نظرية النشوء والتطور (الحلقة الأولى)
نظرية النشوء والتطور (الحلقة الأولى)
إبراهيم جركس
الحوار المتمدن - العدد: 2830 - 2009 / 11 / 15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ما هو التطور؟... وكيف يطرأ على الأنواع والأجناس؟... هل جميع الأنواع تتطور أم أن بعضها ينجو وتكون فرصته أفضل بالتطور، أما الباقي فإنه يزول وينقرض؟... ثم ما هو تفسير الاختلاف الحاصل بين أنواع الكائنات الحية بالرغم من أنها جميعها صممت بطريقة مناسبة ولائقة بغرض التلاؤم والتكيف مع متغيرات البيئة المحيطة بها؟
في ضوء الدراسات والاكتشافات الحالية، ليس من المؤكد أن كل مخلوق قد خلق بطريقة مفردة أو موجهة باتجاه معين، حيث يمتنع أن يكون هناك انفصال أو انقطاع في نشوء الكائنات الحية لأن ذلك سيؤدي إلى ظهور شرخ كبير بين مختلف أنواع الكائنات الحية في النظام البيئي، فحين يتصل وجود كائن ما مع باقي الكائنات الأخرى، يصبح هذا الاعتماد على الآخرين السبب وراء تنوع الكائنات الحية، والحقيقة أن هناك الكثير من المخلوقات التي عاشت في الماضي السحيق قد تغيرت وتطورت حتى أصبحت على الشكل الذي هي عليه الآن، حيث أن هذه الفترة الزمنية الطويلة وعوامل الطبيعة المؤثرة عليها قد ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في عملية تصميم هذه الكائنات البدائية، كما أنها كان لها الدور الكبير والأساسي في تطوير بنى هذه البدائيات إلى كائنات ذات بنى متطورة، ويمكن تفسير هذه الظاهرة العبقرية فقط على خلفية (إعادة أعمال البناء والهدم): وهو الحل الأنسب الذي تم إيجاده كي يلائم ويوافق الملاحظات والدلائل الحالية، ولإرضاء العقول المنطقية والعلمية، وهذا ما يطلق عليه اسم "التطور Evolution".
وبإمكاننا أن نعبر عن هذه النظرية بطريقة بسيطة ومختصرة: ((كافة الكائنات المعقدة والمتطورة التي نراها في الوقت الحالي، هي نتيجة تحولات وتغيرات تدريجية متأنية حدثت لكائنات بسيطة وبدائية كانت موجودة في الماضي السحيق)).
طبعاً، إن هذا النموذج المختصر والمبسط للنظرية لا يسعى لتفسير كيفية حدوث تلك الأشياء، وتبرير الغاية منها، بل يفيدنا بأن تلك الأشياء قد حدثت فحسب، ومن دون سبب معين. والحقيقة أننا لم نتمكن حتى الآن من فهم عملية تطور المح في جوف البيضة إلى صوص كامل. وفوق ذلك، فنحن لا نعرف كيف ولماذا تطورت الكائنات من بنى متدنية بدائية وبسيطة إلى كائنات ذات بنى معقدة ومركبة ومتطورة ومتخصصة كما هي اليوم.
جميعنا يعلم أن داروين كان المفكر التطوري الأول على الإطلاق، إلا أننا يمكننا أن نلاحظ بعض الأفكار التطورية ضمن أفكار المفكرين اليونانيين المبكرين، بالإضافة إلى مفكري وعلماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إلا أن أفكارهم كانت إما غريبة أو مبهمة وغامضة.
تاريخ النظرية
قديماً:
• يمكننا ملاحظة فكرة التغير في ميثولوجيات العالم القديم مثل بلاد ما بين النهرين والحضارة المصرية الفرعونية، بالإضافة إلى الشعوب الإفريقية القديمة، إذ أنها جميعها قائمة على فكرة التغير وبأن صراعاً ما نشب في الماضي السحيق بين نظامين: أحدهما قديم وبدائي وهمجي، والآخر ناجم عنه ويتصف بالجدة والتعقيد والرقي.
• منذ ما قبل عام 450 ق.م كان الفيلسوف الإغريقي أمبادوقليس قد تصوّر فكرة بسيطة وغير معقدة عن التطور، لكنها لا تختلف كثيراً عن المفهوم العصري. فقد عرض فكرته (وعاء الطبيعة) كمسرحية، حيث أدخل فيها بعض عناصره التي يمتزج فيها الاختلاط والتشويش واللا تجانس، كتصور مخلوقات بلا رؤوس أو أذرع، وأذرع بلا أكتاف، وأجساد بلا أعضاء، وبنى خيالية أخرى لا تخطر على بال. ولكن ينتج من تقابل هذه الأجزاء واتحادها أن أدخل أمبادوقليس في عرضه هذا أجسام بشرية ذات رؤوس تحمل قروناً، وثيران لها أرجل بشرية، وأشكال غريبة أخرى.
معظم تلك المخلوقات _بالنسبة لأمبادوقليس_ قد اختفت بنفس السرعة التي ظهرت فيها، وانقرضت عن بكرة أبيها حيث أنها لم تكن صالحة أو مهيئة للعيش، وكانت نادرة جداً. في حين أن أنواع أخرى كانت قد تكيفت مع بيئتها المحيطة، ومع بعضها البعض، وقد تمكنت تلك الكائنات من البقاء والاستمرار.
• هيراقليطس: حوالي عام 500 ق.م، وهو يسمى بفيلسوف التغير والصيرورة. فهو يرى أن السمة الرئيسية للطبيعة هي التغير المتواصل، ويقول "أن كل الأشياء في تغير متصل" حيث أن الموجودات تتغير وتتحول من شيء إلى شيء آخر، ولا شيء يبقى ثابتاً إلى الأبد. لذلك نحن لا نستطيع الاستحمام بنفس ماء النهر مرتين، حسب قوله.
أشار هيراقليطس إلى أن التغير يعزى إلى التفاعل المستمر بين الأضداد في هذا العالم، وهذا التفاعل أو الصراع متجذر ومتأصل في العالم، ونتيجة هذا الصراع بين الأضداد والتناقضات تنشأ أشياء جديدة في هذا العالم، أو قد تتحول الأشياء القديمة إلى أشياء جديدة ومختلفة عما كانت في السابق. قد لا نلاحظ سمات التطور بمعناه الدارويني في فلسفة هيراقليطس، فالتغير قد لا يعني في جميع الأحيان الانتقال من الأسوأ على الأفضل، أو الارتقاء، فقد يعني في بعض الأحيان أيضاً الانتقال من الجيد إلى السيئ أو من الكون إلى الفساد. إلا أننا بإمكاننا أن نقيم على أفكاره عن التغير والصيرورة مذهباً في التطور.
• أرسطو: منذ أكثر من 2000 عام مضى كان الفيلسوف اليوناني والمعلم الأول يقول ((إن الطبيعة تنزع إلى الانتقال من من المادة الجامدة والميتة إلى المادة الواعية الحية وبشكل تدريجي صرف، حيث أن الحد الفاصل بينهما غير واضح أو محدد)). ومهما يكن المعنى الذي يرمي إليه أرسطو في هذه العبارة، فستتضح حقيقته وتظهر معالمه مع تقدم علومنا وتقنياتنا.
إن فكرة أن الطبيعة العبقرية قد قامت بالكثير من العمليات التطورية والانتقالية وبمنتهى البطء والفاعلية قد لمعت في عقول الكثيرين منذ أقدم العصور، فأحياناً كانت عن طريق الحدس والتخمين، وأحياناً أخرى كانت كنتيجة لازمة لدراسات وبحوث بدائية ومبكرة.
حديثاً:
في ضوء المعرفة الحديثة والمعاصرة، فإن أفكار أمبادوقليس تعتبر بسيطة وساذجة، إلا أنها كانت تصف بشكل طفيف وبسيط نظرية التطور حسب مبدأ الانتقاء الطبيعي.
• في القرن الثامن عشر: كان جورج لويس ليكليرك دو بوفو 1707- 1788هو أو كاتب حديث يكتب عن هذا الموضوع، وهو الذي قدم نظرية في التغير المباشر الذي يحصل للحيوانات بفعل العوامل والشروط البيئية المحيطة بها.
• هناك عالم معاصر لبوفو هو بيير لويس مورو الذي تم ذكره في رواية هربرت جورج ويلز (جزيرة الدكتور مورو)، إذ أنه وضع نظرية في التطور البيولوجي معتمداً بذلك على مبدأ التحوّل الوراثي والاصطفاء الطبيعي، والعزلة الجغرافية. وهذه النظرية هي التي أذنت بالاقتراب من الشكل الحالي للنظرية التطورية.
• وهناك العالم البيولوجي الفرنسي لامارك 1477- 1829، وهو أول عالم قدم صورة دقيقة ومفصلة للتطور البيولوجي، حيث أنه قد تصور وجود نوع من المعرفة الأولية والبدائية في هذا العالم، بالإضافة إلى تقديمه نظرية جديدة ومتماسكة نشرح مبدأ التطور. إلا أننا لا نقبل بنظرية لامارك في الوقت الحالي في ظل هذا التقدم الذي حققناه في مجالي العلم والتكنولوجيا، فنظرية لامارك عن التغيرات التصاعدية / التراكمية ترى أن الكائنات الحية وخصوصاً البسيطة منها لديها الميل Tendency لتطوير نفسها والانتقال بنفسها من البنى الحيوية البسيطة على بنى أعقد، وهذا الكلام غير منطقي لأن كلمة (ميل) ترتبط بالإرادة والرغبة، إذ أن الحيوانات لا تمتلك تلك الإرادة وذلك الميل لتطوير نفسها، بل إن هذه التطورات والتغيرات تفرض عليها بتأثير البيئة المحيطة بها.
• هناك عالم آخر لابد من ذكره هو الناشر الاسكتلندي روبيرت تشامبرز، حيث تعرض لنظرية التطور في كتابه (آثار التاريخ الطبيعي للخلق) عام 1844.
• إيراموس داروين، العالم البيولوجي الشهير وجد تشارلز داروين، قدم فكرة هامة تقول أن كافة الكائنات المتشابهة والمتماثلة قد نشأت وانحدرت من كائنات أخرى من نوعها. وقد فسر مذهبه هذا بافتراض أن النموذج الأصلي أو الكائن الأول من نوعه قد ظهر بشكل بسيط وبدائي، مع طبيعة وقدرة بدائية لاكتساب أجزاء وصفات جديدة، وهذه القدرة أو القابلية تكون على شكل حاجة ملحة أو دافع يمنحه القابلية والاستعداد لمواجهة الطبيعة والمحيط.
• كما أن هناك البيولوجيان ألفريد رسل والاس، وروبيرت مالتوس وسنتحدث عنهم أثناء حديثنا عن داروين، وذلك بسبب التأثير الذي تركته أفكارهما عليه.
• في القرن التاسع عشر: هربرت سبنسر 1829- 1903 وهو في الأصل فيلسوف، لكنه أيضاً عالم بيولوجي متخصص، حتى أنه قد أسس مذهبه في التطور وبشر به قبل عدة سنوات من ظهور كتاب "أصل الأنواع" لتشارلز داروين _والذي اعتبر على أنه قنبلة الموسم آنذاك_ إلا أن سبنسر كان في طليعة من عبر عن أفكاره، وقد شاركه في آراءه العديد من علماء البيئة والبيولوجيا في عصره.
• عام 1900 قام غريغور مندل بدراسة عملية التوارث، وبذلك تمت ولادة علم الجينات أو دراسة المادة الوراثية لأول مرة.
• خلال فترة العشرينات قام كل من فيشر، هالدين، ورايت _وهم علماء رياضيين_بإثبات أن النظرية الجينية ونظرية الانتقاء الطبيعي مترابطتان، وأنهما تشتركان في الكثير من القواسم المشتركة، وبذلك قاموا بالتأسيس لعلم الجينوم الذي أصبح النقطة المركزية في أبحاث التطور.
• كما أن تكامل علم السكان الوراثي مع الحقول العلمية التقليدية ذات الاتجاه التطوري مثل: علم التشريح، علم الطبيعات القديمة، وعلم التصنيف قد تلقي دفعة إلى الأمام خلال فترة أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات بفضل كتابات كل من دوفانسكي (عالم جينات) وماير (خبير أنظمة)، وسيمبسون (عالم في الطبيعيات القديمة).
• أعطى جوليان هكسلي في كتابه (التطور: التركيب الجديد) 1942 اسماً جديداً للنظرية الداروينية المحدثة: النظرية التركيبية.
• عام 1953 نقل كل من فرانسيس كريك وجيمس واطسون الاهتمام التطوري إلى المستوى الجزيئي من خلال نموذجهم الذي يصف بنية الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين DNAأو المادة الوراثية كما هو متعارف.
داروين ونظريته في الانتقاء الطبيعي
كما أسلفت من قبل، إن نظرية التطور تعود في جذورها إلى عهد قديم جداً، ولم يكتشفها داروين كما هو الاعتقاد السائد. فقد رأينا أنها نشأت مع الحضارات القديمة وأخذت بالتطور في كل عصر تدخل فيه، لكن داروين كان _على غرار من سبقه من العلماء_ قد اكتشف نظرية ذكية لتفسير التطور الحاصل للأنواع الحية، ويتمثل رأيه في نظرية الانتقاء الطبيعي Natural Selection.
كان داروين قد صرح في أحدى المرات أنه مدين بنظريته لمالتوس. ومالتوس هذا هو روبيرت مالتوس 1766- 1834 الذي كان لكتاباته تأثير مشابه لتأثير ألفريد رسل والاس الذي أرسل عام 1858 مخطوطة إلى داروين يورد فيها استنتاجاً مشابهاً في جوهره للاستنتاج الذي توصل إليه داروين.
كان مالتوس راعياً في أبرشية ألبوري، كما أنه كان خبيراً في علم الاقتصاد، وفي عام 1798 نشر مقالته بعنوان "مقالة في السكان" ناقش فيها فكرة خطيرة جداً تقول أن الجنس البشري ينزع دائماً إلى الحفاظ على بقاءه واستمراره، ومواجهة كافة العقبات والأخطار التي تهدد وجود واستمراره، وتتمثل هذه العوائق في الحروب والأوبئة والصراعات، وهذا ما أطلق عليه اسم "العوائق الإيجابية"، كما أن هناك شيء أطلق عليه اسم "التقييد الأخلاقي" ولكن هذا التقييد لا يفيد في شيء سوى في تليين أو إرجاء عامل العوائق والعقبات الإيجابية، كما يعتقد مالتوس.
اطله داروين على المقالة، واكتشف فكرة جديدة هي "الصراع من اجل البقاء" وقد أثرت عليه هذه المقولة تأثيراً عميقاً حيث أنه كتب فيما بعد يقول ((إن ما أعجبني حقاً هو أنه تحت تلك الظروف والتغيرات تكون النتيجة ذات وجهين: الوجه الأزل هو التغيرات الجيدة، حيث أنها تنزع لأن تكون بناء ومفيدة، بينما التغيرات الأخرى، السيئة أو الرديئة فعادةً ما تكون هدامة ومهلكة. وتبعاً لهذه العلاقة سوف تكون هناك تشكيلات جديدة لأجناس جديدة، والآن بات لدي نظرية ممتازة لأعمل عليها))
داروين ووالاس
بفضل توصيات بعض الأصدقاء تقدم داروين عام 1831 بطلب للانضمام إلى بعثة علمية للإبحار حول العالم بصفته اختصاصي في علم البيئة، وكانت البعثة على متن السفينة الملكية "بيغل Beagle" وفد استمرت في رحلتها قرابة أربع سنوات ونصف قدمت لداروين إثارة كبيرة حيث أنها ساعدته فيما بعد في استنتاج صيغة متسقة ومتماسكة لنظريته. فداروين الرجل الصبور قد عمل على مؤلفه الكبير مدة اثنا عشر عاماً قبل أن يتم اعتبار العمل منتهياً وجاهزاً للنشر. وعلى الأرجح كان هذا التأخير ليدوم فترة أطول لو أن داروين لم يستلم المخطوطة الآنفة الذكر من والاس. وبعد عام من هذا التاريخ نشر داروين عمله العظيم "في أصل الأنواع من خلال الانتقاء الطبيعي".
إن الاهتمام الكبير والهائل بالأفكار الواردة في الكتاب يبدو واضحاً وجلياً من خلال المبيعات الهائلة لهذا الكتاب خلال المئة والعشرين عاماً، فعاصفة الجدل والنقاش سوء الفهم بدأت حين تم تفسر أفكار داروين وآراءه الثورية بطريقة جزئية ومبتورة، فحتى منتصف القرن التاسع عشر كان بعض رجال العلم يدرسون بجدية تلك المستحاثات بعد أن نقدوا نظرية الخلق التي ورد ذكرها في متاب التوراة، حيث أنهم كانوا يعتقدون أن تلك القصة يجب أخذها ودفنها تحت التراب بسبب الأضاليل والتناقضات التي قدمتها للجنس البشري على مدى مئات السنوات.
ويجب ألا ننسى انه في منتصف العشرينات من القرن العشرين كان الذين يؤمنون بصحة نظرية التطور يتهمون ويدانون من قبل الكنيسة، كما منع تعليم نظرية داروين في المدارس والجامعات، وحتى يومنا هذا: فمن يؤمن بنظرية التطور سيواجه الكثير من الانتقادات والاتهامات وعلى اختلاف أشكالها من قبل بعض المتشددين، كأن يتهم بأنه مادي ويؤمن بأن الإنسان انحدر من القرود، وذلك كلام مغلوط مجحف لأن نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي لا تقول ذلك على الإطلاق.
*المحاور الرئيسية في نظرية التطور
يقول العالم البيولوجي ريتشارد دويكنز "يبدو وكأن عقولنا ليست مصممة لفهم نظرية التطور لداروين، أو تصديقها بسهولة".
من دون شك، إن نظرية التطور لداروين هي من أكثر النظريات المعروفة والمثيرة للجدل بين الأوساط العلمية، وخارج حدود الأوساط العلمية أيضاً، حيث أننا بإمكاننا ملاحظة المزيد من الخلافات والنزاعات بين المتشددين الدينيين الذين يعانون من صراعات داخلية بين إيمانهم وبين تصديقهم للنموذج التطوري الذي بات يكتشف المزيد من الأدلة يوماً بعد. ثم هناك تفسيرات العصر الجديد New Age التي ترى في التطور على أنه توق هادف إلى الكمال والرقي الروحي، وأخيراً هناك الناس الذين يقولون أن التطور عاجز عن تفسير هذا التنوع الخصب للحياة على سطح كوكب الأرض. ويعود السبب الرئيسي لهذه الخلافات هو الفهم الغائم والمبهم لنظرية التطور. فالدماغ البشري لم يصمم لكي يستطيع استيعاب هذا الكم من التغيرات التي حدثت على مدى ملايين أو مليارات السنين، لذلك فمن الطبيعي أن نشك بشيء ما استمر حدوثه طوال تلك الفترة الطويلة. وحتى الآن تم عرض نظرية النشوء التطور بشكل صعب ومعقد، وتمت مقارنتاها أيضاً ببعض الأفكار والدوغما الدينية والعقائدية، لذلك إن فهم هذه النظرية يتطلب فكراً متفتحاً وحراً.
...............................
في الحلقة الماضية، استعرضنا تاريخ نظرية النشوء والتطور، وكيف أنها نشأت مع نشوء أقدم الحضارات الإنسانية، ثم استمرت في تطورها مع كل حضارة، حتى وصلت على الشكل الذي هي عليه اليوم، ثم توقفنا عند اكتشاف واطسون وكريك الشيفرة الوراثية DNA. فاسكتشاف نتائج نموذج واطسون ـ كريك أدى إلى فك شيفرة المادة الوراثية تقريباً، والكشف عن نمط ترجمة الرسائل الوراثية، وتطوير الفروع الأخرى لعلم البيولوجيا الجزيئية. فهناك أفكار من علم الأحياء الجزيئي متسقة بشكل كبير مع أفكار الداروينية المحدثة، هي إحدى مصادر التخمرات الجديدة في الفكر التطوري. فالداروينية وسلالتها المعاصرة هي من دون شك نظرية متحجرة ومتجذرة كأساسات حقيقية بسبب التراث العلمي المتراكم على مدى عقود.
إلى أين ستقودنا الأفكار الحالية؟ أو أين سينتهي بنا الأمر؟... من الصعب التكهن بذلك.
إلا أن مكونات التخمرات الحالية يمكن مطابقتها مع بعض العناوين الرئيسية لبرهان داروين الذي أورده في كتابه "الأصول": التنوع، الانتقاء الطبيعي، الغريزة (السلوك)، الأحافير والمستحاثات، التصنيف، علم الأجنة، وأصل الأنواع، وهو العنوان الأصلي للكتاب، لكنه الموضوع الذي بالكاد استطاع مجاراته والإمساك به ومعالجته.
(1) التصنيف Classification
الوحدة الأساسية في عملية التصنيف هي "النوع Species". وهناك محاولات لا تحصى لتعريف الأنواع تم القيان بها منذ بدايات العلم، إلا أنه لم يتم إيجاد أي تصنيف يمكن أن يغطي كل حالة. فعلياً، كافة التعريفات تؤكد على ميزة التكاثر والإنتاج _الأنواع هي تلك المجموعات من الكائنات الحية ضمن أي مدى ناجح وطبيعي في التزاوج والتكاثر. والتعبير الحديث التي يستخدم لوصف هذا المفهوم هو "مسبح أو مستنقع الجينات"، فالأنواع هي مجموعة من الكائنات العضوية التي تشترك مع بعضها بمجموعة من الجينات، ويظهر هذا التشارك في عملية المزج بين جينات شريكين اثنين في البويضة الملقحة. فجينات نوع معين لا تختلط مع جينات نوع آخر مختلف، لأن التزاوج غير محتمل، أو أنه غير ناجح جراء فشل الحيوانات المنوية في تلقيح البويضة، أو من خلال تطور غير ناجح في الجنين Embryo، أو من خلال إنتاج نوع عقيم أو نسل هجين. فالشرط الأساسي الجزيئية لحدوث تكاثر ناجح هو التطابق التام بين الكروموسومات الذكرية والأنثوية للنوع الواحد، والتي تلعب دوراً هاماً في عملية انقسام الخلية لإنتاج خلايا البويضات والحيوانات المنوية.
هذا المعيار صالح وملائم بشكل واسع في كافة أنواع الحيوانات والنباتات التي تتكاثر بطريقة جنسية. أما في الكائنات اللا جنسية، فالتكاثر يكون عن طريق الانقسام البسيط، فمثلاً، من الصعب جداً تكوين مفهوم عقلاني عن الأنواع، بما أن الصلة الوحيدة التي تربط بين العضويات هي صلة تاريخية، أو صلة أبوة مشتركة تقريباً. ونحن نلاحظ ذلك بالجمع بين السلالات.
إن المعتقد الرئيسي في نظرية التطور هو أن العلاقة بين الأنواع هي أيضاً تاريخية وتعود إلى سلالات مشتركة في الماضي السحيق، وتظهر أثناء الجمع بين الأنواع ومقارنتها. فبالنسبة للعالم البيولوجي التطوري، إن البرك والمستنقعات الجينية التي تميز عالم اليوم هي أجزاء منتقاة بعناية ومعدلة للمستنقعات الجينية في الماضي البعيد إلى حد ما لأنواع وسلالات مشتركة. والتحدي الوحيد والأساسي لنظرية التطور هو تفسير كيفية حصول الانقطاع في عملية تبادل الجينات _أي كيفية انفصال الأنواع، وظهور سلالات جديدة، وسنتناول هذا الموضوع لاحقاً.
أما فوق مستوى الأنواع، فمن الشائع أن يكون هناك مجموعات خاصة من الأنواع التي تتماشى معاً، الطيور على سبيل المثال، أو الخنافس، أو الهررة. ويقوم التصنيف البيولوجي بتكوين هذه الحقيقة عن الحياة من خلال منح هذه المجموعات تسميات لاتينية مناسبة: الطيور مثلاً Aves، الخنافس Coleoptera، والهررة Felidae. [موسوعة العقل، ص235]، ثم ترتيب هذه الأسماء في تصنيفات هرمية شمولية تقريباً.
• الطيور من رتبة _صنف_ الفقاريات Vertebrata
• الخنافس نوع ضمن صنف الحشرات Insecta
• الهررة عائلة ضمن نوع السنوريات Carnivora من رتبة الثديات Mammalia
هذه التصنيفات والرتب هي من الأمور المتعارف عليها في كمجال العلوم، ولكن المشكلة أن أولئك الذين يستعرضون هذه التصنيفات _من أرسطو حتى لينايوس في القرن الثامن عشر، وحتى يومنا هذا_ يعتقدون أنها تعبر عن شيء ما حقيقي وفعلي، أي أنها نظام ما في الطبيعة. فقبل داروين، كان ذلك النظام يعتبر بشكل عام على أنه بمثابة "مخطط إلهي للخلق" أو أنه الانعكاس المشوه والناقض لجوهر حقيقي ثابت لا متغير في عالم الكمال. وحسب داروين وأتباعه، إن العلاقة بين الطيور، أو بين الخنافس، أو بين الطيور والهررة، ليست علاقة مجردة أو منعكسة عن عالم مثالي موجود مسبقاً، بل هي علاقة تاريخية أو جينالوجية [الجينالوجيا: هو علم الأنساب]، أي أنها تعود إلى سليل مشترك في زمن ما.
لذلك فالسمة الرئيسية للتصنيف هي دراسة أوجه الشبة بين مختلف الكائنات الحية Homology، فعندما يتعلم الطفل التمييز بين العصافير، فالمعيار الذي يستخدمه الطفل هو نفس المعيار الذي يستخدمه العلماء عادةً: الريش، المنقار، الجناحين... وهذه السمات هي نفسها الموجودة عند السنونو، والبجع، في حين أن أجنحة الخنفساء أو منقار السلاحف لا تجعل من هذه الكائنات طيوراً _فالتماثل أو التشابه قد يكون مختلفاً أو جوهرياً. من الناحية العملية، إن الأمر لا يعدو سوى أن يكون مجرد قياس أكثر من كونه دراسة التماثل والشبه بين الكائنات الحية. ومهمة التصنيف البيولوجي هو التمييز بين التشابهات بين الكائنات Homology (تشابهات معلومة) والقياس Analogy (تشابهات مغلوطة).
ويهتم علم التصنيف بالنسبة لعلماء البيولوجيا التطورية بالتماثلات العضوية _الخصائص التي تميز المجموعات_ والتي تبدو كأدلة على النسب المشترك، لذلك تظهر الهرمية العلاقات التاريخية الفعلية.
إن برنامج البحث هنا يتضمن إعادة ترتيب وصياغة تاريخ الحياة على الأرض عن طريق تتبع آثار النسب المشترك الذي تم التعرف عليه من خلال التماثلات العضوية.
عندما طرح داروين فكرته التي تقول أن كافة التصنيفات يجب أن تكون جينالوجية تم اتباع هذا البرنامج بحماسة شديدة. حيث أن هذا البرنامج كان يتعلق بالنتائج الرئيسية لتاريخ الحياة: إنه يدمج التصنيف مع علم التكوين Morphology، وعلم الطبيعيات القديمة Paleontology، وعلم الأجنة Embryology. لذلك تعتمد النظرية على مسألة رئيسية وجوهرية هي: تفسير كيفية نشوء الأنواع. وقد صرح داروين أن المشكلة تكمن بالدرجة الأولى في دراسة التنوع.
(2) التنوع Variation
بافتقاره لنظرية صحيحة وكافية لتفسير آلية التوريث وانتقال الصفات من جيل إلى آخر _حيث أن داروين لم يكن قد سمع بشيء اسمه "الجينات" بعد_ فقد قام بدراستها من خلال الأشخاص الذين كانت لهم مصالح مباشرة من آلية الوراثة، مربو الحيوانات والنباتات. وفي مخطوطته التي قدم فيها اختصاراً لما توصل إليه "الأصول" تناول داروين هذه المسألة من خلال القياس analogy. فأثناء الترويض، لاحظ المربون حدوث تغيرات كانت في أغلب الأحيان تمتلك القدرة لحفظ النوع واستمراره عن طريق التزاوج الانتقائي. وبعد عدة أجيال، كان النسل الناتج: الكلاب، نبات القرنبيط، واليمام _حيوانات داروين الأليفة_ هي النتيجة. أما آراء داروين حول أسباب وراثة التغيرات وانتقالها فقد أصبحت من الاهتمامات التاريخية في الوقت الحالي.
لقد كافح ضد المشكلات المتعلقة بمسألة ما إذا كان التغير عفوي وتلقائي أم أنه تم نتيجة تحفيزه بفعل بعض "الشروط الحياتية" كالبيئة على سبيل المثال أو العوامل غير الطبيعية. إلا أنه استحسن فكرة البيئة. وقد حاول تحليل نموذج الوراثة: هل الوراثة اختلاطية أم غير اختلاطية؟ وهل النسل نتيجنتيجة اختلاط نصفي الأبوين؟....
يبدو الاختلاط حقيقياً من الناحية التجريبية بالنسبة للكثير من الخصائص، كما أن له بعض النتائج التي تتمثل في ترسخ أو خفوت بعض التغيرات الجديدة في الأجيال التالية. هذه المشكلات المتعلقة بأصل التغيرات وتوارثها من جيل إلى آخر، لم يتم حل لغزها حتى القرن العشرين, أي حتى تطور علم الجينوم إلى شكله الحالي، وتأسيس علم الجينات الجزيئية.
لا تسمح لنا المساحة هنا الإسهاب في النظرية الجينية، كما أن نتائجها يجب أن تكون منصوصة هنا بالتفصيل. فالأساس المادي للوراثة هو "الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين DNA" وهو شبيه بسلم ملتف من الجزيئات التي تحمل داخلها رسالة مشفرة من أربعة محارف، والمحارف مكونة من أربعة قواعد كيميائية، وكل قاعدة تشغل درجة في هذا السلم.
الرسالة تقرأ في ثلاثية، أو ثلاثة محارف مرتبطة، والكلمات هي نوعين: "قف" أو "الحمض الأميني X". وهناك عشرين نوعاً من الأحماض الأمينية المشفرة بشيفرة ثلاثية، بعضها بثلاثي مفرد، والبعض الآخر بأكثر من 6 ثلاثيات مختلفة. لذلك فالرسالة الجينية تحدد طريقة تسلسل الأحماض الأمينية المنتهية بإشارات "قف"، وعندما تتم ترجمتها والتصرف بناء على تعليماتها، تكون النتيجة "البروتينات": وهي عبارة عن سلاسل من الأحماض الأمينية. الجينات genes هي أجزاء من المادة الوراثية DNA والتي تحدد كل سلسلة أحماض أمينية مستقلة.
المادة الوراثية كامنة داخل الكروموسومات، في جزيئات كل خلية جسمية. وعندما يتم إنتاج الخلايا الجنسية (البويضات أو الحيوانات المنوية) تنقسم الكروموسومات بشكلٍ متساوٍ تماماً، كل زوج يحتوي كروموسوماً واحداً من أحد الوالدين، وداخل كل زوج أجزاء متبادلة في تقاطع عشوائي. الكروموسومات المختلطة تنقسم من جديد انقساماً خلوياً ينجم عنه خلايا جنسية تحتوي عضو واحد من كل زوج، لذلك فإن عدد الكروموسومات مقسوم بالتساوي. العدد الذي يميز النوع يتم استعادته عندما يتحد الحيوان المنوي مع البويضة _كل واحد منهما يحمل نصف الكروموسوم_ ويصبحان بويضة ملقحة واحدة. لذلك فالتوريث ليس اختلاطياً: لقد انتقلت الجينات إلى الجيل التالي من دون أن يطرأ عليها أي تغير.
بهذه الخلفية، يمكن تحديد مصادر التغير المتوارث. أولاً، إن جينات كل فرد جديد هي عبارة عن نسق جديد، لأنها تجمع بين نصفين (نصف من البويضة ونصف من الحيوان المنوي) وكل نصف مختلط بتقاطع عشوائي بين زوجي الكروموسوم في الخلية الأصلية التي أنتجتها. ثانياً، التغير الجديد قد يكون عن طريق الطفرات Mutations: وهي حوادث طارئة أو أخطاء أثناء عملية انقسام أو إصلاح المادة الوراثية أو أثناء انقسام الخلية.
يمكن للأخطاء في المادة الوراثية أن تعدل أو تغير أحد القواعد الكيميائية في الجزيء، كما أنها يمكن أن تغير أحد الأحماض الأمينية في بروتين ما. إن الأخطاء التي تطرأ على الخلية أثناء انقسامها وتضاعفها قد تغير بعض أجزاء الكروموسوم والذي قد ينقلب أو قد يحذف، أو يتضاعف، أو قد يتحول إلى كروموسوم آخر. فمضاعفات الطفرات قد تكون تافهو بحيث أنها لا تذكر أو قاتلة مهلكة للفرد أو للنوع.
إنّ تأثير الطفرات على القدرة الإنتاجية للفرد تتراوح بين الآثار الطفيفة والعقم. والطفرات المعروفة في المادة الوراثية نادرة جداً، إلا أنها تحدث بشكل متكرر، حتى أن الإنسان قد يحمل عدة طفرات خلال حياته أو حياتها. بعضها سيصيب الخلايا الجسدية _ولن تصيب البويضات أو الخلايا المنوية_ لذلك لن تنتقل إلى الأجيال التالية.
هذا الكلام يذكرنا بالسؤال الذي طالما أرق وأقلق داروين: ما إذا كان بالإمكان توريث التغيرات لتي طرأت على الفرد خلال حياته ونقلها إلى الجيل التالي؟ ويشير هذا السؤال إلى ما يمكن تسميته حالياً باسم "التوريث اللاماركي، نسبة إلى لامارك". فبالنسبة للامارك، قال بأن يمكن توريث تأثيرات الاستخدام أو عدم الاستخدام وتغيرات أخرى ونقلها إلى الأجيال التالية، وهذا هو سبب التغير التطوري. في الواقع، كان داروين يرى نفس الشيء. فالإجابة التقليدية لذلك السؤال هي: الخصائص الطارئة لا يمكن توريثها ونقلها إلى الجيل التالي. والسبب في ذلك هو أن النسل لا يرث سوى بويضة واحدة أو حيوان منوي واحد من كل والد، أما عند الحيوانات فتلك الخلايا تنزوي في مرحلة مبكرة جداً خلال حياة الجنين، قبل أن تؤثر عليها البيئة. أما السبب الثاني، هو أن ترجمة المادة الوراثية إلى بروتين _التعليمات العضوية_ هو عملية ذات اتجاه وحيد، من دون أي مجال للرجوع إلى الوراء _أي من حالة العضوية الكاملة إلى حالة المادة الوراثية المفردة. وهذه الفكرة هي المعتقد الرئيسي في علم الجينات الجزيئية. والاستثناء المعروف الوحيد لهذا المعتقد هو النسخ العكسي، ويتم من خلال إنزيم يعكس RNA _الحمض النووي المرسال_ ويحوله إلى DNA، مخزن الرسالة.ولكن لتحفيز المعلومات الكامنة فيها بيئياً، فيتطلب الأمر أكثر من ذلك. يجب إدخال هذه المعلومات إلى الـ RNA _عكس الترجمة بدل النسخ_ إلا أن هذه الآلية لم تكن معروفة بعد.
كان هناك دعم وتأييد للنموذج اللاماركي الجديد لنظرية التطور، والطرق المختلفة التي تتبعها البيئة على الجينات المذكورة خلال عملية التأثير عليها وتوجيهها.
إن الأفكار المتعلقة بالتنوع قد اكتسبت دوافعها من تقنيات فصل جزيئات البروتين المختلفة، ثم تخمين نسبة الجينات المتنوعة في الأفراد والأنواع. وكانت النتيجة مذهلة حقاً: هناك العديد من التباينات والتنوعات الخفية أكثر مما كان متوقعاً. التباينات الجينية الخفية أو الكامنة في الفرد تعود إلى سبب أن هناك أشكال مختلفة للجينات المتشابهة في أحد نصفي الكروموسومات المأخوذة من أحد الوالدين.
وعند البشر، إذا كانت بعض الأشياء التي تم اختيارها هي نموذج مناسب من الكل أو عينة جيدة من المجموع فنسبة الجينات المتغيرة في كل فرد هي على الأقل 6 %، وهي نسبة طبيعية عند الأنواع الفقارية، أما عند النباتات والكائنات اللافقارية فهي أعلى وتبلغ 15% أو أكثر. وباكتشاف أن جينات الأنواع أقل تناسقاً من المعتاد، فقد انتقلت المشكلة من داروين الذي كان تساؤله يرتكز على مسألة: ما هو منبه هذا التنوع والتباين؟ إلى الداروينية المحدثة التي تركز على مسألة: لماذا كل هذا الكم من التباين؟
ويشير أتباع الداروينية المحدثة إلى أن هذا التنوع يعود في الأصل إلى "الانتقاء الطبيعي".
*المحاور الرئيسية في نظرية التطور
(3الانتقاء الطبيعي Natural Selection
(( الانتقاء الطبيعي يحدث في العالم كل ساعة وكل يوم، وكل تغير مهما كان ضئيلاً يرفض الصفات السلبية ويحافظ على الصفات الحسنة ويضيف إليها، وهذه التغيرات تعمل بصمت وبشكل غير محسوس، ونحن لا نرى أياً من هذه التغيرات البطيئة حتى تمر فترات زمنية طويلة وعصور سحيقة)) [تشارلز داروين، اصل الأنواع: التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي].
بإمكاننا اختصار تعريف الانتقاء الطبيعي بما يلي ((هو عملية تطورية عمادها بقاء الأصلح، عملية طبيعية تعيش بواسطتها الأنواع التي تستطيع التكيف مع محيطها، أما التي تعجز عن التكيف فتنقرض)).
إن مساهمة داروين الأساسية كانت في اكتشافه نظرية الانتقاء الطبيعي، بقاء الأصلح والأنسب والأكثر ملائمة، التفسير المادي المبدع لعملية التطور. وقد كان هناك عدة مظاهر وأشكال لنظرية الانتقاء الطبيعي كحجج استنتاجية. هنا نورد ثلاثة: 1) جميع الكائنات تنتج أعداداً من نسلها أكثر بكثير من اللازم لاستبدالهم، إلا أن عدد أفراد كل نوع يبقى ثابتاً. لذلك، نلاحظ وجود هناك أخلاقيات تفاضلية تتمثل في: الصراع من أجل البقاء. 2) جميع الكائنات تظهر علائم تغيرات متوارثة. لذلك، تلك الكائنات تتوارث كافة التغيرات التي تساعدها في صراعها من أجل البقاء، كما أنها ستمررها إلى الأجيال التالية. 3) البيئة ليست مستقرة. لذلك، هذه التغيرات المتوارثة والتي لها الأفضلية ضمن البيئة المتغيرة هي التي سيتم اختيارها، وستتغير الأنواع كي تحافظ على تلاؤمها مع بيئتها.
تم تكييف هذه الأفكار منذ عام 1870 من قبل ألفريد رسل والاس. حيث أنها تمثل التأثيرات التي تتركها البيئات المتغيرة، والثبات الملاحظ في أعداد من الأفراد.
أورد الفيلسوف "أ. جي، فلو" نموذجاً مختصراً للنظرية: 1) المعدل الهندسي للتزايد + مصادر طبيعية محدودة = صراع من أجل البقاء. 2) صراع من أجل البقاء + تغيرات طارئة = انتقاء طبيعي 3) الانتقاء الطبيعي + فترة زمنية = تحسينات وتطويرات بيولوجية. [موسوعة العقل، ص 237]. يشدد هذا النموذج الحدود النظرية على المصادر البيئية أكثر من الأعداد السكانية الثابتة والمستقرة والبيئات المتغيرة، كما أنه يقدم لنا فكرة "التحسين Improvement". فالشيء الذي يتم تحسينه غير محدد.
هناك نموذج مختصر آخر على الشكل التالي: 1) جميع الكائنات الحية عليها أن تتكاثر 2) جميع الكائنات الحية تعرض تغيرات جينية 3) التغيرات الجينية تختلف في تأثيرها على التناسل والتكاثر4) لذلك، التغيرات الجينية التي تتميز بتأثيرات مرغوبة على عملية التناسل سوف تنجح وتستمر، أما تلك التي لم تنتج عنها أية تأثيرات مرغوبة، أو أن تأثيراتها غير مرغوب بها، فستفشل في النهاية، وستتغير أقسام من المادة الوراثية. ويؤكد هذا النموذج على جينات المتغيرة، والنجاح التناسلي أكثر من العوامل البيئية.
إذا أمكن تقديم الانتقاء الطبيعي كحجة استنتاجية حيث تتبع النتائج منطقياً المقدمات، عندها يجب أن تكون النتائج صحيحة إذا كانت المقدمات صحيحة. وإذا أثبت أن إحدى هذه المقدمات، أو الثلاثة، صحيحة بالتجربة، عندها لابد من حدوث الانتقاء الطبيعي.
لكن يجب أن نوضح تماماً ما الذي تم انتقاءه: الانتقاء الطبيعي يدور حول البقاء التفاضلي، أو بمعنى آخر، الانقراض التفاضلي. ما هي الوحدات التي ستنجو أو تنقرض، هل الجينات هي المعنية هنا، أم أجزاء معينة منها (نوكليوتيدات ثلاثية أو مفردة)، أم المقصود هنا الكروموسومات، أو الأنماط الجينية الداخلية (التعليمات الجينية للأفراد)، أو الأنماط الخارجية الظاهرية (كأن تعبر كل عضوية عن أنماطها الجينية الداخلية), أو مجموعات من الأفراد، أو الأنواع؟
تركيبة والاس عن الانتقاء تشير إلى الأنواع، وفلو ربما يشير إلى الأفراد، أما التركيبة الثالثة فهي تشير إلى الجينات: فهل هذه النماذج الثلاثة صحيحة؟... كافة التعابير التي تصف الانتقاء الطبيعي تثير تفاعلات، لأفراد الكائنات العضوية مع بيئة غير عضوية، مع الأفراد الآخرين في التناسل، مع أفراد من أجناس أخرى في علاقة المفترس ـ الفريسة، وهكذا. كما أن أوصاف الانتقاء الطبيعي تثير انقسامات وتضاعف الجينات، أو الأفراد الذين يحملون تغيرات وطفرات مرغوبة. فالمادة الوراثية والكروموسومات تطفر وتتضاعف، إلا أن _وبما أنها لا تتفاعل مع البيئة_ الانتقاء الطبيعي لا ينطبق عليها بشكل مباشر. إنها الكائنات العضوية الحية أو الأنماط الظاهرية _تواريخ الحياة_ هي التي تتفاعل مع البيئة، لكن الأنماط الجينية الداخلية لأية عضوية حية _أو مجموعة الكروموسومات بمعنى آخر_ تنفصل عن بعضها وتتغير عند إنتاج البويضة أو الحيوان المنوي، حيث أن الأفراد (بصفتهم مجموع الأنماط الظاهرية والأنماط الجينية) لا يتكاثرون أو ينقسمون هم بأنفسهم بالمعنى الحرفي للعبارة.
في شبكة العلاقات التي تربط بين السلف والخلف على مر الأجيال والتي تكلمنا عنها في الحلقة الماضية، فالوحدات التي تتمكن من البقاء تفاضلياً، أو التي يتم انتقائها، هي أجزاء من المادة الوراثية DNA الطويلة. إذا كانت هناك تغيرات انتقائية بعد عدة أجيال، فبعض أجزاء المادة الوراثية في الجيل الأصلي سيتم تقديمها في عدة نسخ إلى الجيل الأخير، وأخرى لن يتم تقديمها أو نقلها إلى الأجيال التالية على الإطلاق، لأنها انقرضت عندما فشل الكائن الذي كان يحملها بالتناسل والتكاثر. ومن أجل تلخيص التغير الذي طرأ هنا، يجب علينا استخدام تعبير "مسبح أو مستنقع الجينات". على مر الأجيال، تحدث تغيرات عديدة في مستنقع الجينات الخاص بأي نوع من الأنواع. طبعاً، لم ير أي أحد مستنقع الجينات هذا أو سبق أن غمس إصبعه فيه، فهذا تعبير مجازي ومجرد، كما أن التأثير المحسوس الذي ينجم عن التغيرات سيكون تغيراً في الأنماط الظاهرية للأفراد.
أحد التعبيرات التي تستخدم لوصف الجينات هي أنها ((جزء من الكروموسوم الذي يستمر ويحافظ على بقاءه من جيل إلى آخر، ويتصرف كوحدة أساسية في الانتقاء الطبيعي)) [موسوعة العقل، 238]. قد يبدو هذا التعريف بلا أي معنى، كما لو أننا علينا أن نفهم الانتقاء الطبيعي قبل أن نفهم الجينات، إلا أن فهم واستيعاب آليات الانتقاء الطبيعي يعتمد على استيعاب الجينات وطريقة عملها. إلا أن ذلك على الأقل يؤكد النقطة التي تقول: لأن الكروموسومات تنفصل عن بعضها بشكل عشوائي في كل جيل، فذلك يعني أنه ليس هناك أية وحدة بإمكانها البقاء سليمة ودون أن يطرأ عليها أي تغيرات على مر عدة أجيال. طبعاً، هناك نظرية "الانتقاء الطبيعي التطفلي Hitch-hiking Natural Selection" وهو تطفر محايد ومفيد قد ينتشر لأنه يحدث بالتوافق مع تطفر مفيد آخر، وعندها ينجو كلاهما ويستمر كوحدة دون انفصال أثناء الانقسام.
لأن بعض الكائنات العضوية تظهر بعض الخصائص المتميزة كالعناية الأبوية، أو التنظيم الاجتماعي بطريقة قريبة من القرابة الشاملة، فالعائلة أو المجموعة التي تربطها صلة القربى قد يكون لديها تماسك كاف للتصرف كوحدة من الانتقاء الطبيعي، أي الانتقاء العشائري كما يطلق عليه.
أما ما الذي يلي صلة القرابة فالأمر يعود إلى الهرمية الجينيالوجية للسكان والأنواع. على غرار الجماعات التي تربطها صلات القرابة، يرتبط أفرادها ببعضهم عن طريق السلالة والنسب، عن طريق مستنقع جيني مشترك، كما أنها قد تتصرف كوحدات للانتقاء، أو للبقاء التفاضلي. إنه أمر يدعو للشك في ما إذا كان أفراد نفس الأنواع يتفاعلون لدرجة قد يصبح أحد المستنقعات الجينية منقرضاً: دمج أو خلط المستنقعات الجينية عن طريق التزاوج الضمني هو النتيجة المحتملة (مع أن بعض التفاعلات بين أفراد البشر قد نتج عنها انقراض، إبادة جماعية من دون تزاوج ضمني). إلا أن الأنواع المختلفة يبدو أنها تتفاعل بنفس الشكل. ليفكر أحدكم بفناء الأجناس والأنواع المحلية في جزر غالاباغوس والقاطنين الآخرين المقربين بعد إنتاج حيوانات مثل الخنازير والماعز. في هذه الحالة، فإنكم تفكرون في انتقاء الأنواع _وسنتناول هذه النقطة في الحلقة القادمة_ وهذا بذاته يقلل من التنوع، ولا يولده.
الملاحظات التي فسرها الانتقاء الطبيعي هي "التكيف"، التصميم الظاهري للكائنات من أجل ملائمة البيئات التي تعيش فيها. إن حجة التصميم كانت إحدى الدعامات الرئيسية قبل الداروينية بالنسبة للاهوت الطبيعي: دليل على وجود خالق ومصمم ذكي. إن نظرية داروين في الانتقاء الطبيعي أسقطت أسس تلك الحجة.
إن النظرية الداروينية المحدثة للانتقاء الطبيعي بجوهرها هي أن الطفرات تظهر بشكل عشوائي، من دون إمكانية الرجوع من البيئة لتوجيه أو التأثير على نوع الطفرات الضرورية اللازمة، والتفاعل بين البيئة و الكائنات العضوية الحية يحتمل ظهور الطفرات الجيدة الناجحة أو السيئة الفاشلة. تركيبة والاس عن الانتقاء الطبيعي يؤكد على البيئة المتغيرة كقوة دافعة، ولكن من المحتمل وجود وجهة نظر بديلة، للعالم الساكن غير العضوي والذي اكتشفته الحياة عن طريق الانتقاء الطبيعي، حيث أن البيئة بشكل أو بآخر هي من صنع العضويات نفسها. فعلى سبيل المثال، من الصعب تصور التغير البيئي الذي سيقود في الأصل النباتات المائية لاستعمار اليابسة، أو الحيوانات البرية أن تصعد إلى السماء: اليابسة والسماء هما موجودتان، لكنهما لا يكونان أي جزء من البيئة القابلة للسكن حتى تقوم الكائنات العضوية بذلك. طبعاً، ما أن يصبح هناك نباتات على اليابسة، أو طيور تحلق في السماء، سيكون بإمكاننا أن نتصور بسهولة منافع أن تصبح فينا بعد أبقاراً وطيور سنونو.
لكن التكلم عن الأبقار والسنونو يجلب معه مشكلة الانتقاء الطبيعي. سمتان مختلفتان تماماً من النظرية ينبغي التفريق بينهما. أحدها متعلق بأشياء كالأبقار، السنونو، ورقبة الزرافات. أما الأخرى فهي تتعلق بمسألة الانتقاء داخل مجموعات الأفراد، وهي أساس علم الجينوم السكاني. بالنسبة للنوع الأخير، ليس هناك أدنى شك أنه ناجح وفعال. النموذج الاستنتاجي للحجة يثبت أنه ينبغي أن يكون ناجحاً، وهناك دلائل تجريبية وملاحظات على أنه يعمل فعلاً. الحالة الكلاسيكية للانتقاء الطبيعي في مجتمعات الأفراد تتضمن افتراس الطيور لحشرات العث الوامضة والمعتمة في بريطانيا الصناعية والريفية [Evolution: The history of an idea. Bowler 1984]، تطوير المناعة في البكتريا ضد المضادات الحيوية/ الأنتي بيوتيكس، والحشرات ضد المبيدات، والفئران ضد سموم الفئران. والعلاقة بين فقر الدم المنجلي عند البشر والملاريا في أفريقيا. هذه الأمثلة تغطي نوعين للانتقاء. في حالة المناعة ضد المضادات الحيوية والمبيدات، فالمستنقع الجيني لمجموعات الأفراد يتغير ويتبدل: الأنماط الداخلية القاتلة والمهلكة بالنسبة للفرد يتم التخلص منها، أما تلك الهامة من أجل بقائه واستمراره فإنها تبقى وتتضاعف. هذا هو الانتقاء الموجه Directional Selection، حيث أن هناك تغيراً وانتقال من حالة إلى أخرى. الميلانين عند حشرات العث وفقر الدم المنجلي عند البشر هما أمثلة عن الانتقاء مثبت [من الثبات والرسوخ] والتطبعي [من الطبيعة] Stabilizing & Normalizing Selection، والذي لا يظهر كانتقال أو تغير، بل كحفاظ وبقاء النموذج على حاله بعد التخلص من المتغيرات. في كلا المثالين، يحدث أن يكون النموذج المستقر مجموعة أفراد متعددة ومختلفة، وفي بعض الأحيان يدعى هذا بالانتقاء المتوازن Balancing Selection. هناك نوع آخر من الانتقاء وهو واضح جداً لدرجة أننا لا نعيره أي انتباه في الحالة العادية، الأمثلة هي النجاح الإنتاجي الفقير للناس الذين يعانون خللاً وعيوب جينية والتي تبعدهم عن النموذج أو المعيار. تلك العيوب يتم التخلص منها من خلال ما يطلق عليه اسم الانتقاء التطهيري Purifying Selection. الاصطلاحات قد تبدو هنا متنوعة ومعقدة، إلا أننا بشكل عام يمكننا التفكير بالانتقاء الطبيعي على أنه إما تغير مزيل (تطهيري، موجه) أو أنه محافظ (متوازن، تثبيتي)، أو أنه أيضاً يقوم بترقية التغيرات وتحسينها (موجه) أو يحافظ على الحالة كما هي (تطهيري، مثبت).
بالنسبة للداروينيين المحدثين، إن أهم أنواع الانتقاء الطبيعي هو الانتقاء الموجه (تفسير التغيرات الناتجة) والانتقاء المتوازن كتفسير للتغيرات الملاحظة. إن أصل أو أساس التغير هو تبديل شكل من الجينات، أو جزء من الكروموسوم، بشكل جديد متطفر. وسيتم ذلك عندما يمنح النموذج المتطفر تقدماً نسبياً، وينتشر عبر الجماعات. ومعدل الانتشار يعتمد على درجة التقدم والفائدة أو ضغوط الانتقاء (معدل الوفيات الانتقائية بالجيل الواحد) وعلى ما إذا كانت الطفرة محصورة فقط بين أولئك الذين توارثوها من كلا الأبوين (متجانس Homozygous)، أو مهيمن (متباين Heterozygous وهو للتعبير إذا حصل التوريث فقط من أحد الأبوين)، أو متوسط (وهو للتعبير إذا كان التوريث من كلا الأبوي وأحدهما أكثر من الآخر). التغيرات لا يمكن إلغائها إلا في حال أن الجينات في النموذج الأصلي قد اختفت، حيث أن الطفرات تصبح أكثر ترسخاً وثباتاً، أو أنها تصبح عامة وشائعة بين أفراد الجماعة. فالترسيخ يتحقق بشكل أسرع عندما لا تكون الطفرة لا مهيمنة ولا محصورة بل متوسطة، والتي على الأرجح أنها صحيحة بالنسبة لمعظم الطفرات التي تحدث على مستوى الجزيئات والبروتينات.
يحدث الانتقاء المتوازن عندما ترث الكائنات العضوية المتباينة أشكال مختلفة من الجين من كلا الأبوين، وهو أكثر نجاحاً من الكائنات العضوية المتماثلة والمتجانسة. هنا سيقوم الانتقاء بإلغاء الكائنات المتجانسة في كل جيل، إلا أنه لن يغير توازن جزأين أو أكثر من الجينات. الانتقاء المتوازن هو التفسير الذي يعتمده أتباع الداروينية المحدثة لتفسير حدوث التباينات التي تمت ملاحتها في جماعات الأفراد الطبيعية. والافتراض هو أن الكائنات المتباينة الجنس Heterozygotes هي أصلح وأفضل من الكائنات المتجانسة أو المتماثلة الجنس Homozygotes لأنها تمتلك مصفوفة أكبر من المصادر للتعامل مع المتغيرات البيئية. هناك تفسير آخر وهو التفسير "اللا دارويني" وهو أن التغيرات اللاحظة التي طرأت على البروتينات هي تغيرات محايدة بشكل انتقائي، أي أنها لا تقدم أية فوائد حقيقية أو أعطال فعلية، كما أنها تحدث عن طريق الصدفة المحضة، عن طريق التراكم الجيني الفوضوي والعشوائي. بهذه النظرية المحايدة، إن الطفرات غير الضارة قد تنتشر وتصبح أكثر ثباتاً ورسوخاً _أو حتى أنها قد تزول_ ومن خلال الصدفة. وكما هو الحال في الانتقاء الطبيعي، تظهر لنا التجارب أن التراكم الجيني يحدث، وخصوصاً ضمن الجماعات الصغيرة حيث تكون عينات الانحراف أو التطور أكثر احتمالاً، كما أن هناك نظرية رياضية متطورة جداً تشرح كيف أن الطفرات شبه المحايدة قد تنشط ضمن الجماعات.
حتى الآن، لقد تم إثبات استحالة التمييز بين هاتين الآليتين، الانتقاء الطبيعي الدارويني التراكم المحايد، أما بشكل عام، فالحيادية قد حققت الكثير من النجاحات الحالية. جوهرياً، تتوقع الداروينية المحدثة أن أي تغير محتمل هو مرتبط بالتغيرات والتحولات البيئية، أما أنصار نظرية الطفرات المحايدة فهم يقولون ينفون ذلك. وعندما تتحدد إحدى هذه المتغيرات مع أحد التغيرات الجينية، كما حصل في الملاريا والخلايا المنجلية عند الإنسان، قد يبدو الأمر وكأنه انتصار سجل للداروينية المحدثة، إلا أن هناك آلافاً مؤلفة من البروتينات المتعددة التي ستريح بال أتباع الحيادية.
أخيراً نقول أن الانتقاء الطبيعي هو الفكرة التي تقول أن الكائنات قد تشكلت أو صممت على يد البيئة، حيث يتم التخلص من الصفات أو الخصائص غير المرغوبة، والاستعاضة عنها بخصائص جديدة أفضل منها وأكثر فعالية تساعد النوع على البقاء والاستمرار.
يقول داروين في ختام مقدمته لكتاب "أصل الأنواع" (( من من الباحثين يستطيع أن يوضح لنا سر أن نوعاً ما يكون كثير الذيوع وافر العدد، وأن نوعاً آخر يمت إليه بحبل النسب يكون قليل الانتشاء ضئيل العدد؟ وعندي أن لهذه الصلات من الشأن ما لا وراءه في الاعتبار غاية، لأنها تحدد لكل كائن يعمر. هذه الأرض نصيبه من التفوق والغلبة في هذا لزمان، وفيما سيعقبه من الأجيال. كذلك يغيب عنا ما كان من أمر هذه الصلات المتبادلة وأثرها في الكائنات الوفيرة التي عمرت الأرض خلال العصور الجيولوجية الخالية. ومهما يكن من استغلاق هذه الحقائق علينا في هذا الزمان، ومهما يكن من اعتقادي في بقائها مستغلقة دهوراً متطاولة في مستقبل الأيام، فإني بعد إذا أنفقت ما أنفقت من الوقت في البحث وتقليب الأسفار، وكثرة التأمل والاستبصار، وبما عرفت من الأحكام والاستنتاجات الجلى، وبما لي من الثقة في ذلك كله، لا يمر بي خلجة من الشك في أن ما كنت أقطع به، كما قطع الطبيعيون من القول بأن كل نوع من الأنواع قد خلق مستقلاً بذاته، خطأ محض)).
(4 أصل الأنواع Origin of Species
(( ... إني لعلى تمام الاعتقاد بأن الأنواع دائمة التحول، وأن الأنواع التي تلحق بما نسميه الأجناس اصطلاحاً هي أعقاب متسلسلة عن أنواع طواها الانقراض، على نفس الطريقة التي نعتبر بها الضروب التابعة لأي نوع، أعقاباً متسلسلة عن النوع ذاته. وإني فوق ذلك لشديد الاقتناع بأن الانتخاب الطبيعي هو السبب الأكبر والمهيء الأقوى لحدوث التحولات، ولو لم يكن السبب الأوحد الذي تفرد بإبرازها إلى عالم الوجود)) [تشارلز داروين، مقدمة كتاب أصل الأنواع].
على الرغم من أن عنوان هذه الفقرة كان هو العنوان الذي اختاره تشارلز داروين لكتابه، إلا أنه بالكاد كان قد حدد مشكلة كيفية ظهور أنواع جديدة إلى الوجود. فآليته (الانتقاء الطبيعي) تتعلق بالتغيرات أو التحولات التي تطرأ على الأنواع بمرور الوقت، لكن هذه الآلية لوحدها لن تكون كافية لإنتاج أنواع جديدة، حيث أن بالكاد ستعدّل وتحفظ الأنواع القديمة. تظهر الأنواع الجديدة فقط إذا تزايدت أعداد الكائنات من مختلف الأنواع، أو إذا انفصل نوع ما إلى فرعين. وقد اقترح داروين مبدأه الذي أطلق عليه اسم "مبدأ التنوع": من خلال التماثل مع الانتقاء اللاصطناعي، ومن خلال مناشدة الكثير من المناطق والأماكن المختلفة للاقتصاد الطبيعي. فقد قال أن الأنواع الأكثر تنوعاً ينزعون إلى أن يكونوا محافظين، ثم ينقسمون إلى أنواع متفاوتة بشكل تدريجي، تصنيفات نوعية، وفي النهاية إلى أنواع متمايزة ومختلفة. إن نواة تفسيره هذا كانت "التنوع التكيفي التدريجي".
إن نظرية الداروينية المحدثة عن أصل الأنواع _للتنوع Speciation_ تختلف عن نظرية داروين وخصوصاً في مسألة التشديد على العزلة الجيولوجية كدافع ضروري لتشكل الأنواع، بالإضافة إلى مسألة أخرى وهي التأكيد على آليات العزلة الجينية. نظرية التنوع التي أقرتها الداروينية المحدثة تعتبر صرح ضخم من دون أدنى شك، كما أن هناك حجج تدعم التنوع من دون العزلة الجغرافية ، ومن دون الرجوع إلى التدرجية الداروينية.
يمكن للأنواع الجديدة أن تبرز دفعة واحدة من دون شك. فمضاعفة عدد في الخلية هو عمل شائع جداً: يحدث ذلك إذا انقسمت الكروموسومات، كما يحدث قبل الانقسام الطبيعي والسليم للخلية، إلا أن الخلية قد تفشل في انقسامها. هذه الخلية عاجزة عن إبراز بويضات أو حيوانات منوية سليمة وصحيحة، لأن الكروموسومات ستتشارك في رباعيات، وليس في ثنائيات كما يستلزم إنتاج الخلايا الجنسية السليمة. لكن في حالة التهجين بين نوعين مختلفين سيكون هناك سلالات عقيمة بسبب التنافر بين مجموعتي الكروموسومات، فعملية تضاعف الكروموسومات سترسخ الخصوبة (حيث أن كل كروموسوم بات له شريك كي يرتبط معه). كما أن التخصيب الذاتي يمكن أن يبرز إلى الوجود أنواع جديدة متوسطة بين الأبوين. وهناك العديد من أنواع النباتات والحيوانات التي ظهرت بهذه الطريقة، وبعضها تشكل أو تم تشكيله داخل المختبرات.
إن التنوع عن طريق انقسام الكروموسومات Polyploidy هو انقسام فوري ولحظي، أنواع جديدة بالكامل قد تنحدر من فرد ذاتي التلقيح، فالحوادث أو الطفرات Mutations هي السبب، والعزلة الجغرافية ضرورية جداً.
هذه الطرق الأربعة جميعها مستقاة من نموذج الداروينية المحدثة عن التنوع، والذي يشدد على عامل العزلة الجغرافية [والذي سنتحدث عنه لاحقاً] والتغير الانتقائي التدريجي الذي يحدث مع مرور الوقت، والجماعات بدل الأفراد. وبين هذين الطرفين، هناك نموذج ثالث للتنوع والذي بات في الوقت الحالي على درجة كبيرة من الأهمية، كما أنه يلقى الكثير من الدعم والموافقة والتأييد، ويطلق على هذا النموذج اسم "التوازن الفاصل Punctuated Equilibrium" والتنوع الكمي هو البديل.
هناك مجموعة من علماء الجينات المدعمين بالأدلة والبراهين وجدوا أن الأنواع المتشابهة أو المتقاربة تكون متباينة أو متفاوتة في ترتيب التركيبة الجينية أو الكروموسومات، حيث أنها تقوم بترسيخ الطفرات الطارئة على كروموسوماتها خلال تاريخ وجودها. فعلى سبيل المثال، تختلف الكروموسومات عند البشر عن مثيلاتها عند الشامبانزي، ويظهر هذا الاختلاف في انعكاس تسعة كروموسومات، واندماج اثنين.
سواء أكانت الطفرة الواضحة في المادة الوراثية ترجع بشكل رئيسي إلى معدلات قابلة للقياس، أو أن كل طفرة مفردة تطرأ على الكروموسوم هي شيء فريد ونادر، فأن كلاً منهما يعتمد على الصدفة القائمة على الأقل على عمليتي انفصال للكروموسوم، حيث يتبع ذلك إعادة ترتيب المادة ودمجها. الكائنات الحية ذات الطفرات الكروموسومية المتباينة _أي التي ترثها من أحد الأبوين_ عادة ما تظهر علامات خصوبة منخفضة، أما تلك التي يتم وراثتها من كلا الأبوين _أو المتجانسة_ فهي كاملة الخصوبة. لذلك بإمكان الطفرات الكروموسومية أن تتصرف كآليات العزل الجيني، حيث أنها تقوم بتفضيل التزاوج بين الأفراد الذين يحملون الطفرات _أو النسل الجنيس_ وبدلك فهي تسبب التنوع. ولكن بما أن الطفرات الكروموسومية نادرة وفريدة من الناحية العملية، إلا أن الطريقة الوحيدة التي يمكن للكائنات المتجانسة أن تتكاثر من خلالها هي عن طريق التزاوج والتناسل مع النسل المنحدر من الفرد الذي كان يحمل الطفرة الأصلية.
هذا النموذج: "التنوع الكروموسومي" يمثل عملية انقسام الكروموسوم على أنها تنوع وذلك بعدة طرق: لا يتطلب الأمر عزلة جغرافية، بل إن الصدفة هي السبب الرئيسي وليس عملية الانتقاء الطبيعي، التناسل بين أفراد متحدرين من فرد واحد أمر ضروري للغاية، وقد تظهر أنواع جديدة خلال بضعة أجيال، مع تأسيس لمجتمع متجانس من أجل الطفرة.
...............................
هناك مجموعة ثانية من الحجج التي تدعم فكرة التنوع الكمي جاء بها علماء الطبيعيات القديمة، والذين فشلوا بشكل عام في إيجاد دليل على التغير التدريجي في الأحافير والمستحاثات. وبدلاً من ذلك، تظهر أحافير الأنواع بشكل مفاجئ ومباغت، وتبقى على حالتها هذه خلال فترة زمنية قد تطول أو تقصر، ثم تختفي بنفس الطريقة التي المفاجئة والفظة التي ظهرت بها. كما أن نفس نوع البيانات كان متوفراً لداروين وزميله الجيولوجي تشارلز لايل (1797- 1875). وقد بنى لايل نظريته معتمداً على تلك البيانات، لأجزاء متفرقة من عملية الخلق لأنواع على "يد قدرة فائقة للطبيعة". أما داروين الذي آمن أن الانتقاء الطبيعي هو القدرة الحقيقية الفاعلة، فقد حاول البحث والتفتيش في البنى الجسدية للمستحاثات عن العيوب الخلقية، وكان يأمل أن الاكتشافات المستقبلية ستظهر وتكشف عن النقلات التدريجية التي تكلم عنها. أما في الوقت الحالي، فقد تخلى أخيراً بعض علماء الطبيعيات عن ذلك الأمل وأخذوا الأحافير والمستحاثات من حيث قيمتها الظاهرية، كسجل فعلي لعملية التطور. فقد استنتجوا أن عملية التنوع تحدث بسرعة كبيرة وضمن الجماعات الصغيرة، حيث أن النقلات والتحولات التدريجية بين الأنواع تزول وتتلاشى. فإذا لم يحدث التغير خلال التاريخ المدوّن للنوع، فلا بد وأنه قد حدث خلال زمن معين، خلال التاريخ غير المدون للجماعة الأساسية الصغيرة.
من هذه الأفكار جاءت النظرية التي تقول أن الأنواع تطلق باستمرار وبشكل عشوائي فروعاً صغيرةً يكون معظمها مصيره الهلاك والاندثار، ولكن قد ينجح البعض منها في الاستمرار والبقاء. وكما في النظرية الكروموسومية للتنوع، ليس الانتقاء الطبيعي هو المسؤول عن مظهر هذه الفروع، إلا أنه يعمل علة مستوى أعلى، أي أنه يقوم بالاختيار بينها واصطفائها.
إن التغيرات التطورية الرئيسية لا تطبق عملها في انتقاء الفرات الطارئة على الجينات أو الكروموسومات، بل على الأنواع، مجموعة من الأنواع، ومن خلال عملية عشوائية بالكامل.
..............................
أما المجموعة الثالثة من العلماء هم أتباع علم البيولوجيا الجزيئية، فالتقنيات المتطورة في الوقت الحالي مكنت العلماء من معرفة تسلسل الكنليوتيدات في المادة الوراثية DNA، وفي الحمض النووي المرسال RNA. عندئذٍ أصبح بالإمكان مقارنة محارف الشيفرة الوراثية مع سلسلة الأحماض الأمينية في البروتين الذي تم تركيبه على أساس الرسالة الواردة في الحمض المرسال RNA، فالشيفرة الوراثية غزيرة ووفيرة للغاية.
هذه الطروحات الثلاثة المستقلة: الكروموسومات، الأحافير، والبيولوجيا الجزيئية، تتلاقى من الوجهة التنوعية المستقاة من قلب الداروينية المحدثة. فهذا الاختلاف والتباين مثير للدهشة. فهو يتمحور بشكل رئيسي حول ثلاثة أمور هي: الزمن، عدد الأجيال أو الأفراد، والانتقاء الطبيعي. إلا أن هذه المحاور الثلاثة _الاثنان الأولين من ناحية الكم_ هي أساسات علم الجينوم السكاني. فالداروينية المحدثة تعتمد على المزج بين الانتقاء الطبيعي وعلم الجينوم التجريبي والجماعي/ السكاني. والذين يعتمدان بدورهما على تجنب التأثيرات العشوائية عن طريق اعتبار عدة أجيال وعدة أفراد. فعلم الجينوم الجماعي قد يفسر التنوع أو الاستقرار أو التغير التدريجي ضمن الأنواع. فالقوة المحركة والدافعة لكافة هذه الأفكار التي وردت سابقاً حول التنوع هي أن تلك العوامل قد لا تكون لها أية علاقة بأصل الأنواع. بمعنى آخر، إن مبادئ علم الجينوم الجماعي قد تم توجيهها نحو وجهة خاطئة في الهرم: فهي تفسر سلوك الجينات في الجماعات، إلا أنها غير مناسبة إطلاقاً عندما يتم اعتمادها كتفسير لتاريخ الحياة. فهي في النهاية، نقد جوهري للداروينية المحدثة وتقترح أن الانتقاء الطبيعي ليس له أية علاقة بأصل الأنواع.
(5 السلوك Behaviour
من إحدى المجالات المتنامية للداروينية المحدثة هو علم البيولوجيا الاجتماعية Sociobiology، وهو يتمحور حول التفسيرات التطورية لمظاهر السلوك، وخصوصاً في التفاعلات الاجتماعية ضمن الأنواع. وقد بدأ داروين في عمله هذا بتفسيرات _في سياق نظريته في الانتقاء الطبيعي_ لمجتمعات الحشرات: النحل، النمل، والقائمة على أساس التضحية الذاتية أو السلوك الغيري من قبل الأفراد أو الجماعات.
علم البيولوجيا الاجتماعية المعاصر هو مزيج من علم الجينوم الجماعي وعلم دراسة السلوك [الإيثولوجيا] ونظرية اللعبة التي تفسر السلوك على أنه مجموعة من الاستراتيجيات التي تمتلك أفضلية انتقائية إذا تمكنت من زيادة أو تحسين فرصة بقاء الأفراد أو أقاربهم الذين يشاركونهم جيناتهم.
من أجل أن تكون الميزات موضوعاً للانتقاء الطبيعي، يجب أن تكون _سواء أكانت ميزان سلوكية أو بنيوية_ قابلة للتوريث، أو تحت السيطرة الجينية. فلكي تتبنى الداروينية المحدثة بعض السمات السلوكية، فكل ما يتطلبه الأمر هو إثبات أنها قابلة للتكيف تحت ظروف بيئية معينة [بعض السمات والميزات تقاوم الإبداع]، وافتراض جين من أجلها. ليس هناك أي ضرر من افتراض وجود جينات نظرية للإيثار أو الشذوذ الجنسي، إلا أن نقاد البيولوجيا الاجتماعية ينظرون إلى هذه الممارسات على أنها كأمثلة على الاستبداد المخفض للجينات. أو على الخواء في نظرية بإمكانها تفسير كل شيء.
تعليقات
إرسال تعليق