاته أكثر الناس دفاعا عن التراث لأنه ذاكرة الشعوب غير أن دفاعهم عنه ليس دفاعا أعمى. فهم لا يعتبرون التراث كتلة متجانسة وإنما مزيجا من العناصر الرجعية التي تعبر عن مصالح الطبقات الرجعية في وقت من الأوقات والعناصر التقدمية النيّرة التي تمثل مصالح الطبقات المضطهدة والمسحوقة. وهذا الجانب الثاني المشرق في التراث هو الذي يتبناه الماركسيون اللينينيون ويدافعون عنه. بينما الظلاميون لا يهمّهم إلا الجانب الأوّل الرجعي. وهذا ما يريد إخفاءه هؤلاء عندما يتهمون الثوريين بالإنبتات. فهل من بالإنبتات في شيء الدفاع عن عقلانية ابن رشد والمعري والمعتزلة وابن خلدون والحداد إلى آخر القائمة ومناهضة مثالية وغيبية الغزالي والسيد قطب ومن نحا منحاهما من القدامى والمعاصرين؟
والماركسيون اللينينيون إذ يدافعون عن الوجه المشرق من تراث شعبنا والشعوب العربية فإنما يفعلون ذلك من مواقع إيديولوجية واضحة. فهم يعتبرون هذا الدفاع جزءا من النضال الإيديولوجي ضد الامبريالية التي تحاول أن تُظهر الشعوب الصغيرة والمضطهَدة كشعوب بدون تاريخ وتراث شعوب عاجزة عن الخلق والإبداع بالاعتماد على قواها الذاتية ولا يخفى على أحد أن هدف الامبرياليين من ذلك هو إبراز الغرب كمركز وحيد للحضارة وتسهيل سيطرته على تلك الشعوب وتذويبها في ثقافته الامبريالية وجعلها لا تتلمس طريقها المستقلة إلى التقدم فتبقى تابعة خانعة له.
إن هذا المنهج الثوري في التعامل مع التراث هو الوحيد القادر على تأكيد الهوية الوطنية للشعب ودعمها بإضافات جديدة. أما القوى الظلامية التي تحصر التراث العربي في جوانبه السلبية، في قطع الأيدي، والجلد، وتعدّد الزوجات وتكفير التفكير الحرّ هي التي تشكل خير حليف للقوى الامبريالية وأكبر عائق أمام تقدم شعوبنا.
اللائكية ليست نقيض الأخلاق
وفي نهاية هذا الرّد أودّ أن أتعرّض لنقطة لم تسبق لي الإجابة عنها إلا بشكل سريع في كتابات أخرى. وهي تتعلق بمسألة الأخلاق. فأعداء اللائكية يروّجون أنها تعني فتح الباب أمام التفسخ الأخلاقي لانعدام ضوابط ومراجع قيميّة قارة ومعروفة. وفي هذا الادعاء مغالطة كبيرة أيضا لعدة أسباب.
إن ما ينبغي أن يعلمه القارئ هو أنه لا يوجد شيء اسمه "أخلاق"، ذو مضمون مطلق، صالح لكل زمان ومكان. فالتاريخ والواقع يبيّنان لنا أن هنالك أخلاقيات عديدة فالأخلاق شيء متطوّر تتغيّر مضامينه من عصر إلى عصر. فهنالك الأخلاق العبودية والإقطاعية والرأسمالية والاشتراكية. فمن نمط إنتاجي إلى آخر تتغير القيم ويصبح ما كان مقبولا بالأمس مرفوضا اليوم، وما كان "خيرا" بالأمس "شرّا" اليوم وهلم جرا. ولتبسيط المسألة وتقريبها من ذهن القارئ نورد أمثلة من واقعنا اليومي.
فالعامل الواعي يعرف جيدا أن عرف مؤسسته يعتبر العامل الذي يكسّر الإضرابات ويشي برفقائه، "شريفا" و"نزيها" وصاحب أخلاق عالية بينما هو في نظر زملائه خائن وقوّاد أما العامل الذي يشارك وينشط في الإضرابات فيعتبره "مشوشا" و"من أتعس ملّة" بينما هو جريءٌ وشجاع ومدافع عن الحق في نظر رفقائه.
ومن ناحية ثانية فإن المرأة المستكينة، الذليلة، الطيعة التي تقبل بكل المظالم وتنطوي على نفسها هي امرأة صالحة و"ابنة عائلة" في نظر العقلية الأبوية الرجعية بينما المرأة الذكية، المتحرّرة التي ترفع رأسها وتكافح بلا هوادة من أجل حقوقها هي في نظرها "متهوّرة" و"فاسدة" و"قليلة تربية".
ومن ناحية ثالثة يعرف الجميع أيضا أن كثيرا من الملتحين، المتظاهرين بالتقوى والورع هم في الخفاء فُسّاق وماجنون وسرّاق.
إن هذه الأمثلة الثلاثة تبيّن أن المفاهيم الأخلاقية ليست واحدة في المجتمع بل تختلف باختلاف المواقع الطبقية. وعلى العموم فإن الأخلاقية السليمة هي دائما الأخلاقية المنتصرة لمبادئ العدل والحرية والتضامن ورفض الاستغلال والقهر، أخلاقية الطبقات المسحوقة التي ليست لها مصالح تحتاج لكي تدافع عنها إلى التضليل والكذب والبهتان.
إن أهمية اللائكية في علاقة بالأخلاق تتمثل في كونها تنزع ذلك الحجاب الديني الذي يتخفى وراءه أكثر من سارق وخبيث ومعتد ومستغل وتخضع الأخلاق للنقد والتغيير وفقا لمقتضيات التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وهذا أخشى ما يخشاه الظلاميون وغيرهم من الرجعيين الذين هم دائما في حاجة إلى القوالب الجامدة وبالخصوص القائمة منها على الغيب لإرهاب الفقراء والمسحوقين.
هذا الصراع الذي لا ينتهي...
إن أحسن خاتمة لهذا الردّ في نظرنا هي التأكيد على أن الصراع الذي يُخاض اليوم بين اللائكيين وأنصار الدولة الدينية، بين التقدميين والرجعيين ليس هو في الواقع إلا امتدادا لجميع الصراعات التي خيضت في مختلف مراحل تاريخنا بين قوى النور وقوى الظلام، بين ممثلي الطبقات المضطهَدة والطبقات المضطهِدة. وكما كان يتهم الناس التقدميون بالأمس "بالكفر" و"الزندقة" و"الردّة" فهم يتهمون اليوم "بالإنبتات" و"قلة الأصالة". ولكن الفارق الكبير مع الأمس، يتمثل في أن القوى التقدمية تخوض اليوم صراعاتها مع القوى الرجعية وهي في موقع هجومي، مسلحة بأدوات فكرية ثورية يسندها تقدم العلوم والمعارف البشرية كما تسندها التجارب الثورية لما يزيد عن القرن التي تشكل الطبقة العاملة محورها.
إن هذا الموقع لهو خير حافز للقوى التقدمية على المضي قدما، لا تخشى المصاعب، نبراسها البحث المستمر عن الحقيقة لأن الحقيقة وحدها ثورية.
تونس، 18 مارس 1988
تعليقات
إرسال تعليق