مسألة الحجاب/الخمار والعلمانية حمّه الهمّامي، صائفة 2007

مطارحات حول قضيّة المرأة
حمّه الهمّامي، صائفة 2007
مسألة الحجاب/الخمار والعلمانية

وردت في "إعلان هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين"، الصادر بمناسبة 8 مارس 2007، نقطة تتعلق بمسألة الحجاب/الخمار. وقد جاء فيها ما يلي: "إن هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات تطالب بإلغاء المنشور عدد 108 بوصفه إجراءا تعسفيا يعرّض النساء المتحجّبات إلى التسلط والحرمان من الحقوق". كما تطالب بـ"اعتبار مسألة الحجاب قضية تتعلق بالحرية الذاتية لا يحق لأي كان التدخل فيها بالمنع أو الإلزام عن طريق الإكراه". وكما هو واضح فإنّ هذا الموقف السياسي متوازن وسليم. فهو لا يكتفي بإدانة القمع البوليسي والإداري الذي يسلطه النظام القائم على المتحجّبات في تونس والذي يتخذ في بعض الفترات، كما حصل في رمضان السنة الماضية (سبتمبر-أكتوبر 2006)، شَكـْلَ حملة عامة، منظمة وعنيفة في كافة أنحاء البلاد، طالت المتحجّبات في الشارع وفي مراكز العمل والدراسة على حدّ السواء، بل إنه يدين أيضا كل محاولة لفرض الحجاب/الخمار على الفتيات والنساء عن طريق الإكراه المادي أو المعنوي، داخل العائلة أو المجتمع، بدعوى أنه "فريضة دينية". و هذا هو معنى أن يكون اللباس، سواء تعلق الأمر بالحجاب/الخمار أو بغيره من الألبسة، جزءا من الحرية الذاتية، فلا إكراه في هذا الاتجاه أو ذاك.

عَلمانيون يعترضون

اعتبر جزء من العلمانيين هذا الموقف الوارد في "الإعلان" موقفا "لا مبدئيا" وانتقدوا الأطراف اليسارية والتقدمية التي وقّعته واتهموها باللهث وراء "تحالف" أو "وحدة عمل" مع الحركة الإسلامية على حساب قضية النساء التونسيات وطموحهن إلى التحرر. وفي الواقع فإن أصحاب هذا الموقف يرفضون إدراج الحجاب/الخمار في بوتقة "الحرية الذاتية"، فما دام هذا اللباس يرمز إلى مشروع قائم على اضطهاد المرأة وامتهانها واستنقاصها واستعبادها فإن اعتبار ارتدائه جزءا من الحرية الذاتية، يعني في نظرهم تشريع دونية المرأة، وفي أحسن الحالات دفاعا عن "حرية الاستعباد" (la servitude volontaire). ولا يتوانَون عن مقارنة من يساند متحجّبة ضد القمع المسلط عليها لنزع خمارها أو حجابها بمن يساند شخصا في "حقه" في أن يكون عبدا لغيره أو في "حريته" في أن ينتحر أو "يتجوّل عاريا في المدينة" [1].

ولا يخفي أصحاب هذا الموقف مناصرتهم لمنع ارتداء الحجاب/الخمار، لا تشريعه أو التسامح معه أو الدفاع عن النساء اللواتي يرتدينه في مواجهة القمع المسلط عليهن. وهم لا يترددون في تبرير حملات السلطة على المتحجّبات في مراكز العمل والدراسة بدعوى أنه "من واجب الدولة الدفاع عن طابعها العلماني ضد محاولات المساس به"، ولا يعترضون إلا على الطابع الزجري للحملة التي طالت النساء المتحجّبات في الطريق العام لما في ذلك من "تصادم مع المجتمع" وتجاوز الدولة لمجال تدخلها إذ أنها مطالبة، حسب رأيهم، بتطبيق القانون في مجال "اختصاصها"، وهو المؤسسة التعليمية العمومية والإدارة، وترك التدخل في "الفضاء المجتمعي" الذي يشمل "الطريق العام" لـ"المجتمع المدني والسياسي" كي يفعل فعله عن طريق "الإقناع والشرح والتوضيح". (انظر الكراس المذكور).

وفي هذا السياق، يعبّر هؤلاء الجماعة عن تأييدهم المنشور 108 الذي يمنع ارتداء الخمار في المدارس، إذ لا يرون فيه تعديّا على الحريات الفردية وحقوق الإنسان بل يعتبرونه إجراءًا مشروعا "من زاوية الدفاع عن لائكية الدولة وعلمانيتها"، كما أنهم يعتبرونه "من صميم الديمقراطية"، لأن "مزيّته أنه وقف ضد محاولة جرّ المؤسسة التعليمية العمومية إلى مجال العقائد ودافع عن طابعها العلماني". و هم لا يتوقفون عند هذا الحد، بل إنهم يطالبون بأن "يوجد قانون يمنع مظاهر التدين (أي الخمار – من عندنا) في مؤسسات الدولة، دفاعا عن علمانيتها وعن حيادها تجاه المعتقد..، ويتهمون الذين يطالبون بإلغاء المنشور 108 باسم الدفاع عن حرية اللباس والعقيدة بأنهم يعملون "من أجل إزاحة الجوانب العلمانية في الدولة وإضفاء الصبغة الدينية عليها"، معتبرين أن "من واجب الديمقراطيين واليساريين الدفاع عن علمانية الدولة و لائكيتها" (أي الدفاع عن نظام بن علي العلماني الديمقراطي!).

وما من شك في أن هؤلاء الذين ينصّبون أنفسهم متكلمين باسم العلمانية يرتكبون خطأ جسيما يكمن في الخلط بين مستويين مختلفين في التعاطي مع مسألة الحجاب/الخمار (ومع كل مسألة تتخذ شكلا عقديا بصورة عامة). المستوى الأول يهمّ الموقف الفكري العام من الحجاب/الخمار. والمستوى الثاني يهمّ كيفية التعاطي السياسي معه، وبالتالي كيفية معاملة النساء اللواتي ترتدينه. وهُمْ بذلك يروّجون مفهوما خاطئا عن العلمانية التي يحولونها إلى رديف للقمع وعدم التسامح ويجدون أنفسهم، عن وعي أو غير وعي، متواطئين مع الدكتاتورية الدستورية النوفمبرية التي يلبسونها لبوسا علمانيا، لائكيا، ويضفون على ممارساتها القمعية طابعا تقدميا، ديمقراطيا، مشوهين بذلك العلمانيين، وموفـّرين الفرصة لخصومهم كي يقدموهم إلى الرأي العام بمظهر سلبي.

تاريخية الحجاب

إننا لا نناقش كون الحجاب/ الخمار، ليس كما يزعم السلفيون بمختلف ألوانهم وتشكيلاتهم، لباسا أو "زيا إسلاميا" بمعنى أن الإسلام هو الذي ابتدعه وشرّعه، ولكنه لباس سابق للإسلام، سواء عند العرب أو عند اليهود والنصارى أو عند اليونانيين الوثنيين (القرن الخامس قبل الميلاد) أو عند المصريين (القرن الثالث قبل الميلاد) أو عند الآشوريين (القرن الثاني عشر قبل الميلاد) أو عند الفرس (التشادور) أو عند الهنود إلخ... ومهما تعددت أشكال هذا الخمار عند هؤلاء الأقوام على اختلاف أجناسهم ودياناتهم وثقافاتهم وحضاراتهم والحقب التاريخية التي عاشوا فيها، فإن فرض لباسه على النساء ارتبط عندهم جميعا بنظرة رجعية تعتبر المرأة أو بالأحرى جسدها أو أجزاء منه كالشعر، "عورة" أو "مصدر إثارة لغرائز الرجل" أو سببا لارتكاب "الخطيئة" أو "أداة متعة للرجل" أو "ملكا" له، لذلك لا بد من "ستر" ذلك الجسد أو هذا الجزء أو ذاك منه وإن لزم الأمر حجب المرأة بالكامل عن العيون.

ولمّا جاء الإسلام في مطلع القرن السابع ميلاديا، لم يكن ليخرج عن سياق التاريخ أو يتعالى عنه، بل إنه كان في صلبه ومن صلبه. فلم يتجاوز نظرة عصره وبيئته للمرأة إلا في حدود جزئية، بل في حدود ما كانت تسمح به درجة التطور الاجتماعي والثقافي والحضاري. ولكنه حافظ على جوهر النظرة الأبوية/الذكورية التي تعتبر المرأة في مرتبة دون مرتبة الرجل في كافة مجالات الحياة الاجتماعية. وقد تولى الفقهاء الذين ارتبطوا دائما بالسلطة الحاكمة وبالطبقات الاستغلالية السائدة، تقنين تلك النظرة في سلسلة من الأحكام أخطر ما فيها أنها تضفي طابعا قدسيا على دونية المرأة وعلى تبعيتها للرجل و"سيادته" على جسدها لحملها على قبول هذا الوضع المُملى من "السماء" حسب زعمهم، والذي يُعاد إنتاجه باستمرار بنفس الغلاف الديني، واتهام كل من يطرحه محل سؤال بالكفر و"الزّيغ" عن مبادئ الإسلام أو تحريفها. و قد شمل ذلك التقديس الحجاب/الخمار الذي قُدم على أنه "فريضة" لا يكتمل "إيمان المرأة" إلا بارتدائه.

إن الحجاب/الخمار جاء مظروفا في القرآن وخاليا من كل بعد روحاني، أو عقدي أو تشريعي. كما أن القرآن لم يحدّد له شكلا معينا. وقد خُصّت به في البداية "زوجات النبي" (سورة الأحزاب آية 53) وكان يعني فصلهن عن الرجال بستار، ثم شمل في مرحلة ثانية نساء المؤمنين، ولم يرد هنا بالمعنى الأول بل بمعنى الجلباب (سورة الأحزاب، آية 59) وهو لباس متداول على ما يبدو، يُغطّي كامل الجسم ويستر المرأة التي تقضي حاجتها في العراء، وأُريد منه أن يكون علامة لتمييز "المؤمنات" و"الأحرار"، حتى أن لباسه منع عن الإماء والبغايا. وفي آية ثالثة تمّت الإشارة إلى الخمار (سورة النور، الآيتان 31و32) وهو في هذه الحالة عبارة عن منديل يُغـَطـّي فتحة الصدر.

ولكن الفقهاء هم الذين جعلوا من الحجاب/الخمار "زيّا إسلاميا". وبما أن معظم مفسري القرآن كانوا من الفرس فقد أعطوه شكل "التشادور" المتسم بالصرامة. و شيئا فشيئا تحول الحجاب من لباس لتغطية الجسم/العورة أو لـ"الحشمة" إلى حَجْب النساء في البيت، خصوصا في المراكز الحضرية. ووصل الأمر إلى حد اعتبار نظراتهن وأصواتهن "عورة"، واتسع زنا المرأة ليشمل حواسّها فأصبح الزنا، زنا بالعين والصوت والأذن، علاوة على الزنا باللمس، فتم تطويق النساء من كل الجوانب تطويقا ماديا ومعنويا.

و من الملاحظ أن الخمار لم يلبسه كل النساء. فالنساء خارج المدن بقين في الغالب سافرات. كما أن اللواتي لبسنه لم يفعلن ذلك حسب زي منمّط في كافة البلدان والأمصار. فالخمار اتخذ أشكالا عدة وفقا للتقاليد الخاصة بكل بلد ولمناخاته وعاداته الثقافية والاجتماعية. و لمّا فتحت البلدان العربية والإسلامية عيونها على العصر نتيجة الصدمة الاستعمارية، ووقفت على مدى تخلفها الحضاري مقارنة بتقدم البلدان الأوروبية وشعرت بالخطر الذي يتهددها إن استمرت على ما هي عليه، سعت إلى تدارك أمرها. وكانت المناداة بتحرير النساء من العبودية وإخراجهن من ظلمات عصور الانحطاط أحد أهم عناصر "الإصلاح الاجتماعي" الذي طالب به المثقفون المستنيرون. و في هذا الإطار حصلت معركة السفور والحجاب في أكثر من قطر عربي وإسلامي بما فيها تونس في مطلع القرن العشرين. وكان دعاة تقدم "الأمة" يدافعون عن خروج المرأة من البيت والتحاقها بالمدرسة ومساهمتها في الحياة العامة، بينما كان دعاة الحفاظ على الماضي بنظامه الاجتماعي والسياسي المتخلف وقيمه الإقطاعية البالية التي "تُبلـّس المرأة"، يدافعون عن مواصلة حجب النساء ويدعون عموم الناس، مستغلين جهلهم ومشاعرهم الدينية، إلى "التعبئة" ضد "الكفرة والملحدين" الذين ينادون بـ"تحرير النساء".

ولكن هذه الدعوات لم تمنع النساء، في تونس وفي عدد من المجتمعات العربية والإسلامية، من تحقيق مكاسب وقطع خطوات نحو تحررهن. و قد شمل هذا التحرر لباسهن الذي خرج من دائرة "المقدس" أي من دائرة "الحلال والحرام" و"تـَعَلـْمَنَ" ضمن العلمنة الجزئية التي شملت المجتمع، وأصبح خاضعا لاعتبارات أخرى غير الاعتبارات الفقهية التقليدية (الذوق، الموضة...). وظل الوضع على هذه الحال إلى أن دخلت الأنظمة الاستبدادية التي خلفت المستعمر في الحكم في أزمة خانقة اقتصادية واجتماعية سياسية وثقافية وقيَميّة. وهو ما أدّى، في غياب بدائل تقدمية، وفي إطار هجمة خارجية امبريالية شرسة، واتساع نفوذ مراكز الرجعية العربية الكبرى ومنها السعودية وتوابعها الخليجية التي تصرف أموالا طائلة وتجند فضائيات كثيرة لنشر الدعوات السلفية، إلى عودة الظاهرة الدينية بمعناها الشامل إلى البروز في شكل أحزاب وتيارات سياسية ومراكز ثقافية سلفية، ولكن أيضا في شكل طرق تنشر الشعوذة والخرافة. و قد ركزت هذه الأحزاب والتيارات و الطرق دعايتها في اتجاه النساء لموقعهن الحساس داخل العائلة ودورهن الممكن أو المفترض في الحفاظ على العادات والتقاليد وبالتالي على العائلة التقليدية.

أزمة مجتمعات "الاستقلالات" وعودة الحجاب/الخمار

وفي هذا المناخ العام عاد الحجاب/الخمار الذي ظُنّ أنه اندثر إلى الأبد، إلى البروز في المجتمعات العربية "المُعلمنة" نسبيا بما فيها المجتمع التونسي، وفي صفوف الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش في البلدان البرجوازية الغربية، علاوة على وجوده في البلدان ذات الأنظمة الإسلامية التي يُفرض فيها لباس الخمار بحكم القانون (إيران، السعودية...). و لكن الخمار "الحديث" يختلف عن الخمار التقليدي متعدد الأشكال فهو خمار نمطي على العموم، خاضع لعدد من الشروط (تغطية الرأس والجسد بالكامل عدا الوجه واليدين ابتداء من المعصمين) التي وضعتها التيارات الإسلامية السلفية. ويتعايش هذا النمط من الخمار مع أنماط أخرى مثل "النقاب" أو "البرقع" أو"التشادور" الإيراني وغيره. وهي تمثل مجالا لبروز الفوارق الطبقية والاجتماعية فالخمار أخْمرة والنقاب نـُقـُبٌ، والتشادور "تشادورات"، فيها ما هو خاص بالثـّرِيـّات وفيها ما هو خاص بالفقيرات، وفتيات ونساء الفئات الوسطى، وهي أحيانا موحدة اللون وأحيانا أخرى ملونة بألوان زاهية وهي تـُلبس مع ألبسة فضفاضة أو مضبوطة على الجسم (سروال الدجينز إلخ...)، فهي أقرب إلى الموضة منها إلى أي شيء آخر.

وكما تتعدّد أشكال الخمار، تتعدد أيضا بواعث ارتدائه فهي دينية أحيانا إذ يعتبر جزء من النساء أنه جزء من ديانتهم، بل فريضة "إسلامية"، حسب ما سمعوه في الفضائيات خصوصا، وهي اجتماعية أخلاقية أحيانا أخرى لإخفاء الفقر، أو تجنب المشاكسة في الشارع في ظل التدهور الأخلاقي السائد وتفاقم الاعتداءات على النساء، وهي أحيانا ثالثة تعبير عن هوية في وجه العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تسعى إلى القضاء على المجتمعات الصغيرة والضعيفة وفرض التنميط عليها أكلا ولباسا وذوقا إلخ... و إذا كان يوجد من الفتيات والنساء في تونس من ترتدي الخمار عن قناعة، فإنه يوجد منهن من تلبسه لأنه مفروض عليها فرضا بشكل من الأشكال من الأب أو الأخ أو القريب أو الزوج. وإذا كان لباس الخمار مقترنا في ذهن قسم من المتحجّبات بمواقف رجعية من المرأة مثل الخضوع للزوج وقبول تعدد الزوجات والاكتفاء بنصف نصيب الذكر من الإرث، فإن لباسه لا يمنع فتيات ونساء أخريات من أن يقترن عندهن برفض تلك المظالم أو على الأقل الصارخ منها ومن أن يتخذنه وسيلة لتشريع خروجهن من البيت والمساهمة في الحياة العامة.

ذلك هو الحجاب/الخمار في تنوع دوافع ارتدائه في معيشهنّ الاجتماعي والنفسي والثقافي والسياسي الحالي، وفي تعدد التصورات والتمثـّلات التي تحملها عنه مرتدياته، ولكن هذا التنوع والتعدد لا ينزع عنه بأي حال من الأحوال دلالته الموضوعية أو بعده التاريخي الاجتماعي بوصفه لباسا قائما، في الأصل، على نظرة تستنقص النساء، وهي النظرة التي ما تزال تعبّر عنها بشكل واع وواضح التيارات الدينية الرجعية سواء كانت في الحكم أو في المعارضة. وهذه التيارات إذ تضفي على الحجاب/الخمار طابعا دينيا، قدسيا فمن أجل طمس تلك الدلالة أو إخفاء ذلك البعد ومنع نقاشه وجعل التقديس مدخلا لفرض سياسة رجعية على النساء العربيات والمسلمات (تعدد الزوجات، حرمان المرأة من حقوقها المدنية والسياسية، إن جزئيا أو كليا...).

استلاب الحجاب لا يبرّر قمع المتحجبات

ولكن أن يكون ذلك هو المغزى الموضوعي للحجاب، فهو لا يمثل مبرّرا لمنع الفتيات والنساء من ارتدائه وإكراههن على نزعه أو حرمانهن، في صورة تشبثهن به، من حقوقهن الأساسية كالذهاب إلى المدرسة أو الجامعة أو إلى مراكز العمل من إدارة ومؤسسات عمومية. إن هذا الموقف القسري، التعسفي، يتعارض مع المبدأ العلماني القاضي باحترام حرية العقيدة. فمهما كان الحجاب/الخمار مهينا من الناحية الموضوعية للمرأة، فإنه توجد من المتحجّبات من تعتقد أنه "فريضة" و"جزء من العقيدة". كما أن من بينهن من ترى فيه "جزءا من شخصيتها الإسلامية". وهذا الموقف الشخصي لا يمكن معالجته بالقمع، إذ لا يجوز قمع النساء المتحجّبات بدعوى أن ذلك من "مصلحتهن" وفيه "دفاع عن تحررهن" ويهدف إلى "إنقاذهن من الاستعباد الذاتي" أو من "استعباد الرجل والمجتمع".

إن القمع لم يكن في يوم من الأيام وسيلة لتحرير الإنسان من الأوهام الدينية أو من الخرافات والأساطير التي تتخذ طابعا عقديا. لأن القناعات سواء كانت دينية أو إيديولوجية لا تتغير إلا بالنقاش والإقناع، بل لا تتغير إلا إذا توفرت الأرضية الاجتماعية والثقافية المناسبة التي تجعل المعنيات أو المعنيين يقتنعون بأن القناعات الجديدة تمكنهم من تحقيق ذواتهم. والمرأة التي تلبس اليوم الحجاب/الخمار يمكن أن تتخلى عنه غدا إذا اقتنعت بأنه لا يلائمها وأنه مناف لحريتها وتحررها. أما القمع فيولـّد الخوف، ولا يخلق قناعات جديدة، بل على العكس من ذلك، يعمّق العقائد والقناعات القديمة التي تبقى تنتظر الفرصة المناسبة للتعبير عن نفسها بشكل مكثف أكثر من ذي قبل.

وليس أدلّ على ذلك من الواقع في تونس. فمنذ أواسط الثمانينات ونظام الحكم يشن الحملة تلو الحملة على المتحجّبات، ومع ذلك فإن عددهن لم يقل، بل أكدت التجربة أنه ما أن يتراجع القمع حتى تعود الظاهرة إلى البروز. و إذا كانت في وقت من الأوقات لا تستقطب سوى أتباع التيار الإسلامي، فإنها منذ وقت معيّن تجاوزت هذا المدى لتشمل العديد من الفتيات والنساء اللواتي لا علاقة لهن بهذا التيار. وهكذا أصبح لباس الخمار ظاهرة اجتماعية وثقافية.

ولابد من الإشارة إلى أن مقاومة السلطة للخمار لا تنطلق من نظرة تُدافع عن حرية النساء وحقوقهن ولكنها تكرّس صراعا مع خصم سياسي يهدّد هيمنتها على الحياة العامة والمجتمع، ناهيك أن بن علي لا يرفض الحجاب بشكل عام ولكنه يرفض شكله المرتبط بالتيار الإسلامي. ولم يتردد في أكثر من مناسبة إلى الدعوة إلى العودة إلى أشكال الحجاب الأخرى كـ "السفساري" و"البخنوق" الخ... هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن السلطة لم تتوان عن منع مناقشة الظاهرة في الفضاءات العمومية وفي وسائل الإعلام بمشاركة الأحزاب والجمعيات والمنظمات المهنية والثقافية وخاصة منها المنظمات النسائية، والسبب في ذلك أن ما يهمّها أوّلا وقبل كل شيء هو مواصلة احتكار الحياة العامة وسدّ الباب أمام أي إمكانية للنقاش الحر.

إنّ مقارنة الدفاع عن الحجاب/الخمار كجزء من الحرية الذاتية بالدفاع عن العبودية أو "الانتحار" لتبرير منعه، هو من قبيل المقارنات الخرقاء. فلباس الخمار، طالما أنه اختيار شخصي، يمثل سلوكا فرديا، لا يحتمل الاعتداء على أي شخص آخر. في حين أن الاستعباد يمثل جريمة على حساب شخص آخر لما يُلحقه به من أذى مادي ومعنوي ويكرهه عليه من خضوع ويحرمه من التمتع بالحقوق، وفي حالة كهذه ينبغي أن يتدخل القانون لمنع الاستعباد منعا تاما، سواء كان ذلك في الفضاء الخاص أو في الفضاء العام. ولو كان لباس الخمار كالاستعباد، فلماذا يطالب أصحاب هذه المواقف بتحريمه في الفضاءات العمومية فحسب؟ هل يعقل أن تُحرَّم جريمة ما في فضاء معيّن وتباح في فضاء آخر؟ أليست الجريمة جريمة مهما كان المكان الذي تُرتكب فيه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الانتحار، فالتشجيع عليه جريمة مهما كان المكان، وهو جريمة لأن فيه ضررا لا رجعة فيه لشخص آخر. بينما الأمر يختلف بالنسبة إلى الخمار كما قلنا، فمتحجبة اليوم يمكن أن تكون سافرة الغد. و هو ما نلحظه في محيطنا، إذ أن العديد من الفتيات نزعن خُمُرهن بعد ارتدائها مدة معينة نتيجة تحوّل في قناعاتهن.

ومن نافل القول إن لباس الحجاب/الخمار يكفّ عن أن يكون حرية شخصية إذا كان ناجما عن إكراه، لأن الإكراه يمثل اعتداءً على تلك الحرية. وإذا كان للقانون أن يتدخل، في نظام ديمقراطي تُضمن فيه الحريات الفردية، ففي هذا المستوى، وذلك لمنع الإكراه وتجريمه ومعاقبة مرتكبيه صيانة للحرية الشخصية. وفي مناخ كهذا فقط، يمكن أن تتوفر للفتيات والنساء إمكانية اختيار لباسهن بحرية، وفقا لقناعاتهن الشخصية وهن يعرفن أنه بإمكانهن اللجوء إلى القانون إذا حاول طرف ما إرغامهن على ارتداء هذا اللباس أو ذاك.

أما على المستوى الفكري فالأمر يختلف. إن الديمقراطي، التقدمي، المتماسك فكرا وممارسة، الذي يتصدّى سياسيا لقمع المتحجّبات ويندد به ويدافع عن حريتهن الشخصية، طالما أنهن يعتبرن ارتداء الخمار قناعة أو "عقيدة"، إن هذا الديمقراطي من حقه، بل من واجبه أن يخوض معركة مبدئية وعميقة ضد هذا اللباس لإبراز المضامين الرجعية للمنظومة القيميّة و الاجتماعية التي يندرج ضمنها و التي تستنقص المرأة. وهذه المعركة ينبغي له أن يخوضها بأسلحة فكرية وفكرية فقط، بعيدا عن كل إرهاب إيديولوجي، لأن العلمانية، كما بيّنا، فضاء للمساعدة على الحوار/النقاش الحر والديمقراطي.

هل المنشور 108 من "صميم العلمانية والديمقراطية"؟

بودّنا هنا أن نتطرق إلى موضوع المنشور 108 الذي يمنع لباس الخمار في المؤسسة التعليمية والذي رأى فيه صاحب الكراس إجراء من صميم الديمقراطية بدعوى أنه يدافع عن العلمانية. وقبل الخوض في لبّ الموضوع لا بد من الإشارة إلى أن هذا المنشور لا يمكن أن يكون حتى في شكله من صميم الديمقراطية لأن الحياة العامة لا تـُنـَظـّمُ بمناشير صادرة عن هذا الوزير أو ذاك بل بقوانين صادرة بعد نقاش وغير منافية للدستور وتأتي المناشير بعد ذلك لتيسير التنفيذ ليس إلاّ. أمّا واقع الحال هنا فإنه يتعلق بمنشور متـّصل بوجه من أوجه الحياة العامة الذي يثير إشكالات جدّيّة تمَسّ مسألة الحرية الشخصية، وقد صدر دون أن يحظى بنقاش حتى داخل البرلمان الصوري التونسي. وهو ما يؤكد طابعه التعسفي والتسلطي حتى من الناحية الشكلية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فما معنى أن تكون المؤسسة التعليمية علمانية؟ و هل أن منع التلميذات من لباس الخمار هو أحد مظاهر تلك العلمانية؟ لا نعتقد ذلك، لأن التلاميذ مهما كانت قناعاتهم الفكرية والدينية من حقهم أن يؤمّوا المدرسة أو الجامعة وليسوا مطالبين بأن يكونوا علمانيين أو متدينين أو يساريين أو قوميين... والخمار، إذا كان ناجما عن قناعة أو عقيدة فمن حق التلميذة لباسه. وليس التلميذ(ة) والطالب(ة) مطالبا بأكثر من احترام الدرس وعدم التحريض على مدرِّسه أو ترهيب زملائه وزميلاته واستفزازهم والاعتداء على كرامتهم لأسباب عقائدية أو أتنية أو ثقافية.

إن المؤسسة التعليمية هي المطالبة، في نظام ديمقراطي، عصري، بأن تكون علمانية وهذه العلمانية تهم إطار التدريس الذي عليه أن يقوم بالدرس دون استفزاز لعقيدة أو عقائد تلاميذه، كما تهم البرامج الدراسية التي ينبغي أن تنبني على حرية البحث والمعرفة وعدم إخضاعها لأي قيد لأسباب عقدية، ولا ينبغي أن يفهم من ذلك عدم تدريس الأديان مثلا، فهذا المفهوم ليس علمانيا بالضرورة أو لا يمكن حصر العلمانية فيه، إذ أن تدريس الأديان دراسة تاريخية، موضوعية، هو من صميم العلمانية، وبإمكان هذا النوع من التدريس تنسيب الأمور ونشر ثقافة التسامح، بل الاحترام بين أصحاب الأديان والعقائد المختلفة، وحتى غير المؤمن لأسباب فلسفية، فلا تضيره دراسة الأديان بهذه الطريقة لأنها تندرج ضمن المعرفة. وأخيرا، فإن الفضاء المدرسي ينبغي أن يبقى فضاءً للعلم والمعرفة ولا ينبغي بأي شكل من الأشكال أن يوظَّف لأغراض دينية تخل بوظيفته هذه.

هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن منع الفتاة من الذهاب إلى المدرسة بسبب ارتدائها الحجاب/الخمار لا يخدم مصلحتها ولا يساعدها على الإنعتاق في شيء، لأن هذا المنع سيعيدها إلى البيت لتعيش بين أربعة جدران حيث تكون عرضة لشتى الضغوط من أفراد العائلة، الذكور منهم خاصة. وفي المقابل فإن بقاءها بالمدرسة أو الجامعة يفسح لها المجال كي تنمّي قدراتها على التفكير والتمييز والنقد وهو ما يساعدها على تكوين شخصيتها وتصليبها ويخلق لديها القدرة على التمرد على أغلالها. هذا هو المناخ السليم الذي ينبغي توفيره للفتاة المتحجبة سواء عن قناعة شخصية أو مكرهة، كي تتفتق طاقاتها. أما أن تـُعتبر هذه الفتاة ضحية (للأب أو الأخ أو العم أو الخال أو..) وتـُعاقَب في نفس الوقت بالطرد من المدرسة أو الجامعة بدعوى مساعدتها على تحرير نفسها، فذلك ما لا يقبله عقل، بل ذلك ما لا علاقة له بالعلمانية التي هي رديف الحرية. (انظر حول هذه القضية السجال الذي دار في فرنسا بمناسبة ما سمي بـ"قضية الخمار" سنة 2003. ومن بين المنشورات المهمة في هذا الصدد كتاب: Le Foulard Islamique En Questions- مجموعة نصوص صادرة عن دار أمستردام للنشر – باريس 2004).

أزمة المؤسّسة التعليمية ليس سببها الخمار

وفوق ذلك كله، فهل أن المؤسسة التعليمية في تونس ليس لها من خطر تواجهه إلا لباس الخمار؟ لا بالطبع. إننا نعتقد أن الضجيج الذي أُقيم حول هذه المسألة وأن القمع الذي سُلط على المتحجّبات ليس سوى وسيلة لطمس المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها هذه المؤسسة (وتتخبط فيها البلاد بأكملها) و عجز نظام الحكم عن إيجاد الحلول لها بل إمعانه في مفاقمتها.

إن نظام بن علي خرّب المؤسسة التعليمية في بلادنا. فقد أخضعها بالكامل لمشاريع الدول والمؤسسات المالية الأجنبية التي فرضت خوصصتها وحولتها إلى خادم لمصالح الرأسمال المتقلبة، ونزعت عنها دورها الاستراتيجي في تطوير المعارف والعلوم والحفاظ على الهوية الوطنية وإثرائها والمساهمة في النهوض بالمجتمع والبلاد. كما أنه أفرغ البرامج الدراسية في كافة المستويات مما ينمي الروح النقدية لدى المتعلم وحرم التلميذ والطالب من حرية الرأي والتعبير وأخضع المؤسسات التعليمية للمراقبة المباشرة للبوليس السياسي وضرب الحريات الأكاديمية في العمق وحوّل الأساتذة والباحثين إلى مجرد ملقنين، ومنع البارزين منهم المتشبثين باستقلالهم من مواصلة التدريس والبحث بالجامعة حال بلوغهم سن التقاعد (60 سنة).

ألم يكن أحرى بأصحاب هذه المواقف أن يجعلوا هذه المسألة على رأس اهتماماتهم، لو كانوا حقّا غيورين على المؤسسة التعليمية وعلى دورها التنويري؟ أليس ما تتعرض له من سياسات بن علي هو أخطر بكثير من ارتداء جزء من التلميذات الخمار؟ وإلى ذلك فإن كانوا حقـّا غيورين على المكتسبات العلمانية للمجتمع التونسي، أليس أحرى بهم، عوض المطالبة بقانون جديد لقمع المحجّبات العاملات في الإدارات العمومية، التركيز على مقاومة الاستغلال الفاحش والفساد المستشري والاستبداد والنهب الامبريالي للبلاد والتصحّر الثقافي وما تُولّده كل هذه المظاهر من فقر وإملاق وتجهيل وشعور بالمهانة في صفوف الطبقات والفئات الفقيرة وهو ما يدفع بأقسام منها إلى البحث عن الخلاص في العودة إلى الماضي. أليس الخطر الحقيقي على المكاسب العلمانية يجد قاعدته في هذا الواقع المزري؟ أليس اللجوء إلى القمع في معالجة ظاهرة الحجاب (والظاهرة السلفية بشكل عام) وسيلة لطمس هذا الواقع ومسؤولية نظام الحكم فيه؟

إن المراهنة على النظام القائم للدفاع عن مكاسب المجتمع العلمانية وتطويرها وصيانتها هي مراهنة خاسرة مسبقا لأن الدكتاتورية تعرض المكاسب للتدمير والتلاشي وتجرد المجتمع من وسائل الدفاع عن نفسه. وليس أدل على ذلك من توظيف نظام بن علي للدين لتشريع استبداده و تشجيعه الزوايا والكتاتيب وبعث "فرق الدعوة والتبليغ" المرتبطة مباشرة بوزارة الداخلية وإطلاق العنان للشعوذة والمشعوذين وإنشاء إذاعة "الزيتونة" لإظهار العائلة الحاكمة بمظهر الراعية للدين وتغطية ضلوع أفرادها في الفساد الاقتصادي والمالي. كل ذلك في الوقت الذي يُحاصَر فيه أصحاب الرأي الحر والمثقفون والمبدعون الجادون الذين يرفضون بيع ذمتهم.

إن مطالبة اليساريين والتقدميين بمساندة بن علي في منع الخمار وقمع المتحجّبات بدعوى الحفاظ على المكتسبات العلمانية إنما هو محاولة لتحويل اليسار إلى مجرد ذيل للدكتاتورية ومسوغ لقمعها وعسفها. وهو ما يعرض مستقبل العلمانية ذاتها للمخاطر في بلادنا. إن العلمانية كمنظومة ليست قائمة في تونس، بل إن ما هو موجود لا يعدو أن يكون علمانية مشوهة و أن الادعاء بأنها موجودة وأن المطلوب "استكمالها" يجعل منها أي العلمانية رديفا للقمع والاستبداد. إن العلمانية بمعناها الصحيح، أي بوصفها رديفا للحرية ما تزال مشروعا للتحقيق في بلادنا، لأن العلمانية لا يمكن أن تترعرع إلا في مجتمع ديمقراطي، حيث تكون هي إحدى ركائز هذه الحرية وتلك الديمقراطية.

إن الاستقواء بالقمع الإداري والبوليسي والتوهم بأن ذلك كفيل بتعديل ميزان قوى سياسي راجح راهنا لصالح القوى السلفية في العالم العربي والإسلامي، بدل التعاطي الفكري مع المسألة وخوض الصراع في صفوف النخب والجماهير بنفس طويل ورؤية واسعة الأفق من أجل إحداث النقلة الحقيقية في الأذهان وفي ميزان القوى، إن ذلك تعبير صارخ عن ضيق أفق البورجوازي الصغير وقلة صبره أمام الصعوبات.

ومهما يكن من أمر علينا أن ندرك أنه ما من جواب علماني في مجتمعنا على الأطروحات السلفية والظلامية خارج النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية وهي كلها محاور تؤدي بالضرورة إلى النضال ضد الدكتاتورية القائمة. وكما أكدنا أكثر من مرة، فإن سدّ الباب أمام الاستبداد باسم الدين يقتضي إعطاء المثال اليوم في مقاومة الاستبداد النوفمبري لا التواطؤ معه أو مجاملته.

الاشتراكية والحرية الدينية

إن الذين يَعْرِفون التراث الاشتراكي يدركون أن مَن وضعوه وطوّروه لم يدافعوا، خلافا لما تدعيه بعض الأطراف "اليسارية"، عن الأساليب الإدارية القمعية في التعامل مع القضايا العقدية. فـ كارل ماركس وفريدريك أنجلس مؤسّسا الاشتراكية العلمية ناهضا بشدة التطرف اللاديني أو الإلحادي لما فيه من ضرر بقضية العمال والكادحين.

إن ماركس الذي دعا الاشتراكيين إلى النضال من أجل تحرير العمال من الأوهام الدينية التي تستغلها البورجوازية لتحملهم على قبول واقعهم المزري والتخلي عن السعادة في دنياهم في انتظار "سعادة الآخرة" التي يُقال لهم إنها ستعوّض لهم بؤسهم الدنيوي، دافع بحزم عن حرية الضمير مؤكدا أنه "ينبغي أن يكون في وسع كل امرئ أن يُلـَبـّيَ حاجاته الدينية والجسدية (الطقوس– من عندنا) على السّواء دون أن يحشر البوليس أنفه في الموضوع" (كارل ماركس- نقد برنامج غوته). و هذا هو معنى أن يكون الدين "قضيّة خاصة بالنسبة إلى الدولة"، لا تتدخل فيه و لا تفرض شكلا من أشكال العقائد أو القناعات على مواطنيها.

أما أنجلس الذي كتب الكثير حول الدين وحول الحركات الدينية عبر التاريخ، فإنه سَخـَرَ أيّما سخرية وهو بصدد الرد على الفوضوية والفوضويين الذين يمثلون الترجمة المكثفة للنفسية البرجوازية الصغيرة التي تخفي عجزها بالبريق الراديكالي، سخر من أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على إلغاء الدين من حياة الناس وفرض الإلحاد بمجرد قرار فوقي، مبينا أنه بإمكان المرء أن يُسطـّر ما يريد على الورق دون أن يجد ذلك طريقه إلى التنفيذ، وأن القرارات التعسّفية هي أحسن وسيلة لتقوية القناعات الغيبية. وفي نفس الإطار انتقد أنجلس بشدة قوانين بيسمارك التي سنـّها في إطار ما سُمّي "النضال الثقافي" للتضييق على الحزب الكاثوليكي الألماني بواسطة القمع البوليسي للكاثوليكية والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ بل عُلّقت ثم أُلغيت لطابعها الفوقي التعسّفي، علما وأنها لم تفعل شيئا سوى توطيد الإكليريكيّة الكاثوليكية وإنزال الضرر بقضية الثقافة الفعلية أي الثقافة التقدّميّة التي ترتقي بوعي الشعب (أنجلس، نصوص حول الدين. ص 142 – المنشورات الاجتماعية، فرنسا 1972).

لقد اعتبر أنجلس هذا التمشـّي الإداري خطيرا لأنه "يبرز إلى السّطح الانقسامات الدّينيّة بدلا من الانقسامات السّياسيّة و يصرف انتباه فئات من الطبقة العاملة وعناصر ديمقراطية أخرى بعيدا عن المهامّ الجوهريّة للصراع الطبقي والثوري نحو عداء الإكليريكيّة السطحي جدّا و الكاذب بشكل بورجوازيّ جدّا" (لينين، نصوص حول الموقف من الدّين، ص 100-101، دار الطليعة، بيروت،1978). وبناء على هذا الموقف المادّي الجدلي، ناضل أنجلس كما ناضل الاشتراكيون-الديمقراطيون الألمان في أواخر القرن التاسع عشر من أجل إلغاء كلّ التدابير الزجريّة البوليسيّة ضدّ أيّ دين من الأديان في نفس الوقت الذي كانوا يشرحون فيه للعمّال الجذور التاريخيّة و الاجتماعيّة لهذه الأديان و ينبّهونهم إلى دور الكنيسة في محاولة إخضاعهم للاستغلال و إلهائهم عن النضال ضدّه.

وكان أوغـست بيبل الزعيم الاشتراكي الألماني سَخـَرَ من التطرف اللاديني ونفى أن تكون له صلة بالاشتراكية العلمية واصفا النزعة المتطرفة في معاداة الأكليروس (anti-cléricalisme) بأنها "اشتراكية البورجوازية الصغيرة" باعتبارها تعزل الدين عن قاعدته الاجتماعية وتحاربه بصورة تبشيريّة تجريدية موضحا أن الخطاب المتطرف ضد الدين لا يعني بالضرورة أنه الخطاب القادر على تخليص الجماهير الكادحة من الأوهام الدينية، بل إنه خطاب بورجوازي راديكالي يترجم عن فكرة سطحيّة تزعم أنّ الفكر و الثقافة يفعلان فعلهما بواسطة نفسيهما و ليس من خلال الصراع الطبقي الملموس.

وقد انتقد لينين في كتاباته السياسية انتقادا لاذعا دور الكنيسة في مساندة الاستبداد القيصري وبث الأوهام الدينية الرجعية في صفوف العمال والفلاحين حتى يقبلوا بواقعهم المزري ويتخلوا عن النضال من أجل تغييره كي يكدّس الملاكون العقاريون وأصحاب المصانع الثروات على حسابهم و دعا إلى مقاومة تلك الأوهام، ولكنه كان في الآن نفسه حازما بخصوص الأسلوب الذي ينبغي اتـّباعه في هذه المقاومة: لا حربَ سياسيّة على الدّين بل حربًا على الاستغلال الرأسمالي الذي تكمن فيه الجذور الاجتماعيّة للأوهام الدّينيّة، ولا قمعَ بوليسيًّا للأديان و القناعات بل الحريّة لها جميعًا، ولا صراعَ مع العقائد المختلفة إلا بالأسلحة الفكريّة المحظة، ولا تقسيمَ للعمّال و الشعوب على أساس العقيدة بل توحيدها ضدّ الاستغلال و الاضطهاد. و لم يتردّد لينين في الدّعوة إلى قبول العمّال المتديّنين في صفوف الحزب طالما أنهم يتبنـّون برنامجه السياسي و يدافعون عنه مشدّدا على عدم توجيه أي إساءة إلى قناعاتهم الدّينيّة. لقد كان الهمّ الأوّل للينين توحيد نضال العمّال ضدّ الاستغلال الرأسمالي باعتباره العامل الذي من شأنه أن يرتقي بوعيهم و يحرّرهم من تأثيرات الكنيسة الرجعيّة. (لينين، نصوص حول الموقف من الدين، دار الطليعة بيروت، الطبعة الثانية 1978).

إن هؤلاء المفكرين الاشتراكيين العظام لم يكن برنامجهم السياسي "محاربة الدين" و"نشر الإلحاد"، بل إن هدفهم لم يكن خوض معركة مجردة ومقطوعة عن الواقع ضد الدين. إن ذلك مناف لنظرتهم أصلا، التي تركز أولا وقبل كل شيء على تغيير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعمال والكادحين، لخلق الشروط الإنسانية لحياة لا يحتاج فيها الفقير والضعيف لأوهام دينية كي يهرب من واقعه المزري.

عودة إلى "إعلان هيئة 18 أكتوبر"

وهكذا فإن ما جاء في "الإعلان" بصدد الحجاب/الخمار سليم كما أكدنا سلفا، فلا يمكن لأي يساري، ديمقراطي، تقدمي، أن لا يندد بالقمع الذي يسلطه النظام القائم على المتحجّبات وأن لا يطالب بإلغاء المنشور عدد 108 وأن لا يواجه في نفس الوقت الدعوات السلفية الاستبدادية التي تريد إكراه الفتيات والنساء على لباس الخمار، بدعوى أنه "فريضة دينية" وأن التي لا تقوم بذلك "آثمة" ومخلة بدينها وبـ"الطهر" و"الفضيلة". وبالطبع ما كان بالإمكان، أن يصدر أكثر من هذا في بيان سياسي مشترك بين أطراف متعددة المشارب الفكرية والسياسية، ومن بينها طرف إسلامي، بل إنه ما كان بالإمكان إقرار أكثر من ضرورة عدم "حشر البوليس أنفه" اليوم و غدًا في ضمائر الناس. وهذا في حد ذاته خطوة إيجابية وهامة. ويبقى لكل طرف بطبيعة الحال حق الدفاع عن موقفه في كل جوانبه وأبعاده الأخرى و بالتالي حقنا كاشتراكيّين في نشر أفكارنا الفلسفيّة و السّياسيّة و مقارعتها بأفكار الآخرين بمختلف مشاربهم.

وقد تعدّدت كما هو معلوم ردود فعل "الإسلاميين" على "إعلان 8 مارس" ولم يتردّد بعضهم بمن فيهم عناصر من "حركة النهضة" ذاتها، في اتهام السّيّدين علي العريض وزياد الدولاتلي، القياديين النهضويين المعروفين، اللذين ساهما في بلورة "الإعلان" بـ"الانحراف عن تعاليم الدّين الإسلامي". ولكن هذين الأخيرين لم يتراجعا، أمام حملات الانتقاد والتشهير، وتمسكا، كما تمسكت قيادة حركتهما، بـ"الإعلان" بل إن العريض، لم يتردد في حوار صحفي، نشر على شبكة الانترنيت، في تأكيد أن الإسلام لم يحدد زيّا معينا للمسلمين والمسلمات وأن الرسول والصحابة رجالا ونساء "كانوا يلبسون لباس قومهم وعصرهم"، مضيفا "أن اللباس شأن شخصي تدخل في تحديده عند كل شخص قيمه وعاداته وسنه وذوقه وأغلب هذه العناصر متغيرة في الزمان والمكان بل وحتى متقلبة". ويرى العريض "أن اللباس يفترض فيه مراعاة الآداب العامة والأمن العام وفيما عدا هذين الاعتبارين فكل مواطن حر في لباسه سواء لبسه اعتقادا أو وراثة أو مجاراة". (موقع نواة – 7 أفريل 2007).

إن مزية هذا الموقف أنه يعيد مسألة الخمار إلى نصابها التاريخي، ويخرجها من بوتقة "المقدس" ليسمح بنقاشها داخل التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي وليس خارجه. ولم يتردّد الدّولاتلي من ناحيته، في حوارات عمومية، من تأكيد أن اللباس بشكل عام يندرج في إطار الحرية أي في إطار الاجتماعي/الثقافي، لا في إطار المقدس. وهذه المواقف جد هامة وهي تمثل خطوة نحو إرساء حوار جدي ومسؤول، بعيدا عن التوتر أو بالأحرى التوتير العقائدي بين مختلف مكونات الساحة الفكرية والسياسية في بلادنا.

وبطبيعة الحال لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذا الموقف ليس الموقف السائد حاليا في صلب الحركة الإسلامية التونسية بما في ذلك داخل "حركة النهضة"، إذ توجد عناصر وتيارات ترفض اعتبار الحجاب/الخمار لباسا وتتمسك بأنه "فريضة". وهي لا تثير مسألة "الحرية" إلا بصورة انتهازية أحادية الجانب، أي عندما تكون لصالحها وتحديدا عندما يتعلق الأمر بارتكاب نظام الحكم اعتداءات على حساب المتحجّبات، في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط ترفع عقيرتها بالصياح لإدانة انتهاك "حرية المتحجّبات" وتطالب الأحزاب والجمعيات باتخاذ مواقف تتهجم على الذين لا يدينون ممارسات النظام التعسفية، ولكننا لا نسمع لها صوتا يدافع عن حرية النساء اللواتي يرفضن ارتداء الخمار. كما أننا لا نسمع لها صوتا يُدين الإكراه الذي تتعرض له النساء في بلدان مثل إيران والسعودية، حيث يرتبط لباس الحجاب/الخمار بمنظومة قمعية كاملة تبدأ بتشريع تعدد الزوجات وتزويج القاصرات (9 سنوات في إيران) وتصل إلى فرض الحجاب عليهن ومعاقبة من ترفض لباسه.

ونحن ندرك أن تلك العناصر والتيارات وإن كانت اليوم عاجزة عن فرض الحجاب/الخمار على النساء بالقوة الغاشمة، لافتقارها القوة المادية فإنها لن تتردد في القيام بذلك يوم تمتلك هذه القوة علما وأنها لا تتورع اليوم عن استعمال الإرهاب الفكري من تكفير وتعهير وتهديد بسوء المصير لحمل النساء على ارتداء الخمار. وبالتالي فإن السيناريو الذي يتحدث عنه البعض من أن هؤلاء يريدون اليوم تمرير الحجاب/الخمار تحت غطاء الحرية لفرضه غدا بالقوة تحت غطاء الشريعة هو سيناريو حقيقي ووارد. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة، بالنسبة إلى أي ديمقراطي، تقدمي متماسك، وبالأحرى إلى أي يساري، جدير بهذه الصفة، للتخلي عن مواقفه المبدئية وغض الطرف عن القمع الذي تمارسه السلطة على الحجاب بدعوى أن التصدي له سيستفيد منه "الإسلاميون" على حساب حرية النساء وحقوقهن. إن نقد الحجاب/الخمار من الناحية الفكرية ينبغي أن يقترن بنقد الأساليب التعسفية للسلطة ورفضها، وبهذه الصورة يرسم الديمقراطي، التقدمي طريقه المستقل للنهوض بواقع النساء خاصة والمجتمع عامة. إن إرساء حياة ديمقراطية تتوفر فيها حرية الصراع الفكري يبقى الضامن الوحيد للسير بالمجتمع التونسي نحو الأفضل. وفي ما عدا ذلك من مواقف، سواء اتكأت على الدكتاتورية بدعوى مواجهة الخطر السلفي أو هادنت الحركات السلفية بدعوى مواجهة الدكتاتورية، فهو إن لم يُطِلْ حياة الدكتاتورية الحالية، يفتح الباب لدكتاتورية جديدة.

وخلاصة القول إن معارضة الحجاب/الخمار ينبغي أن تكون جزءا من بديل ديمقراطي تقدمي وطني شامل، يهدف إلى وضع حدّ للاستبداد في بلادنا، ويسدّ الباب أمام أي استبداد آخر مهما كان لونه، ويفتح آفاقا للشعب التونسي بأسره وللنساء خصوصا ويخلصهن من كافة أشكال الاستلاب الفكري والاقتصادي والسياسي ويجعل منهم سيّدات مصيرهن وأجسادهن وذواتهن المعنوية، ومن المؤكد أنه يوم يتحقق كل هذا للنساء التونسيات فإنهن سيتخلّيْن طواعية عن الخمار، ولكن أيضا عن كل أشكال اللباس التي تشيّؤهنّ، وستنظرن إلى ذلك على أنه مجرد ذكريات تنتمي إلى عصور "الوحشية". وفي انتظار ذلك وطالما أن الاستبداد ولاَزِماته من استغلال وفساد وتبعية، ما يزال قائما فإن مكتسبات المجتمع العلمانية ستظل هشة وقابلة للتراجع في أي لحظة.

إنّ حزب العمّال لا يتوجّه في دعايته و نشاطه العملي إلى صنف معيّن من النساء بل إلى كافـّة بنات الشعب التونسي اللواتي يتعرّضن للتمييز و الاستغلال والاضطهاد بهدف توحيدهنّ ضدّ عدوّهنّ المشترك و تخليصهنّ من براثنه، وهو لا يميّز بين سافرة أو متحجّبة لإيمانه العميق بأنّ محاولات تقسيم النساء على أساس عقائديّ يديم استعبادهنّ ولا يخدم سوى مصلحة الاستبداد ويلهيهنّ عن النضال ضدّه.

حمّه الهمّامي، صائفة 2007

هوامش

[1] إن الكرّاس الذي أصدره الحزب الاشتراكي اليساري بإمضاء السيد محمد الكيلاني، بعنوان "مع السفور ضد الحجاب"، هو النص الأكثر اكتمالا في التعبير عن موقف هؤلاء "العلمانيين". وقد صدر هذا الكراس في ديسمبر 2006 بمناسبة الحملة على المتحجّبات، للرد على موقف حزب العمال وغيره من الأحزاب والجمعيات والشخصيات التي نددت بهذه الحملة. وقد اعتمدت المواقف الواردة في الكراس للردّ لاحقا على "الإعلان". لذلك سنعتمد في ردنا هذا على هذا الكراس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة