عن حضور حفل العرض الافتتاحي لمسرحية يحي يعيش :
يَحْيَ يَـعِيش أمْ
نَعِيشُ، نعيشُ ويَحْيَا الوَطـَنْ*؟
الجزء الأوّل

بقلم: رضا البركاتي

هي سنة برمّتها وانقضتْ.

انتهت السنة السياسية والانتخابوية والنقابية والقضائية والحقوقية والدراسية أيضا وانسدل الستار على الموسم الثقافي.

ومع نهاية شهر ماي المنصرم انتهت عروض "يحي يعيش" مسرحية الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار. ولأنّ الموسم ينتهي بالحصاد والدِّرَاس فلا بدّ من السؤال عن الصّابة. ماذا بقي بالمحصلة من موسم 2010 في حقول الإبداع الثقافي عموما والمسرحي خصوصا؟

ثمّة عناوين جديدة أزهرت في الربيع الفائت وتقدّمت لمعرض الكتاب نذكر منها "رغم أنفك" لعبد الجبّار المدوري و"أبناء السحاب" لمحمّد الجابلّي و"عمّ حمــدة العتّـال" لمحمّد صالح فليس وغيرُها غيرُ قليل...

أمّا على خشبة المسرح فبعد "خمسون" [1] نذكر "وطن" [2] و"رحيل" [3] و"آخر ساعة" [4] و"الناس الأخرى" [5] وهي من الأعمال التي شدّ لعبها على الركح الاهتمام.

أعمال أدبية ومسرحية وسينمائية وتشكيلية هي مرآة عاكسة لصورة البلد ولاهتمامات النّاس وأحلامهم وانتظاراتهم لذلك تستوجب الوقوف عندها بالتحليل والاستقراء لتتبع حركة الإبداع والسؤال عن مواكبتها لحراك المجتمع ومدى إنصاتها لنبض المخاض وتسجيلها لأنفاس الجنين واستشرافها للآتي.

إذا، بعد "خمسون"، طلعت علينا دار "فاميليا" بـ"يحي يعيش".

لستُ أدري لماذا شعرت بشيء من الارتياح لبرمجة العروض بقاعة "المونديال" (هاني جوهرية سابقا) بنهج ابن خلدون. ربّما لأنّي لازلتُ أذكر آخر عرض حضرته بالمسرح البلدي وكيف تسرّب البرد إلى جسمي صاعدا من قدميّ اللتين تجمّدتا. ثمّ إنّ المسرح البلدي بطرازه الذي يذكّر بالنهضة الإيطالية ينتمي إلى المسارح الكلاسيكية ويذكّر بالإرث المعماري الاستعماري... كنت شغوفا به، مولعا بالدخول إلى فضائه الفخم، مبهورا بعلوّ سقفه واصطفاف شرفاته وإطلالة "الميزانين". نقوشه ومنحوتاته وتماثيله تُخْبركَ بأنّك في حضرة مِعمار يمثّل سلطةً هي سلطة الفنّ.

ولكنْ سلطة أيِّ فنٍّ؟ فنُّ من؟

سلطة الفنّ كانت في العشريات الأولى (الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات) بقبضة الدولة "الوطنية الفتيّة"... واليوم، وتحت مظلة العولمة المتوحّشة، تراجع دور القطاع العام واستحوذ عليها التجار الذين تقاسموا الفنون قطعا مرقّمة تشظتْ وانتشرت في سوق البلد – على غرار السُّوق العالمية - سلعا باهتة خاوية لاهثة وراء الربح تتجاور وتتنافس مع الأكلات الخفيفة التي لا تُسْمِن ولا تُغْني من جوع. وهي ألوانٌ فاقعة قبيحة وروائحُ فوّاحةٌ مفضوحة وإيقاعات هزّازة شطّاحة وأصوات نافرة ناشزة وكلمات هابطة مائعة.

ولكنَّ الحركةَ الثقافية في بلادنا تحاول جاهدةً أن تقفَ، أن تفكَّ القيودَ، أن تدفعَ شمسَ الإبداع الفنّي من وراء الحُجُبِ، أن تُطلق الكلمةَ الصادقة، أنْ ترسمَ الصّورة الحيّة، أنْ تُنْشدَ اللّحنَ الخالد.

والفنّ المسرحي في بلادنا تأصّل وله جمعياته وناسه ورجاله ونساؤه أيضا بالتأكيد وإن انحنى منه العودُ الغضّ الطري في بعض الحالات فإنّه لم ينكسرْ – ولن ينكسرَ – وهو في غابة الفنون روض ما انفكّ يطرح ثماره المتنوعة ألوانا وأذواقا...

و"المسرح الجديد" شجرة أصلها ثابت في الثرى وفرعها فارع في الثريا. وهو مدرسة على الخشبة ومذهب في المجال. ودار "فاميليا" اسم وحسب ونسب. والفاضل وجليلة وفاطمة أعلام على رؤوسهم نار.

لقد عوّدنا "المسرح الجديد" برصد حال المجتمع والغوص في الذات الإنسانية مهما تنوّعت واختلفت المواضيع المطروحة من مسرحية إلى أخرى منذ "التحقيق" [6] و"العرس" [7] فـ"غسّالة النوادر" [8] التي نزلتْ قربا من سماء الغيم وانطلقت سيولا من الكلام فعرّت المدفون وبشّرت بالميلاد الجديد في خريف الموت. ثمّ "عرب" [9] وقد ولع العُرب بالحرب بلبنان وغير لبنان وتبعتها "فاميليا" [10] وعلى إثرها "عشّاق المقهى المهجور" [11] وصولا إلى "جنون" [12] وأخيرا ومع "خمسون" [13] وقف الشعب يحصي ما حصد بعد نصف قرن من التعمية والتكميم والتعذيب.

ولقد كان كلّ عمل مناسبة للبحث في وسائل التعبير الركحي الملائمة وتجريب أشكال اللعب المسرحي القادرة على التبليغ واستنباط خيوط تواصل جديدة بين قطبي الفعل المسرحي: الممثلون والجمهور.

لقد عوّدتنا الجماعة، في كلّ مرّة، على الجرأة في الطرح والقوّة في الطرق والفنيات في العرض.

واليوم، وبعد "خمسون" ها هو "يحي يعيش".

فما هي مسرحية "يحي يعيش"، "أمنيزيا" [14]؟ أهي مسرحية سياسية أم نفسيّة؟ هل هي فحص دقيق لشخصية الوزير الأوّل المخلوع أم هي تشريح لماكينة السلطة؟ من هو يحي يعيش؟ ومن هي الشخصيات المحيطة به وماذا تمثل؟ كيف تجلّتْ الساحة السياسية ومكوّناتها في هذه المسرحية؟

1. الدخلة:
مدخل الفرجــة مدخل القراءة.

لمّا ولجنا القاعة، قاعة السينما والمسرح، لم نر الشاشة البيضاء العملاقة، شاشة الأحلام.

تركتِ الشاشةُ المجال للركح.

على مثل هذا الركح بمسرح الألمب [15] تُنجَزُ الأعمالُ الجليلة والأفعالُ الخالدة والصراعات الكبرى، صراعات الأبطال ضدّ الآلهة والأقدار من أجل تحرير الإنسان وتقرير المصير.

كان الركح فارغا.

الركح فضاء خالٍ من أيّ عنصر من عناصر الديكور. ولا يوجد ستار. كلّ ما في الأمر: سواد. اللون الأسود يسود. تراه في أرضية الخشبة، في الجدار الخلفي، أي في ظهيرة الركح وفي جانبيه اللذين يجسّدان عمقه، وفي جناحيه أي جانبيه على يسار ويمين عرض القاعة حيث بضع درجات في كلّ ناحية تسمح بالصعود إلى الخشبة.

شدّ انتباهي السواد والفراغ اللذان يؤثثان الركح.

ولكنْ ألهَتْني الحركةُ في القاعة وتوافُدُ الضُّيوف والتّطلعُ إلى الوافدين على حفل الافتتاح وتحيّة هذا وفرحة اللقاء بتلك وتهنئة قاصّ بمولوده الجديد... ألهاني كلّ هذا بعض الوقتِ حتى حان الوقتُ.

لم نسمع تلك الطرقات على أرضية الركح إيذانا ببداية العرض.

تقدّم السيد الحبيب بن الهادي، مدير الإنتاج بدار "فاميليا"، ورحّب بالحضور وطلب بكلّ أدب أن يأخذ كلّ مكانه معلنا بداية العرض.

وتحرك كلٌّ في مقعده وعدّل من جِلْسته وبدأ الهدوءُ يعُمُّ القاعةَ والسُّكون يسود وشخَصَت العيون أمامها تنتظر ولمّا امتدّتْ اللحظات وطالتْ صارت العين تَبْحث عن شيء، عن علامة، عن إشارة في الفضاء الركحي الأسود. لا شيْءَ. البؤْرةُ السّوداء سوداءُ، ساكنةٌ، غامضة، مبهمة، مغلقة.

تمطّى الزمن. طال الانتظار.

هي لحظة واحدة وطالتْ.

هل هذا مندرِجٌ في المسرحية؟ هل تعطّل الجماعة وهذا مجرّد تأخير أم بدأ العرض وهذه لوحة الافتتاح؟

لا أظنّ الأمر تأخيرا أو تقصيرا من جماعة المسرح الجديد المدرسة العريقة، الجديّة، التي اكتسبت الاحتراف من زمان وربّانها مولَعٌ بالتوغّل في المجاهل وبالتجريب في بحور الفنون الركحية.

انتبهي أيّتها العين وانْظرِي. وتَيَقَّظْ يا راصد الجمال المنشود وتَهَجَّأْ يا طالبَ الفنّ المفقود.

ما المقصود؟ الركح، مسرح الأحداث وخشبة العرض بؤرة سوداء. ولماذا امتداد لحظة الانتظار، لحظة البداية، لحظة الهدوء هذه أمام هذه البؤرة السوداء؟

لعلّ الدخلة ستكون بالإنارة باللعب على أوتار فنّ الأضواء... نظرتُ إلى سقف الركح فإذا الفوانيسُ العديدة المعلقة سوداءُ هي أيضا بعضها يرسل ضوء عاديا، عاديا جدّا، وأغلبها مغمض الأجفان. الضّوء لا يُوجَّهُ إلى عنصر من الديكور إذ لا ديكور في الفضاء الركحي. ولا يمسح منطقة. لا يحدّد بقعة. بل ظلّ الضوء المرسل بهرة معلقة في هذا الكهف المظلم يحاول الانتشار في المجال ولكنّ السَّواد يَصُدُّه. صراع معلّق بين النّور والعَمَى، بين ضوْء فجرٍ جديد وظلام ليل بهيم. لكأنّه السَّحَرُ.. هل هي لحظة الخلق الأولى في سفر التكوين؟ وامتدّتْ العينُ إلى فوانيس القاعة فوجدتْ القاعةَ مضاءة إضاءة عادية جدّا بل لعلّها أقلّ من العادي نورا وإشعاعا. لكأنّ إنارتيْ القاعة والركح إنارة واحدة لفضاء واحد.

هل هذا جزء من المسرحية؟ هل هو داخل في العرض؟

لعلّه مشهد البداية أو لوحة الافتتاح.

البداية. مشهد يلفّه الهدوء والسكون والصمت والسواد. لا حركة، لا صوْتَ، لا شخصية لا ديكور لا لعب بالأضواء.

ما المقصد؟

وأحسَسْتُ تململا خلفي وسمعتُ همسا هنا وهناك فحسِبْتُ المللَ غزا الحضورَ والحيرةَ تفشّتْ في القاعة. نظرتُ إلى جارتي، وما كنتُ أراها أو أشعر بوجودها، فقالت همسا بعيْنيْها: "انظرْ" وأشارت بوجهها الذي امتدّ والتفتتْ إلى الخلف.

فالتفتُّ.

رأيتُ شخصا في كسوة سوداء في هيأةٍ غريبة، إنّه ليس متفرّجا. اتخذ وجهُه سحنةً ما ثابتة، يمشي ببطء وينظر في الفراغ. وإذا بثان يتبعه بنفس الكسوةِ السوداء والنظرةِ والمِشيَة.

ثمّ انتبهتُ إلى أنّ جانبا من الجمهور الذي قُبَالتي ينظر مشدوها إلى جانب القاعة الثاني، يسار القاعة، الذي صار خلفي. فالتفتّ وإذا بثلاث شخوص أخرى بنفس اللون الأسود والهيأة تتقدّم الهوينى خطوةً فخطوة. تخالُ أقدامهم لا تلمس الأرض. وكأنّهم يمشون على قطن السَّحاب. نظراتهم شاخصة. كلّ واحد تعلّقتْ نظرته بنقطة في الفضاء انشدّ إليها وقد اكتسى وجهه تعبيرة واحدة ثابتة لا تتغيّر، أو هو ينظر إلى الجمهور. يتفحّص الوجوه. يمسح القاعة بنظرته الغائمة السّاهمة. يتقدّم شبحا أسود وقسمات وجهه جامدة لستَ تدري عمّا تعبّر. شبح خارج من ليل، من حلم، من ذاكرة، من زمن ما، من عالم آخر...

ولحق بهم رابع ثمّ خامس وامتدّ صفّ الشخوص وكل واحد قد اتخذّ هيئة وظلّ شاخصا إلى الجمهور يسبح واهما بين وجوه الجمهور. وسمعت حولي من يهمس: "جليلة في الناحية الأخرى". والتفت إلى يمين القاعة، فوجدت نفس الصفّ تقريبا: أربعة أو خمسة ممثلين يتقدّمون ونفس المسافة بينهم وقد بلغ أوّلهم الصفوف الأولى من المقاعد. كان أوّلهم يتقدّم في نفس الهيئة بنفس الخطوة وعينه المشدودة إلى نقطة وعلى وجهه قناعه الذي رسمه بتقاسيم وظهر به.

كان أوّلهم، وهو يقترب من المدرج، ملتفتا إلى الخلف، إلى الجمهور، في حين أنّ جسمه ظلّ متوجّها إلى الأمام، إلى الركح، وهو يمشي القهقرى ويتبعه من كان بعده بنفس الانشداد إلى الجمهور يتفحّص الوجوه ووجهُه بنفس التعبيرة.

وكذلك كان الصفّ الآخر في الطرف الآخر للقاعة والصفّ الثالث في وسط القاعة.

ثلاثة خطوط ارتسمتْ شيئا فشيئا. تتقدّم في بطء.. بطيء. تطلَع من خلفية القاعة، من الجمهور، من خلفه من ضلعه الأيمن ومن ضلعه الأيسر ومن قلبه. والآن، من بين يديه، يبدأ صعود الدرجات عتبةً عتبة، شبحا فشبحا وتغزو هذه الأشباح الطالعة من رحم القاعة خشبة المسرح والصَّمْت دوما يسود والدهشة تتملكنا أكثر والحيرة تقتاتُ منّا.

هذا الجمهور قد صار مشدودا إلى الركح. بعد أن كان إلى الخلف ملتفتا وإلى جانبيه منتبها.

هذه الدخلة وما حفّ بها من إنارة وفراغ الركح واللون الأسود والصّمت وغياب الموسيقى... الدخلة ومجموع العناصر الفنيّة تؤلف معنى.

ولا يمكن أن نفهم إلاّ كون هذا العرض طالع من الجمهور. وهذه الحكاية خارجة من ذاكرة الجمهور، من الذاكرة الجماعية.

وهمست جارتي: "أليستْ هذه "فازة" "بريشتية" [16]؟"

2. الذَّاكرة:
إنّمَا جَماعةٌ بلا ذاكرةٍ قطِيعٌ يُقَادُ إلى المَسْلَخ.

صرنا نتابع تحرُّك الشخوص على الفضاء الركحي، وهي تموج كما الأشباح التائهة كما الأفكار السابحة.

وراحت الجماعة تتحرّك في الفضاء الركحي فتشغله. صارت الجماعة تتحرّك كما الذرّات في معادلة كيميائية، وكأنّهم خلية نحل عند باب المنحل.

ثمّ بدأ الانسحاب من الركح عبر الجانبين، على اليمين واليسار بطريقة مثيرة للانتباه: يمضي الواحد منهم نحو الجدار الأسود، الأظلم وهو يسير إلى الوراء بنفس تلك الهيئة النائمة الحالمة... تعاودك صورة أو فكرة الماشي في النوم وأنت تنظر إلى الشبح الأسود يمشي القهقرى ويقترب الهوينى من جدار الظلام فيغوص فيه تدريجيا. يبتلعه الظلام شيئا فشيئا حتى يغيب كلّيا.

ولمّا غاب آخرهم، بدا أوّلهم، من الناحية الأخرى وبيديه كرسي أبيض. يتقدّم والكرسي أمامه وكأنّه سيقدّمه لأحد. ويتبعه كلّ فريق الممثلات والممثّلين. يخرجون من طيّات الظلام، من هنا وهناك وكلّ واحد يرفع كرسيّه أمامه. وتصطفّ الكراسي بالعرض، في صدارة الركح، قبالة الجمهور، في صفّ مستقيم، منتظّم، ويجلس كلّ على كرسيّه. وسرعان ما يدخل كلّ واحد، أو واحدة، منهم في سِنَةٍ من النوم.

هيئات. آهات. أنّات. شخير. أجسام تتلوّى. أعضاء تتمطى. أياد تمتدّ في الفضاء كأنّها تحاول القبض على شيء معلّق. أحلام هاربة. كلماتٌ تفلتُ من عُقال عقْلٍ نائم فتخرج مبهمة مرّةً مُفصِحةً مرّة أُخرى عن أمنيةٍ، عن رغبة، عن كبتٍ، ممجوجةً بين أشداق فمٍ يتلذّذُ حلاوة النعاس. وقد تستحيل النعسة عند هذا أو تلك حالةَ توجّس وخوفٍ فترى الأعضاء تنكمشُ والرأسَ تنخفضُ واليديْن تمتدُّ دافعةً وترتدُّ مُدافِعة.

ثمّ قاموا تباعا. وراحوا يحلمون يتحرّكون. يتواصلون وهم نائمون.

وفجأة دويّ انفجار.

إنّه انفجار طلق ناري.

ويُحطم انفجارُ الطلقِ الناري جدارَ الصمت المطبق على المشهد. ويهتزّ كلّ واحد من الجمهور ويدكّه الدَّويُّ في مقعده دكّا. وعلى الركح تعمّ حالة فزع مرعب. ويجري كلٌّ في كلِّ اتجاه. ويتتالى دويّ زخّ الطلق الناري. وتتهاوى الأجساد وتتلوّى وتحاول النهوض وتسقط ثانية. والطلق يقتنص كلّ من يتحرّك وكلّ من يظلّ واقفا. ويلاحق كلّ من يحاول الهروب ولا مفرَّ. ويطول المشهد. ولا ينقطع الطلق بل تقلّ وتيرته بقدر ما تقلّ حركة الأجساد. ويسقط آخر من كان واقفا. ويتلوّى جسد هناك فتأتيه طلقة منفردة. وتحاول رأس أن تنهض فترديها طلقة مصفرة مديدة. تتحركّ جثة فتجهز عليها طلقة خاصة.

وتهيّأ لنا، نحن الشهود، أنّ المقصود أحداث 26 جانفي 1978.

وتعود الحركة. وتعود الحياة. وتنضاف الموسيقى.

وفجأة الفجيعة الثانية. ويُلعْلِع الرصاص ثانية. نفس المشهد يتكرّر. هل هي أحداث انتفاضة الخبز في الثالث من جانفي 1984. أم هي أحداث قفصة الأخيرة ذات الهدنة شبه المعلّقة؟

كانت أحلاما تتمطّى بمعسول النعاس. وإذا بها أحلام مزعجة بل كابوس مرعب.

وكاد النسيان يَطْويها. وها هو الفنّ المسرحي يُجليها فَيُحْيِيها.

إنّ جماعةً بلا ذاكرة هي قطيع يُقاد إلى المسلخ.

فما الحكاية؟

3. الحكاية:
حكاية يحي يعيش.

يحي يعيش هو وزير أوّل أُقيل من منصبه. ويعلم بإقالته عن طريق نشرة الأنباء المسائية. ثمّ يتعرّض لجملة من التضييقات: يمنع من السفر. تمنع عليه الزيارات. يتخلى عنه صهره. ثمّ تحرق مكتبته وقد أخذه النعاس أثناء المطالعة. يتخلّى عنه محاميه الذي هو صنيعته. ويعيش في المستشفى في عزلة تامة حيث البوليس متواجد ليلا نهارا دون انقطاع. وتتعاون الإدارة ويمنع على أيّ كان أن يكلّمه أو يتّصل به ما عدا محرز الممرّض أو فريق الأطباء. ووُجِدَ من بينهم مَن نسِيَ قَسَمَ... وقبِلَ أن يلعبَ الدورَ الذي طُلِبَ منه فيأخُذُ الفحص الطبي شكلَ وطابعَ الاستنطاق البوليسي... والمسألة: هل كان حريق المكتبة محاولة انتحار أم محاولة اغتيال أم مجرد حادث؟

ثمّ إنّ الطبيب الخاص لسي يحي قَبِلَ أن يتعاون معـ(هم) من أجل المصلحة العامة ولتجنيب الوطن القلاقل وبفضل تقديمه الشهائد الطبيّة المطلوبة فاز بحقيبة وزارة الصحة...

إذا تدور المسرحية حول الشخصية المحورية.

يحي يعيش تجلى بمثابة الشمس. هو المركز والكلّ من حوله في مداره يدورون.

إذا من حوله؟ وماذا حوله؟ وكيف وقع بناء الحكاية ركحيا وعرضها على الخشبة؟

الجزء الثاني والأخير

(*) نعيش نعيش ويحيا الوطن، هي الصيغة المقترحة من الشاعر أولاد أحمد لتحوير مقطع من نشيد الثورة: نموت نموت ويحيا الوطن. وجاء الاقتراح بدار الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء أزمة 1985، لمّا حاصر البوليس والمليشيا دار الاتحاد. ورفع النقابيون النشيد، نشيد الثورة موقّعا بإرادة الحياة...

يحي يعيش

سيناريو ودراماتورجي ونصّ جليلة بكّار والفاضل الجعايبي
إخراج الفاضل الجعايبي
سينوغرافيا قيس رستم
موسيقى جيرار هوربات (آرت زويد)
إنارة الفاضل الجعايبي
ملابس أنيسة البديري
مع جليلة بكّار. فاطمة بن سعيدان. صباح بوزويتة. رمزي عزيّز. معزّ المرابط. لبنى مليكة. بسمة العشّي. كريم الكافي. رياض الحمدي. خالد بوزيد. محمّد علي القلعي.
مساعدة مخرج وتوضيب صوت نرجس بن عمّار
توضيب إنارة نعيم الزغّاب
توضيب الملابس جليلة المداني
توضيب الإنتاج نزهة بن محمّد
إدارة الإنتاج الحبيب بالهادي
إنتاج فاميليا للإنتاج
2010 المسرح الوطني بون ليو آنسي. المركز الوطني للمسرح بوردو. المركز الوطني للمسرح ليموج والمركز الوطني للمسرح إيفري.
ومساهمة معهد التّعاون الفرنسي
بمساندة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث.

مع كلّ الشكر لسهام بلخوجة وطاقم فضاء "ناس الفنّ" تونس وفريق فضاء المونديال.

[1] خمسون هي المسرحية الأخيرة من إنتاج دار فاميليا، سنة 2006، خمسون سنة بعد الاستقلال، عرضت خارج تونس ثمّ سمح لها بملاقاة الجمهور بتونس بعد حوالي سنتين.

[2] وطن: مسرحية أنجزت في إطار مشروع التخرج بالمعهد العالي للفنون الدرامية بتونس وقدّمت في جوان 2009، وهي بإمضاء: سهام عقيل ومجموعة من الطلبة.

[3] رحيل: مسرحية من إخراج عبد الفتاح الكامل فرقة المزّونة عرضت بضع مرّات بتونس وفي بعض الجهات لاقت نجاحا، إذ فازت ببعض الجوئز، وقبولا حسنا في صفوف الجمهور.

[4] آخر ساعة: مسرحية عزالدين قنّون وليلى طوبال، إنتاج مسرح الحمراء، 2010.

[5] الناس الأخرى: مسرحية توفيق الجبالي، إنتاج مسرح التياترو، 2010.

[6] التحقيق : مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.

[7] العرس: مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.

[8] غسّالة النوادر : مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.

[9] عرب: مسرحية للفاضل الجعايبي، إنتاج المسرح الجديد.

[10] فاميليا: مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج

[11] عشّاق المقهى المهجور

[12] جنون : مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج

[13] خمسون: مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج

[14] أمنيزيا مسرحية للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، فاميليا للإنتاج

[15] الأولمب، جبل الأولمب،

[16] بريشتية: نسبة لبريشت، برتولد بريشت أو بريخت، (1898 – 1956)، رجل مسرح ألماني، تأليفا وإخراجا ونقدا وتنظيرا وشاعر واجه النازية في الثلاثينات والأربعينات ، فرّ إلى فنلادة ولمّا غزتها القوات النازية لجأ إلى أمريكا حيث حوكم واعتبر غير مرغوب فيه. عاد إلى موطنه، بعد نهاية الحرب، وعاش بألمانيا الشرقية حيث واصل نضاله الفكري والثقافي.

قراءة في مسرحية يحيى يعيش للفاضل الجعايبي :
يَحْيَ يَـعِيش أمْ
نَعِيشُ، نعيشُ ويَحْيَا الوَطـَنْ؟
الجزء الثاني والأخير

بقلم: رضا البركاتي

للتذكير كنّا قد وضعنا، في العدد الفارط، في الجزء الأوّل من هذا المقال، مسرحيةَ يحيى يعيش في إطارها العام، في خضمّ الحراك الثقافي، وفي إطارها الخاص، في الساحة المسرحية وفي المسار الإبداعي للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار، في المسرح الجديد ودار فاميليا.

ثمّ دخلنا المسرحية. وتوقفنا مطوّلا مع الدخلة على قدَر طولها وبأناة على قدَر بُطْئها وبهدوء على قدر صمتها واعتبرناها مدخلا للقراءة ورأينا فيها نقْشةً بريشتية.

لقد غاب الحوار في الجزء الأوّل من المسرحية واعتمد التعبيرُ أساسا على الممثلين وهيئاتهم وحركاتهم وظهورهم من بين صفوف الجمهور كما شدّنا عُرْي الركح وخُلُوِّه من الديكور... ورأينا في كلّ ذلك إشارة واضحة لكون الحكاية نابعة من الجمهور، طالعة من الذاكرة الجماعية... بل أنّ القاعة والركح فضاء واحد من حيث الاستغلال في الأداء المسرحي والإنارة كما أنّ الجمهور والممثلين واحد فالممثلون من الجمهور والجمهور يلعب دور الحضور ودور الشاهد ومنه يطلع الممثلون... فهو صاحب الحكاية التي تخرج من صفوفه، من ذاكرته، من أحلامه، من...

وأخيرا عرضنا تلخيصا موجزا لحكاية يحيى يعيش الوزير الأوّل الذي عُزِل من منصبه وحُوصِر ومُنِعَ من السفر وكان ضحيةً لحريق شبّ بمكتبته... لا ندري إن كان محاولة اغتيال أو محاولة انتحار أو مجرد حادث.

لا أخفي أنّي عند هذا الحدّ تملّكتني الحيرة من هذه المسرحية.

لم تزرع المسرحية فيَّ حيرة بشأن موضوع ما، مسألة ما، قضيّة ما ولكنّي وجدتُني في حيرة بشأن المسرحية ذاتها. أشعر بقلق تجاهها. هناك أمر ليس في محلّه. لكأنّ بيني وبين المسرحية وعد ولم يقع الإيفاء به. أو بيني وبين مخرجها، مؤلفها، صاحبها، فردا كان أو جماعة، عقد ما ولم يقع احترامه.

سألت حولي عن الرأي في المسرحية، عن الانطباع الحاصل، عن القراءة، عن.. الفهم وغالبا ما يسأل الناس بعضهم عن أعمال المسرح الجديد ودار فاميليا: هل فهمتَ المسرحية؟

وانتظرتُ الأصداء لعلّ وعسى ينجلي المستور ويتجلّى المغمور تحت الغموض المركب بتقنيات الفنون الركحية.

ثمّ عدْتُ لمشاهدة المسرحية ثانية قبل أن ينتهي برنامج عرضها وتبيّن لي في الأثناء أنّ الذين عادوا لمعاودة الفرجة ليسوا قلّة...

هناك من عاد مبهورا مسحورا ولعلّ دور الفنّ عنده ووظيفته وفعله يتوقف عند المتعة والفتنة والافتتان والسحر والانبهار من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون يكتفي بالكليشيات التي تفضح عيوب الواقع وتشهر بالفعائل وتكشف العمائل سواء كان ذلك للترويح عن النفس وتفريج الكربة من نكد اليومي الرازح على الكاهل أو لإضفاء طابع النقد الاجتماعي والسياسي على العمل الفني فينهض مشحونا بالجرأة...

وهنالك من عاد ليراجع درسه ويفهم نصّه ويرتّب حكايته وينظّم مفاصلها ويتعرّف الأشخاص الفواعل ويحدّد الأحداث الكبرى ويرسم خطّ الصراع ويفصل الزمن الماضي عن حاضر الزمن السّاري وعن زمن الخيال والحلم والارتداد و.. الهذيان أيضا.

ولكنّي عدتُ لأتثبت كيف تخرج الذاكرة من التلفزة الرسمية.
عُدْتُ لأبحثَ عن حلقة مفقودة، عمّا ليس فيما هو معلن، منشور، معروض.
عدتُ لأتبيّن بعض الأشباح وأستجلي صورتها.
عدت لأسأل عن زمن الاستشراف.

أخبار السلطة في التلفزة وذاكرة الناس في قلوب الناس.

إذن تلك هي الحكاية.

بدأت الحكاية بـ: "عيد ميلاد سعيد" وانتهت بـ:"عيد ميلاد سعيد". بدأت دقيقتين أو ثلاث قبيل الثامنة مساء موعد نشرة الأنباء بالتلفزة الوطنية. وأوّل ما نَبسَتْ به شفةٌ كان السؤال عن الوقت.

وانتهت بالسؤال عن الوقت، في الدقيقة التاسعة والخمسين بعد السابعة.

سي يحي ظهر واحتجّ وارتجّ وتكلّم وعبّر عن موقفه ودافع عن سياسته وتصوّراته واختياراته فوضّح مبادئه وبيّن صدقه وولاءه للوطن وطرّز دفاعه بألوان المقولات المنتقاة من المعجم الديني التي جاءت بصوت مُفَخَّمٍ مُنَغَّمٍ كأنّه صادر من طبقة ما بين السّماء والأرض فأضفى قدسية رسمية على خطاب رجل رسمي خارج السلطة لا ينفكّ يؤكّد كونه من السلطة وإليها...

وقبالة سي يحي السلطة. فكيف تجلّتْ السلطة؟

السلطة لم تظهر. لم تتجسّد في شخصيّة تمثّلها. لم تتجلّ بوضوح ولكن وَقَعَ التعبير عنها بضمير الغائب (هم). هي غائبة بل هي هامة هلامية لم تتجلّ ركحيا ولكنّها كانت حاضرة بثقلٍ بفعلها الذي يتلخص في عزل سي يحيى ومراقبته ومنع كلّ اتصال به وصدّ كلّ من ينوي الاهتمام بالشأن العام وذلك عبر أدواتها: البوليس حول داره وفي المطار وفي المستشفى.. في كلّ مكان والمليشيا التي دخلت البيوت وقسّمت العائلات فابن محرز الممرّض مليشيا... وكذلك الإدارة وقد غُيِّبَ القانونُ ودِيسَتْ المؤسسات فأصبحت الإدارة جهازا يَمْتَثِلُ لتعليمات البوليس ويهاب المليشيا، كذلك كان شأن إدارة المستشفى. فالمتفرج يشعر بحضورها الخانق يزداد خنقا كلّما تقدّمتْ الحكاية وزاد التضييق كبْسًا حول سي يحي.

هذا سي يحيى.
وهذه السلطة.
لوحة سوداء. كابوس. وسي يحيى يرفض أن يُدْلِيَ بتصريح ولا ينفكّ يؤكّدُ أنّه من السلطة وإليها.

لقد استمتعنا بتلك الدخلة الرائعة التي دامت أكثر من نصف ساعة (والمسرحية تدوم حواليْ ساعتين). كان الأداء رائعا والفنيات الركحية غاية في الجمال إذْ جمعتْ بين قِلّة الوسائل وبساطة الطرُق وقوّة الدلالة وعمق المعنى ففتحت الركح على القاعة وأدمجتْ القاعة في الركح وولّدت الممثلين من الجمهور وقالت لنا الدخلةُ بصريح العبارة الركحية أنّ الحكاية منّا وإلينا وعنّا من ذاكرتنا الجماعية وعن همّنا العام المشترك.

هذا هو الوعد. هذا هو العقد.

وعد معلن بالفنيات الركحية.
عقد مبرم بالتقنيات البريشتية [1].

وإذا بها حكاية سلطة عن السلطة في صفوف السلطة والقادح خبر عزل في التلفزة، تلفزة السلطة.

لذلك قالت العُقَلاءُ: أخبار السلطة في التلفزة وذاكرة الناس في قلوب الناس.

استحضار الغائب وتغييب الحاضر.

إنّ العالم الذي أنشأته المسرحية ميكرو [2] مجتمع به الوزير والطبيبة والمحامي ومضيّفة المطار والصحفية والممرضون والعاملات أيضا. وبه إشكال سياسي.

فما هي صورة العمّال والعاملات ومن إليهم في المجال النقابي والسياسي؟

قدّمت الفرقة لوحات جميلة تذكّر بتلك اللوحات التي كانت تبدع فيها بنات وأولاد تونس الذين كانت تهزّهم في الستينات فورة "الاستقلال" وحماسة الوطنية وبناء الدولة الجديدة وقد وفدت علينا تلك الألعاب مع أفواج من الأطباء من أوروبا الشرقية التي كانت تتغنّى بانتصار الشّعب على الفاشية والنازية وصعود الشغيلة إلى دفّة الحكم والبناء الاشتراكي.

ذكّرني المشهد بتلك الحركات الجماعية. فطفا الماضي البهيّ ليخفف من وطأة الحاضر الرديء. وغابت الأشرطة الحمراء والعصي الخفيفة الملوّنة التي يلوّح بها الشبان في الهواء في زهو، والأطواق (الدوائر البلاستيكية) التي ترقص بها البنات، وطلعت أدوات عاملات التنظيف... فتحركت المجموعة في الفضاء الركحي طولا وعرضا في صفوف متلاحقةٍ داخلةً خارجة والظهورُ مَحْنِية والرؤوسُ مُطأطأة والأيادي ممدودة والأقدام مُهرولة والأسطل تَهتزّ وتنتفضُ كدلاء بئرٍ نَضَبَ ماؤها والمكانس تُرْفَعُ وتُخْفَضُ كرايات تَنْتصِرُ وتَنْهزِمُ.

وفي مشهد لاحق خرجت صباح بوزويتة لتقرأ باسم زميلاتها العاملات في حضرة سي يحي عريضة تصف حالتهنّ وظروف العمل ومعاناتهنّ اليومية وتطلب من سي يحيى التدخل لترسيم عدد منهنّ...

لقد كان نصّا جميلا مرتّبا ترتيبا حسنا عجيبا وكان أداؤه بديعا... ولكنّه ماذا يفيد في السياق العام؟

لكأنّ الجماعة لا تفهم أنّه انتهى سياسيا وليس له أيّ قدرة أو دخل أو فعل.

أو هل المقصود أنّ هؤلاء يفهمون أنّه من السلطة وإلى السلطة وأنّه، ولعلّه، وكأنّه، عائد إلى موقعه وما هذا إلاّ مجرد مرور عابر قرب الشعب الكريم وسوف يطفو ثانية ويعلو بقدرة العليم القدير وعندها سيتذكر سي يحي هؤلاء الناس الطيبين الذين ظلوا يؤمنون به، لمّا نسيه الكلّ، ويرفعون من شأنه لمّا زلّت به القدم... لذلك وجب الرهان عليه؟

ثمّ محرز الممرّض الذي يُكلّف بالسّهر على سي يحيى وهو الوحيد الذي يبقى على اتصال به...

نتابع التقدّم الأحداث فإذا بمحرز نقابي...!!
هكذا، في سياق الحوار، تطلق الصفة النقابية عليه. وعدا ذلك لم نر منه ما يشير إلى الصفة النقابية.

فكيف يقع اختياره لتلك المهمّة؟ هل للإدارة ثقة فيه؟ هل هو نقابي في السريّة أم في سرّه؟... فكيف تطلق عليه هذه الصفة مجانا؟

وبعد ذلك، نُفاجَأ ثانية لمّا تطلق صفة ثانية على محرز فإذا هو إسلاميٌّ وأيُّ إسلاميٍّ؟ إسلاميٌّ ذو ميولات عروبية.

ومحرز هو الذي رتّب اللقاء مع الصُحُفيّة التي تسعى منذ البداية (في مشهد المطار) للحصول على حوار مع سي يحي.

ويصرّح محرز لزوجته، في نهاية المسرحية، أنّه يريد الوقوف إلى جانب سي يحي وإعانته على الفرار من البلاد.

من هو محرز؟
قد يوجد أمثال محرز في الساحة النقابية التي تضمّ الجميع -على كلّ لون يا كْرِيمَهْ- ولكن، من ناحية البناء الدرامي، تبدو شخصية محرز شبيهة بذلك الكيس الذي يُحْشَى به كلُّ شيء (Fourre-tout)، كلّ الأشياء التي قد يحتاجها مسافر على عجل.

إنّ المسرحية في بنائها ولعبها وإخراجها راقية، قويّة، متينة في مجملها لا شكّ في ذلك... ولكن لماذا هذا الخلل في بناء شخصية محرز التي غطّى على هناتها، رياض الحمدي بحضوره الركحي وحسن لعبه وصدق أدائه؟

عموما، إنّ صورة النقابي المقدّمة والحاصلة لا تتماشى والزلزال الذي هزّ في الدخلة ودوّى رصاصه ولعلع والذي فُهِم على أنّه أزمة 26 جانفي النقابية...

هل يعود ذلك إلى قلّة الاهتمام بهذا الصنف وعدم الاكتراث بنشاطه...؟

أو لعلّه موقف من العمل النقابي وما إليه يحمله أصحاب العمل المسرحي.

أمّا ما يمكن تسميته باليسار في معناه الواسع فهو غير ممثل في يحيى يعيش وإن كان لا يمكن اعتبار هذا نقيصة إذْ قد نُلَامُ على المطالبة بحشره في موضوع لا يعنيه!... فإنّنا نتساءل بالمناسبة عن صورة اليسار في خمسون.

لقد اخْتُزِلَتْ صورته في يوسف. فهل يمثل يوسف لوحده اليسار التونسي طيلة خمسين سنة؟

في الحقيقة يمثّل يوسف الجيل الأوّل، الجيل المؤسس لليسار الجديد، ولا أعرف أحدا لا يُكِنُّ له الاحترام كلّه ولا يَعْترفُ حقّ الاعتراف للجيل الرائد.

ثمّ الأهمّ من كلّ هذا من هو يوسف؟ وكيف قُدِّمَ هذا الرمز؟ كيف ظهر على الركح هذا النموذج الذي يختزل مسارا كاملا ليسارٍ لا يزال واقفا وعلى الدرب يسير؟

يوسف مُقْعَدٌ. يظهر على كرسي تقوده زوجته (مريم – جليلة بكار). عاجزٌ. مَهْزوم. لا يتكلّم. هو مناضل يساري حطّمته السجون وأقعده التعذيب. تعود ابنته أمل التي ربّاها على مبادئه، مبادئ الحداثة والحرية والمسؤولية... أمل – التلميدة- التي عادت إلى المنزل وهي تَبْكي يوم قال لها أستاذ التربية الدينية أنّ المرأة عورة... تعود أمل – الأستاذة - من فرنسا.. مرتديةً الحجاب.

وفي فرنسا كان صديقها أو خطيبها طبيب فرنسي وهو مناضل في جمعية أطباء بدون حدود وهو تروتسكي [3] وإذا به هو أيضا يعتنق.. الإسلام ويصبح.. سيف الدين..!!!

هكذا إذن صورة النقابيين والديمقراطيين والتقدميين واليسار مشوّشة في أحسن الحالات أو مشوّهة إن وجدت أو هي مغيّبة.

قد يقول القائل: فشلت "الدولة الوطنية" في مشروعها المجتمعي وعجز اليسار عن تبليغ مشروعه للمجتمع وطاح جدار برلين وهذه الحركة الإسلامية تطفو على الساحة.

ولكن لا يعني ذلك أنّ تجربة اليسار قد توقّفت أو انتهت... هذا غير موضوعي ويجانب الواقع لأن حِراك اليسار ظلّ موجودا وسيظلّ موجودا يدافع عن إنسانية الإنسان ما دام الصراع الاجتماعي قائم بين الناس. واليسار التونسي حبل وصاله ممدود وسلسلة تجاربه لا تنقطع وإن اختلفت الرؤى والمواقف والتكتيكات من جيل لجيل.

هذا أنا أنتمي إلى اليسار الثقافي (والاسم الحركي: الأجنف الثقافي) وهذه وذاك من اليسار النقابي والثالث ناشط في المجال الحقوقي وذاك مختصّ في مقاومة التعذيب والآخرون في النضال الجمعياتي وتلك مناضلة نسائية وهؤلاء طلبة يساريون يرفعون القبضة عالية وقد قضّوا السنة الدراسية وراء الشمس وهؤلاء يعلنون في المحاكم انتماءهم إلى حزب يساري والقاضي يقاطع ويضرب بمطرقة الأحكام والسجّان يُجلجل بحزمة المفاتيح.

هذا هو اليسار التونسي العنيد... هذا ما كان وهذا ما حدث أيّام سي يحي أيّا كان سي يحي... لنقل طوال خمسين طوتها خمسون.

العمل الفنّي الذي يتحلّى بالصدق الفنّي والقراءة الموضوعية والمعرفة الحقيقية للواقع يستحضر فيه الرسّام عصارة الألوان جميعِها كما يستحضر فيه الأديب عند الإنشاء عصارة القوانين التي تحكم حركة المجتمع ومختلف القوى الفاعلة.

لماذا بقي أدب بلزاك [4]، الذي ينتمي إلى طبقة النبلاء والمنحاز سياسيا إلى المَلَكِيَة، حيّا؟ لأنّه كان شاهدا صادقا على التحولات الاجتماعية فصوّر بصدق وموضوعية كلّ الأطراف الفاعلة: طبقة النبلاء الآفلة وطبقة البرجوازية الصاعدة وطبقة العمّال الواعدة.

فلماذا تمعن دار فاميليا، وهي في اعتبارنا دار كبيرة، في استحضار الغائب وتغييب الحاضر؟

ولماذا يقع اختزال الواقع في ثنائية: سلطة – إسلاميين. وهي ثنائية من إنتاج الطرفين؟

فكيف تتجلّى صورة الإسلامي؟

الإسلاميون:
بين الفزّاعة والدّمية

الإسلاميون ظاهرة هامة في واقعنا، مضخّمة في الحياة الاجتماعية والسياسية ومغيّبة في أغلب الأعمال الفنية تجنّبا للمحضور - دون منشور- ولكنّ الجرأة الفنيّة التي تميّز الفاضل وجليلة ودار فاميليا تمكّن من التطرّق إلى الموضوع بحريّة. والموقع الذي تحتلّه الجماعة يدعّم كلّ مشروع.

كيف يتجلّى الإسلامي في الأعمال الفنيّة عموما؟ وفي مسرح الجعايبي خصوصا؟

نادرا ما يقع التعرّض إلى الظاهرة ويقع تجاهلها وكأنّها غير موجودة أو غير هامّة أو إن شئت هي موجة على هامش المجتمع وقد حسم أمرها بالحلّ الأمني. ويقدّم الإسلامي حين يقع التعرّض إليه بنفس الصّورة التي يقدّمه بها الغرب: صورة الإرهابي. كذلك كان الشأن في شريط "ميكنغ أوف" للنوري بوزيد. وتُختزل الصورة في الصورة السلبية (كليشي-Cliché) المحمّضة في مخابر البنتاغون والمستنسخة في مخابر السلطة. وتُغَيَّبُ الأسباب والمسببات والملابسات والظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والإعلامية والسياسية والتاريخية والحضارية... بدْءا بالصدمة الحضارية (إذْ كيف نقف اليوم في العصر ونواجه بوش، ونحن لا نزال، في الأمس، في لحظة الصّدمة، أمام نابوليون [5]؟)

صورة الإرهابي هي صورة نمطية للإسلامي ولا تعكس الواقع المركّب، المعقّد، المتعدّد... وهي بناء ذهني سياسي وثقافي وليست مجانبة للصواب فحسب بل هي خطيرة لأنّها، تماما مثل قانون الإرهاب، لا تساهم في حلّ المشكل وإنّما تصبّ النفط على النّار وتؤجج صراعا مفتعلا، مشبوها، مشوّها... لا ناقة فيه ولا بعير لكلّ الأطراف المتقابلة.

وفي مسرح الفاضل وجليلة كيف كان الأمر؟

في يحيى يعيش لم تقدّم الظاهرة الإسلامية ممثّلة مباشرة في شخصية أو شخصيات على الركح. وإنّما ظهرت في الخلفية، في خيوط النسيج فنُذكِّرُ مثلا بالإشارة لكون محرز إسلاميا. وبتلك العبارة المحتجّة الفاضحة التي أطلقتها إحداهنّ في وجه سي يحيى: "تبزنس مع لِخْوانجية". وأخيرا ما سبق وأن لاحظنا عن المعجم الديني في خطاب سي يحيى.

أمّا في خمسون فإنّ الظاهرة الإسلامية ظاهرة كالقضاء لا راد لها...
فـأمل ابنة يوسف المناضل اليساري تجلّى لها الإسلام في أبهى صورة وارتوت من الصوفية فبان لها بهاءُ الخالق في مطلق حسنه وعجزُ المخلوق في كلّ فعله وتفاهة كينونته خارج دائرة العشق الربّاني فوضعت الحجاب وشاركتْ، جودة، السكنَ وهي زميلة لها في العمل، أستاذة، هي أخت في الدين، فَجَّرَتْ نفسها في ساحة المعهد تحت سارية العلم...

في خمسون صورتان: أمل وجودة.
إذا انبنت صورة جودة على العنف والتفجير والموت والإرهاب، فإنّ صورة أمل انْبَنَتْ، على نقيض ذلك، على المذهب الصوفي المُؤَسَّسِ على اللطف والمودّة والعشق المؤدي إلى الذوبان في ذات الخالق.

صورتان متقابلتان: الإرهابي والمتصوّف. الفزّاعَة والدُّمْيَة.

لئن وقع تجاوز كليشي الإرهابي بإدراج تجربة هي على النقيض منها فإنّ الظاهرة في مجملها لا تزال في حاجة إلى معالجات في شتّى ألوان الفنون علاوة على ضرورة العناية بها في البحوث والدراسات في مختلف العلوم: الإجتماعية والنفسية... والإنسانية عموما.

ويمكن أن نشير هنا إلى الكشف الذكي الذي قدّمه محمد الجابلي [6] في روايته الأخيرة أبناء السحاب لمّا بنى شخصية الابن بناء متماسكا معقولا في تفاعل بين تَمَزُّقِ الأسرة وأزمة المجتمع وانقلاب القيم وضياع المراجع من ناحية، وحيرة الشاب وضياعه في هذا الخضمّ المزبد.

الإسلام مبثوث في المجتمع التونسي، متزاوج مع النسيج الثقافي والحضاري والفكري للمجتمع وهو في وئام متوازن مع منزع الشعب التونسي للحداثة للمعاصرة للتقدّم للتسامح... وأقولها لللائكية.

الناس مسلمون ولكن لا يعني ذلك أبدا أنّهم إسلاميون.

فما معنى إسلاميّ؟ إنّها عبارة تستعمل (عمدا) بالمعنى الذي تفيده كلمة (زَعْ) التي تسوق الإبِلَ جميعَها. أو هي كذاك الكيس الذي تُحْشَرُ به كلُّ الأشياء حشْوًا. تحت إسلامي تجد بن لادن ورموز النهضة وأستاذ التربية الإسلامية وحمزة، ابن جارك، المراهق الذي يصلّي الصبح حاضرا في مسجد الحيّ ومروى ابنة زميلك التي وضعت الحجاب لسبب لا يعلمه من لم يبحث في الظاهرة... وصولا إلى عمّ عثمان العطار الذي رفض فتح دفتر (كريدي) لعرف ولد محرز الفرملي...

والإسلاميون الذين هم.. إسلاميون فإنّهم ليسوا كلاّ متجانسا. ليسوا كتلة واحدة بنفس المفاهيم والتصوّرات والمعتقدات ولا يصادقون على نفس البرنامج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. ولو وضعت أمامهم مختلف البرامج التي تشقى، كلّها، لتصل إلى عموم الناس، وتسنّى لهم قراءتها ومناقشتها والتفكير في واقعهم وحاجياتهم وطموحاتهم وفيها، لاختلفوا وتوزعوا بينها أحزابا (والحزب هو الجماعة أو الفريق).

الخاتمة
واستشراف الآتي

هذه إذن هي مسرحية يحيى يعيش المسرحية السياسية أو النفسية أو إن شئت البوليسية فالمهمّ ليس هذا أو ذاك، لأنّه بات من الواضح أنّ المسرحية مركبة وذات مستويات وأبعاد متعدّدة، وإذا كان هاما أن نحاول ضبط الموضوع والحكاية وإذا كان النظر في فنون الإخراج والتقنيّات والأساليب وكيفية الأداء مهمّا أيضا، فإنّ الغاية من كلّ ذلك تظلّ دوما، في نهاية المطاف، السعي إلى استجلاء المقصود.

كانت الفرجةُ ممتعةً حقّا بذلك الأداء الممتاز، والفرقةُ متجانسةً فعلا في ذلك اللعب دون نشاز.

جليلة بكار أدّت بـروعتها المعهودة عدّة أدوار فكانت على التوالي: الطبيبة والصحفية والعاملة... وكذلك الشأن بالنسبة لفاطمة سعيدان التي طلعت علينا في ألف لبوس وكلّما أطلّتْ أدّتْ وأبدعتْ فأمتعتْ.

واللّوم الوحيد هو ذاك الشعور بأننا دخلنا من الباب وخرجنا من الخوخة لأنّ مسرحية يحي يعيش لم تعتن إلاّ بيحي يعيش.

والمسرح العظيم في تقديري هو المسرح الذي، إلى جانب الجمال والفِتْنَة، يزرع فيك الحيْرةَ والسؤال ويدفعك إلى التفكير في ما هو كائن وفي ما يجب أن يكون. لا يتوقف عند توصيف الظاهرة ويتفنّن في جزئياتها وأطرافها والحواشي بل يدفعك إلى البحث عن الأسباب والجذور والخلفيات والدوافع وعن النتائج أيضا... الفنّ العظيم يجعلك تستكشف الظاهرة فتستجلي وجه النقد وقفاه (قطعة النقد) وذاك هو النقد الوجيه أي التحليل أو الاستقراء الصائب.

وما ضرّ لو تضمّن العمل الفنّي إشارة، ومضة، غمزة، إشارة، شعاعا استشرافيا يفتح نافذة أو كوّة نلتفت من خلالها إلى الآتي، آتي هذا الجمهور.

فماذا يعني أن يرى سي يحي أوصاله وقد قُطِّعتْ ونُشرتْ في كلّ اتجاه؟

كذلك كانت نهاية سي يحي.

هكذا كانت نهاية يحي يعيش:

وفجأة يختفي
"...أصوات تنادي
كاينّها طالعة من قاع بير
تلحّ
تهمس
توشوش
تزفّر
تغنّي في إسمي
يحي يحي سي يحي
حلّيت عينيّ وخزرت
ريت يحي يعيش
ساق
يدّ
راس
كلّ طابق وحده مخلوع
منشّر عالرّابع شيرة
وغبت... "

في نهاية شهر جانفي 1980، كنّا بمدينة الكاف في التربص الجهوي لنوادي السينما الذي يجمع نوادي ولايات الشمال [7]. وكان البرنامج واضحا: نخصّص حصص النّهار للدراسات والاطلاع على المدارس السينمائية والنقاشات والتدرب على إنجاز الورقات التقديمية والنقدية ونفرد الحصص المسائية للتطبيق، للتدرب على حصة "نادي السينما يعرض ويناقش" أي للفرجة، لتقديم الأفلام وعرضها ومناقشتها.

في تلك الليلة، كان البرنامج يشتمل على.. مسرحية. تجمّعت الكراسي واقتربت من بعضها وتراصت أمام التلفاز.

ليلتها كانت قفصة تهتزّ تحت وطأة أحداث.. قفصة – وما أكثر وأفجع أحداث قفصة الجريحة دوما - تلك الأحداث التي أودت بصحّة الوزير الأوّل، السيّد الهادي نويرة، وأقعدته وعزلته عن مهامه. ولكنّ وزير الإعلام آنذاك كان ذكيا، على ما يبدو، لأنّه لم يلغِ عرض "غسّالة النوادر"...

واليوم وقد تقلّصت أطر النقاش وفضاءاته ومناسباته ها أنّي أطرح هنا ما عندي عسى أنْ أدْلِيَ بِدَلْوِي مع من يُدْلِي دون أن أزعج السّاقي ولا المُرتوي.

على كلّ لقد نجحتْ المسرحية وأيّما نجاح بجُرأتها وفنيّاتها وموضوعها في تحريك السواكن بطرق المسكوت عنه فهزّت جمهورها وأقضَّتْ مضاجعه وأثارت النقاشَ بين المتفرِّج وذاتِه وموضوعِه وأحْيَتْ سهراتٍ أمتعتْ وآنستْ فطوبى لكلّ من طلعَ على الخشبة ولكلّ من شارك من الكواليس.

وإنّي لأشعر بلون من الحزن لمّا أرى عملا فنيّا من ديارنا يُشرق للحياة ويمرّ هكذا دون أن ينتبه له أغلب الناس دون أن يلعب دوره في الإمتاع والمؤانسة والمنافسة والمناقشة... لأنّ العيون مشدودة إلى إشهار وإعلانات وواجهات تجار الأحلام الفاسدة والأيدي مكبّلةٌ بالشقاء اليومي أمّا العقولُ فهي كليلة مغلولة بقيد الغرائز البهيمية والمسلّمات السّخيفة.

رجل المسرح، كما كلّ فنّان، هو شاهد اللحظة ومتورّط فيما يحدث الآن وهنا ومساهم في بلورة الوعي الجمعي وهندسة الأرواح وتشكيل الإرادة العامة ومواجهة الأقدار المزوّرة وصنع التاريخ...

ولن يكون ذلك ما لم يعبّر الفنّان بحرية تامة.
لن يكون ذلك ما لم يتوفّر الصدق الفنّي.
لن يكون ذلك ما لم يصل العمل الفني إلى الجمهور الواسع.
وما لم يملأ صداه وسائل الإعلام الجماهيري التي يؤثّثها الإسفاف والدعارة والنفاق والبخور والشعوذة.

زائــدة:
كلمة، سي يحي، لو سمحت.

وأخيرا وليس آخرا، يسرّني، سي يحي، لو سمحت، باسمي وباسم كلّ لوخيّان الثقفوت ومحبّي الثقافة وزقزقة العصافير والمولعين بالإستيتيقا والمغرمين بالمواضيع الجادة والمصابين بتخمة الثقافة المعلبة والقابعين تحت السّور والمنبوذين في الشوارع الخلفية والمنسيين وراء أحزمة المدينة وكلّ المتروكين والمتروكات والمهملين والمهملات... المسكونين بالفنّ المسرحي وغير المسرحي، يسرّني، سي يحي، لو سمحت، أنْ أطرح على سامي مسامعكم الطاهرة هذه الأسئلة البدائية، الإبتدائية، البسيطة، السّاذجة سذاجة البدوية.

هي أسئلة حرّى، ملتهبة، حارقة. هي، على الفم كالسِّوَاكِ الحار، ولكنّها أسئلة للفم معطّرة، وللأسنان منظّفة، وللّثة مطهِّرة، لأنّ الفم الذي لا يُفْتَحُ ولا يسأل فمٌ نَتِنٌ. إذن أطرحها سي يحيى. ألقي بها وأمضي.

كم مرّة، سي يحي، عُرِضتْ يحي يعيش؟ وكم تخمن عدد الذين شاهدوها؟

ما هي النسبة المائوية للتلاميذ الذين لم يدخلوا ولو مرّة واحدة إلى قاعة مسرح؟ والطلبة؟

كم ملعبا أمرتم بتشيبده سي يحيى؟ وكم ملعبا مولتم تعشيبه؟ كم مقفزا يوجد بالمؤسسات التعليمية والمقفز، سي يحي، هو مستطيل به كدس رمل يقفز به التلاميذ في حصّة الرياضة ويسمّى (سوطوار: اسم مكان من فعل قفز).

كم قاعة مسرح بُنيتْ في البلد دون اعتبار ما بنته العكري؟ وتُسْمَعُ من قاعة مسرح قاعة بمواصفات الفنّ المسرحي، سي يحيى، ولا تُحْتسبُ قاعاتُ دور الشعب شبه المغلقة شبه المفتوحة، متعدّدة الاختصاصات أحادية الاستغلال وقد بُنِيَتْ بميزانية وزارة الثقافة... ومفتاحها، يا سي يحيى، عند ولد محرز الفرملي؟.

كم سجّلت التلفزة الوطنية، منذ بُعِثتْ في الستينات، من مسرحية من إنتاج الفرق التونسية؟ ومتى كان ذلك؟ وكم بثّتْ منها؟ وأذكّرك سي يحيى أنّك كم مرّة افتخرت بتأصّل المسرح في بلادنا وأعلنت أنّنا الأوائل في إفريقيا والوطن العربي، وعددت الفرق بدءا بالمسرح الوطني وفرقة بلدية تونس وفرق المحترفين والهواة وفرق المسرح الجهوي ونوادي المسرح والمسرح الجامعي والمسرح المدرسي، أيضا سي يحيى، وما أدراك ما المسرح المدرسي!).

كم مقابلة في كرة الأرجل سجّلتْها وبثّتْها تلفزتُنا الوطنية العتيدة؟

نعم؟
ماذا...؟
طبعا...!
نعم! أنا أسأل وأسائل التلفزة الوطنية. ولِمَ لا أسائلها؟

أودّ فقط، سي يحيى، أنْ أذكِّرَ أنّي، وأنّه، وأنّها، وأنّهما وأنّنا جميعا، ومنذ قرابة ربع قرن، ندفع ضمن فاتورة الكهرباء "معلوم الإذاعة والتلفزة". وآخر فاتورة بها أكثر من ثلاثة دنانير: 7963, !... كم عدّادا عائليا دفع هذا المعلوم في الأيّام الأخيرة، يا سي يحي؟ إذا كان معدّل العائلة التونسية عشرة أفراد هناك مليون فاتورة... عشرات ملايين الدنانير في السنة في صندوق تلفزتنا الوطنية الموقّرة... هذه التي يسمّونها المليارات... لا أتصوّر الكمَّ ولا أقدر على العدِّ.

كم نصيب الثقافة منها عموما والمسرح، على سبيل المثال، يا سي يحي؟

إلى كم مليار تصل ميزانية فريق من فرق كرة الرجلين يا سي يحي؟

وكم تقدّر ميزانيات كلّ الفرق المسرحية مجتمعة من جزيرة جالطة شمال طبرقة إلى رمادة جنوب تطاوين، ومن برج الرومي ظهري بنزرت إلى رجيم معتوق قِبْلِي دوز؟

يُقال، يا سي يحي أنّ معدّل الدخول لمسرحية لفرقة من القسم الوطني 200 متفرج في العرض الواحد. فإذا عُرِضت عشرة مرّات (وهذا فتحٌ مُبين) شاهدها 2.000 متفرج!... ويُعتبر هذا الجمهور ضئيلا في مقابلة واحدة تدور بين فريقين من العالم الثالث (عفوا، أقصد القسم الثالث، سي يحيى، إنّها وربّ الكعبة زلّة لسان) ومن صنف الأداني في ملعب أشهب بقرية من قرى مناطق الظلّ!...

وفي انتظار الموسم الثقافي القادم، سي يحي، يعيش يحيى يعيش ويربّي الرّيش، ونعيش نعيش ويحيا الوطن.!

وهلمّوا هلمّوا لكم سديد النظر والسلام عليكم.

الجزء الأوّل

[1] البريشتية: بريشتية: نسبة لبريشت، برتولد بريشت أو بريخت، (1898 – 1956)، رجل مسرح ألماني، تأليفا وإخراجا ونقدا وتنظيرا وشاعر واجه النازية في الثلاثينات والأربعينات ، فرّ إلى فنلادة ولمّا غزتها القوات النازية لجأ إلى أمريكا حيث حوكم واعتبر غير مرغوب فيه. عاد إلى موطنه، بعد نهاية الحرب، وعاش بألمانيا الشرقية حيث واصل نضاله الفكري والثقافي.

[2] ميكرو مجتمع: مجتمع مصغّر

[3] تروتسكيٌّ: نسبة إلى ليون تروتسكِي، أحد قادة الثورة الاشتراكية 1917 بروسيا، رفيق لينين وستالين، اختلف في العشرينات مع ستالين وترك تيارا ماركسيا له مقولاته في الثورة والبناء الاشتراكي.

[4] بلزاك: أحد أبرز أعلام الرواية وروّادها في فرنسا والعالم، يُعتبر أب الرواية الفرنسية

[5] نابيون: لوي نابوليون بونابارت والمقصود حملته على مصر نهاية القرن 18 بداية 19 التي أحدثت الصدمة الحضارية.

[6] محمد الجابلّي: قاص وناقد ناشط في الساحة الأدبية آخر ما صدر له : ابناء السحاب، أفريل 2010

[7] نوادي سينما ولايات الشمال الناشطة سنتها: بنزرت وماطر وتونس والمرسى وقرطاج وباجة وجندوبة والكاف وتاجروين والدهماني وسليانة وقعفور. وانعقد في نفس الوقت تربص نوادي الوسط بسوسة والثالث: تربص الجنوب بصفاقس (دون تعليق- no comment).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة