الدّين في العلوم الاجتماعية: الدّين ودوره في الثّقافة

الدّين في العلوم الاجتماعية: الدّين ودوره في الثّقافة

عزالدّين بن عثمان

عالمنا يعيش تحت تأثير الدّين، بل إنّ كلّ المجتمعات يتحكـّـم بها الدّين بالرّغم من النّزعة العقلانيّة السّائدة المتمثـّـلة في التـّـفكير العلميّ وممارسة العلمانيّة. ويكفي تتبـّـع الأخبار التي تقدّمها وسائل الإعلام والنـّـظر فيما يجري في أنحاء العالم ليدرك المرء أنّ الأحداث التي تجدّ من خلافات وثورات وصراعات متأثـّـرة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالدّين. تأثير الدّين وتحكـّـمه بالمجتمع قد ينظر إليه المتديّن على أنّه إيجابيّ وقد يراه العلمانيّ أو اللاّمتديّن سلبيّا. ونظرا لمكانة الدّين وتأثيره في المجتمع كان لزاما أن تهتمّ به العلوم الإجتماعيّة وأن تجعله موضوعا من مواضيع البحث الإجتماعيّ. الدّين ليس مجرّد العبادة وارتياد الأماكن التـّـعبّديّة بل هو أكثر من ذلك بكثير. الدّين يمسّ كلّ جانب من جوانب الحياة الاجتماعيّة ويشكـّـل طرق التـّـفكير ويُملى كيفيّة العيش ذاتها إذ يبيّن طرق اللـّـباس والأكل والسـّـلوك ويحدّد تقاليد الزّواج ويحكم العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد والمجموعات وداخل الأسرة وفي كلّ مجال ويوضّح الطـّـرق التـّـربويّة وعمل المؤسّسات ويقنّن الخدمات التي تقدّمها ويفرض مواقف ورؤى أخلاقيّة وأحكاما فقهيّة تتعلـّـق بكلّ نشاط وبكلّ مظهر من مظاهر الحياة. وتهتمّ به العلوم الإجتماعيّة لأنـّـه في جوهره عبارة عن معتقدات مشتركة تستند إلى معاني إيمانيّة ومقدّسات هي على غاية من الأهمّية تجعل المجمتمعات تنظـّـم حياتها انطلاقا منها وحولها.
مركزيّة المعتقدات الدّينيّة في الحياة الاجتماعيّة جعلت الدّين يصمد عبر الأزمنة وفي كلّ الثـّـقافات واليوم نجده متغلغلا بالرّغم من أنّ السّياق الاجتماعيّ للمعتقدات قد تغيّر. اليوم وقد دخلت البشريّة الألفيّة الثـّـالثة ارتفعت أصوات دينيّة في العالم الغربيّ ملفتة الانتباه إلى أنّ نهاية العالم قد أوشكت، كما أنّ أحداثا أخرى جعلت النّقاش يحتدم من جديد حول الدّور الحاضر والمستقبليّ الذي يجب أن يضطلع به الدّين . بالرّغم من تغيّر المعتقدات الدّينيّة في العالم الغربيّ على الأقلّ بقيت الأسئلة المتعلـّـقة بالدّين هي نفس الأسئلة التي كانت تُطرح من قبل: تحت أيّة ظروف تتشكـّـل المعتقدات الدّينيّة؟ كيف تتغيّر تلك المعتقدات وكيف تتطوّر وكيف تصمد؟ هل أنّ النـّـظم الإجتماعيّة الموجودة في مجتمعات مختلفة تساعدنا في فهم التـّـنوّع الدّينيّ وتعدّد الأشكال العقائديّة؟

في تناولها لظاهرة الدّين تحاول العلوم الاجتماعيّة أن تتجنّب الأحكام المسبقة على المعتقدات لأنّها تمثـّـل مواضيع حسّاسة ولأنـّـها متجذّرة في العاطفة. وفي هذا الفصل لن يكون غرضي أن أقيّم ألأديان والمذاهب الدّينيّة والمعتقدات ولا أن أصدر الأحكام على صلاحيّاتها في الحياة الاجتماعيّة بل التـّـركيز على السّياق الإجتماعيّ وتأثيرات النّظم العقائديّة فيه. وإذا كان علم الإجتماع مثلا يسلـّـط اهتمامه على الكيفيّة التي بها تـُـترجَمُ المعتقدات إلى أفعال اجتماعيّة فإنّ دراسة الدّين في علاقته بالثـّـقافة تحاول أن تستجلي نوعيّة المعرفة المتوفـّـرة للبشر من خلال الدّين. فهل أنّ الإنسان الحديث لدبه طرق عقلانيّة فعلا في التـّـفكير؟ وهل يمكن الحديث فعلا عن تقهقر للعقائد والممارسة الدّينيّة أمام المعرفة العلميّة أم أنّها تغيّرت فحسب تماشيا مع الظـّـروف المجتمعيّة الحديثة؟

إنّ النّقاش حول أشكال المعرفة والثـّـقافة يدخل في إطار ما يسمّى "الإنقسام الكبير" بين دعاة العقلانيّة وحرّية الإرادة من جهة والمدافعين عن النّظم العقائديّة الغير عقلانيّة من جهة أخرى. ومن البديهيّ أنّ الحوار في هذا المجال تحرّكه رغبة الإنسان حيثما كان في امتلاك معرفة وثقافة يمكن الوثوق بهما. وإنّه لمن الطـّـبيعيّ أن تكون للإنسان رغبة وطموح وآمال وأحلام وأن يسعى إلى معرفة الحقيقة فيما يتعلـّـق بوجوده والغرض منه وبوجود العالم الذي يعيش فيه. فهل من السّهل أن نعرف حقائق بشأن هذه المسائل أم أنّ المعتقدات والقيم الموجودة في الثـّـقافة قد تعيق المعرفة؟

بالنّسبة لدعاة العلم والعقلانيّة لا يمكن للإنسان أن يتوصّل إلى حقائق ثابته حول العالم والغرض منه إلاّ باتـّـباع تفكير وممارسات علميّة ممّا يستدعي استبعاد التـّـفاسير التي تستند إلى الدّين أو السّحر كافـّـة. لقد وُجدت تفاسير عديدة في كلّ زمان وفي كلّ حقبة تاريخيّة ترجع السّبب من وراء وجود العالم إلى أمور غيبيّة إلى جانب تفاسير أخرى ترجعه إلى السّحر أو تشرحه بالخرافة. لكنّ بروز العلوم التـّـجريبيّة بمناهجها الوضعيّة التي ترجّح الملاحَـظ والواقعيّ على الميتافيزيقيّات رسّخ أسسا صلبة للتـّـفكير والممارسة العلميّين وكان ذلك قفزة عملاقة في ميدان المعرفة. عندما أدركت البشريّة أنّ الإنسان بإمكانه أن يفكـّـر بطريقة عقلانيّة وبالتـّـالي يقوم بممارسة علميّة أثناء البحث دخلت مرحلة حاسمة في تاريخ الفكر الإنسانيّ. تلك المرحلة تسمّى حقبة التـّـنوير التي شدّدت على أنّ العلوم جعلت الإنسان يعرف لأوّل مرّة طبيعة الأشياء بصفة قطعيّة. ولابدّ لنا في هذا الشـّـأن من إيضاح الفرق، في عجالة، بين التـّـجريبيّة والعقلانيّة إذ هما مفهومان يكادان بتعارضان. العقلانيّة فرع من الفلسفة يتـّـخذ العقل وسيلة في البحث ومعالجة المواضيع المدروسة عوضا عن الملاحظة الحسّيـّـة والإدراك الحسّيّ الذين تتـّـخذهما التـّـجريبيّة كمنهاج في تحصيل المعرفة وبلوغ الحقيقة. العقلانيّة اتـّـباع للطـّـرق المنطقيّة وتفكير بالإعتماد على العقل وحده من أجل التـّـوصّل إلى نتائج يمكن تطبيقها أمّا التـّـجريبيّة فتستعمل العقلانيّة ولكنّها تركـّـز أساسا على الملاحظة الحسّية والتـّـجربة من أجل التـّـوصّل إلى استنتاجات علميّة يمكن التـّـأكـّـد منها عبر التـّـجربة. وقد لعب كلّ من رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا وغوتفريد لايبنتز وإيمانويل كانط أدوارا بارزة في تثبيت المناهج العقلانيّة. ويمكن القول إنّ البشريّة قد تمكـّـنت من تجاوز "الإنقسام الكبير" الذي تحدّثت عنه في الفقرة السّابقة خلال حقبة التـّـنوير ورجّحت الكفـّـة لصالح العلم والتـّـفكير العلميّ مبتعدة بذلك عن الجهل والخرافة والتـّـفسير الغيبيّ للظـّـواهر والأشياء مستعيضة عن الدّين بالحقيقة اليقينيّة التي يمكن التـّـثبّت منها. وهذا لا يعني أنّ التـّـفكير الدّينيّ قد تقهقر أو انطمس وإنـّـما لا زال موجودا بقوّة في كلّ المجتمعات دون استثناء. لكنّ الدّين يبقى إيمانا قويّا بقوّة غيبيّة أو بقوى غيبيّة هي التي أوجدت الإنسان والعالم وتتحكـّـم بمصيرهما.

تعريف الدّين:

الدّين في العربيّة من الدّيـْـن. دان له أي أطاعه. الدّين إذا جنس من الإنقياد والذلّ. الدّين طاعة؛ يقال دان له يدين دِينا إذا أصحب وانقاد وطاع. المدين هو العبد والمدينة هي الأمَة، كأنَّهما أذلّهما العمل (المصدر: الصّحاح في اللـّـغة للجوهري؛ منقول من موقع الباحث العربيّ). وأمّا كلمة "Religion" فيمكن أن تكون متأتـّـية من الفعل اللاّتينيّ "religare" الذي يعني "ربط" أو "وصل، أو اتـّـصل" (بالله) وقد تكون مشتقـّـة من كلمة لاتينيّة أخرى، "religere" التي تعني "حصد ، وجمع وأدّى بعناية" تعبيرا عن اتـّـباع التقاليد والتّـنفيذ الدّقيق للطقوس.

وبعد الإتيان على المعنى اللـّـغويّ لكلمة "دين" لابدّ من الإشارة إلى أنّ تعريف الدّين ليس بالأمر الهيّن إذ يعرّفه كلّ من زاوية معيّنة: ثمّة من يقول إنّه طريقة في الحياة وبذلك يتغافل على ما في الأديان من عقائد وعبادات، وثمـّـة من يقول إنّه إيمان لا يحتاج إلى إثبات علميّ لأنـّـه يتعارض أصلا مع التـّـفكير العلميّ. وثمّه من يقول إنّه معتقدات وممارسات طقوسيّة تعبّدية تتمحور حول كائن غيبيّ أو ماورائيّ يتحكـّـم بالإنسان والكون. ومن الواضح أنّ غالبيّة الأديان تستند إلى مرجعيّة نصّية تتمثـّـل في كتب سماويّة أو غير سماويّة وتحتوي على منظومات أخلاقيّة متشابهة تقريبا وتؤكـّـد على أنّها تمتلك حقيقة يقينيّة حول الواقع والكون والطبيعة البشريّة. تلك الحقائق الدّينيّة المسلـّـم بها من دون الإستناد إلى دليل علميّ تـُـترجَـم إلى قواعد ومعايير ورموز تتجلـّـى في الصّلاة وفي مختلف الطـّـقوس وفي القوانين الدّينيّة. وأمّا الإيمان فهو مجمل المعتقدات المتعلـّـقة بكائن خارق للعادة كما قلت وهو تصديق موروث لا يمكن إقامة الدّليل على مدى صحـّـته. ومن الواضح أيضا أنّ الدّين يحتوي على تعلـّـق بالأجداد وبثقاقتهم وبالمدوّنات الكتابيّة التي خلـّـفوا وبتاريخ الأمّة أو الجماعة المتديّنة وبالتـّـراث القصصيّ وبالأساطير... ولو فكـّـرنا قليلا لأدركنا أنّ الدّين تجربة شخصيّة وممارسات جماعيّة تتمثـّـل في الطـّـقوس المجتمعيّة المنبثقة عن اقتناع مشترك. وأوّل من قال إنّ الّين تجربة عاطفيّة كان التـّـيولوجيّ الألماني فريدريش شلايرماخر مؤسّس علم اللاّهوت اللـّـيبراليّ. (
Friedrich Schleiermacher).

تعريف الدّين كتجربة فريدة من نوعها تتمثـّـل في الشـّـعور بالضـّـعف أمام الله والخوف منه يعني أنّ الدّين يجب أن يعالج في حدوده التـّـاريخيّة لأنّه داخل في النّسيج التـّـاريخيّ للحياة وفي المنظومة اللـّـغويّة والثـّـقافيّة التي هي وسيلته في التـّـعبير عن نفسه. كما أنّ تعريف الدّين بهذه الطـّـريقة يفصل بين الأخلاقيّات والميتافيزيقيا وبين الدّين، ويمكن التـّـدليل على هذه الفكرة بما نراه اليوم من تلاش للدّين في كثير من المجتمعات الغربيّة في حين أنّ الأخلاقيّات لا زالت قائمة الذّات في نفس تلك المجتمعات: الإنسان قد يفقد الإيمان وقد يتخلـّـى عن ممارسة دين معيّن ولكنّه لا يتخلـّـى عن الأخلاقيّات، وبهذا يتـّـضح أنّ الدّين والأخلاقيات والميتافيزيقيا أشياء مختلفة ومنفصلة. الأخلاقيّات والميتافيزيقيا ليسا سوى ثمرة وعي بالعالم مكتسب من خلال الحدس الدينيّ المشار اليه اعلاه (حسب شلايزماخر). الدّين في حدّ ذاته هو مجرد هذا الشعور ، وكل شيء آخر له صلة بالدّين - اللاهوت ، الهوية ، المجتمع ، الاخلاق ، الخ - يستند الى الحدس والإحساس الدّينيّين الذين يؤدّيان إلى معرفة الله. معرفة الله إذا، حسب شلايرماخر، تتمّ عبر الإحساس وليس على أساس أمور من قبيل الوعي أو التفكير. الدّين في نظر شلايرماخر يمكن أن يتـّـخذ شكلا باليا أو مشوّها ولذلك عمل على تنقية المسيحيّة وجعلها متماشية مع التقـدّم العلمي. كتب فريريش شلايرماخر في كتابه "حول الدّين: خُطب لمحتقريه المثـقــّـفين":

"الدّين هو نظام موحّد من المعتقدات والممارسات المتعلـّـقة بأشياء مقدّسة، وهذا يعني مجموعة الأمور المصنـّـفة (المحدّدة) والمحظورة ـ معتقدات وممارسات توحّد في مجموعة أخلاقيّة وحيدة هي الكنيسة كلّ الذين يتمسّكون بها".

وكتب أيضا في نفس الكتاب الذي نشره سنة 1799 بالصّفحة 36:
"الدّين هو البحث عن هذا (التـّـجرية العاطفيّة) والتـّـوصّل إليه في كلّ شيء يحيا ويتحرّك، في النـّـماء والتـّـغيّر، في كل الأفعال والعذابات. الدّين هو أن تكون لك حياة وأن تعرف الحياة في أحاسيسك الفوريّة، بهذه الكيفيّة فقط في الوجود المنصهر في اللاّمتناهي والأزليّ" (ص 36).
وكتب:
"الدّين الحقيقيّ يكمن في المعنى وتذوّق اللاّنهانيّ" (ص 39).

وتعرّف العلوم الإجتماعيّة الدّين بأنـّـه مؤسّسة تعبّر عن الإيمان بالسّلطة الإلهيّة وعبادتها، ولكي أوضـّـح كيف أنّ الدّين مؤسّسة لابدّ من أن أتناول بالشـّـرح بعض المفاهيم الاجتماعيّة الأساسيّة.
المؤسّسات الاجتماعيّة هي هياكل أو ميكانيزمات تنظيميّة هدفها تحقيق النـّـظام الإجتماعيّ والمحافظة عليه وعلى روح التـّـعاون والتـّـماسك الذين يجب أن يوجدا في سلوك الأفراد لكي يستمرّ المجتمع أو المؤسّسة في الوجود. المؤسّسات تعرّف دوما في علاقة بالهدف الاجتماعيّ ويُـشار دوما إلى أنّها تعلو فوق حياة الفرد وأهدافه من خلال إنشاء قواعد السّلوك وترسيخها. كلّ مؤسّسة إذا هيكل تنظيميّ يستند إلى تقاليد وإلى أنماط من السّلوك تـُـعدّ مهمّة في المجتمع. وكلّ مؤسّسة تتحكـّـم وتقدّم خدمات في نفس الوقت ولها قوانين تجعلها نظاما رسميّا أو غير رسميّ، وأمّا خلق المؤسّسات فيأتي كنتيجة لتطوّر المجتمع وتبقى نشأتها موضوعا حضاريّا تـُـعنى به العلوم الإنسانيّة. وبالرّغم من أنّ بعض المؤسّسات يمكن أن يُنشئها أفراد عن نيّة وتدبير مسبقين، كالأحزاب السّياسيّة مثلا، فإنّ ظهور تلك المؤسّسات يعتبر استجابة لاحتياجات معيّنة. المؤسّسات تظهر بصفة عامّة وتعمل وتتطوّر في نمط متماش مع المجتمع؛ ولئن ظهرت عن تدبير فإنّ الحاجة هي التي دعت إلى إيجادها وليست نوايا الأفراد الذين أنشؤوها. وبما أنّها وسائل تـُـستعمل في الحفاظ على النـّـظام الإجتماعيّ فإنّها تعكس كذلك نفسيّة الأفراد وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم وكذلك تجاربهم الشـّـخصيّة. ويمكن القول هنا إنّ كلّ مؤسّسة لها أربع جوانب: مادّيّ واقتصاديّ وإيديولوجيّ وقانونيّ. ويمكن القول أيضا إنّ الدّين مؤسّسة لأنـّـه يحتوي على جانب مادّي متمثـّـل في البنايات (كنائس أو مساجد ووزارة للدّين وإدارات جهويّة وغير ذلك) والأفراد المنتمين إليه، وجانب اقتصاديّ يتمثـّـل في مختلف المعاملات الماليّة والمشاريع التي تجني عائداتها المؤسّسة الدّينيّة، وجانب إيديولوجيّ يتمثـّـل في مختلف الرّؤى والعقائد والأفكار المحمولة عن العالم وعن كلّ شيء فيه. وللدّين قوانين يعمل على فرضها أو تطبيقها على الأقلّ (قوانين خاصّة بالزّواج مثلا والميراث وتربية الأطفال وغير ذلك). الدّين يحتوي على مفاهيم تحدّد علاقات الأفراد وتنظـّـمها وتلك القوانين تبيّن الخطأ والصّواب في العلاقات والمعاملات وتوضّح الحقوق والواجبات وما ينجرّ عن إهمالها. وإذا لم تكن القوانين متوفـّـرة بشأن موضوع معيّن فإنّ الدّين ينشئها بالإعتماد على القياس أو التـّـأويل أو الفتوى أو الإستنباط. ولو نظرنا إلى الزّواج لوجدنا أنّه في الدّيانات السّماويّة الثـّـلاث عقد يبرمه طرفان اختياريّا ولكنّه لا يتمّ من دون مباركة الدّين له أو إقراره بصحّته. وفيما يتعلـّـق بالزّواج، الذي هو عقد جنسيّ حسب الأنثويّة كارول بايتمان ، يحدّد الدّين العلاقة بين الزّوجين ومختلف الحقوق والواجبات وكيفيّة الطـّـلاق ويعمل على جعله مطابقا لعادات وتقاليد المجتمع.

وفي حين تبدو المؤسّسات هياكل ثابتة، لا تتغيّر، فإنّها في واقع الأمر بناءات اجتماعيّة أو بالأحرى "مصنوعات" تعود لحقبة معيّنة ولثقافة ومجتمع معيّنين، أنتجها العقل الجماعيّ للمجتمع. ولئن كان الرّسول محمّدا مثلا أوّل من جاء بالدّين الإسلاميّ فإنّ المسلمين من بعده قد طوّروه وزادوا عليه أو أنقصوا منه حسب ما تقتضيه المرحلة التي كانوا فيها. قد لا يبدو للقارئ أنّ علماء الفقه وعلماء الحديث وعلماء التـّـفسير وعلماء العقيدة لم يغيّروا في الدّين شيئا ولكنّهم في الحقيقة قد شرحوا وأوّلوا وقدّموا تفسيرات واستبعدوا أخرى وهم بذلك قد أعادوا صياغة الدّين على ضوء ما تطلـّـبته مجتمعاتهم التي عاشوا فيها. المؤسّسة الدّينيّة في كلّ زمان ومكان تحدّد السّلوك من خلال وضع استراتيجيات ووظائف نفعيّة وتساهم في توفير مناخ اجتماعيّ سياسيّ معيّن تدور فيه الأفعال الاجتماعيّة.

ويمكن تعريف المؤسّسة بأنـّـها نظام متشابك من الأدوار والتـّـرقـّـبات، وكلّ مؤسّسة عبارة عن تركيبة من الأدوار والتـّـرقـّـبات المتعلـّـقة بالسّلوك. وتتحقـّـق الوظيفة الاجتماعيّة للمؤسّسة عبر آداء الأدوار. التـّـوالد مثلا والمحافظة على النـّـوع البشريّ يتمّ عبر مؤسّسة الزّواج ومؤسّسة العائلة وذلك من خلال تحديد الأدوار والتـّـرقـّـبات المتعلـّـقة بكلّ منها لكلّ من الأب والأمّ والزّوج والزّوجة والطـّـفل وغير ذلك .

المؤسسة الإجتماعية هي مجموعة من المواقف الاجتماعية ، متـّـصله بشبكة العلاقات الإجتماعية، وتؤدّي دورا اُجتماعيّا وتتمتـّـع بنوع من الاستقرار. وبهذا المعنى تصبح المؤسّسة بنية اجتماعيّة أو جزءا من بنية اجتماعيّة مركـّـبة. ويمكن تعريف المؤسّسة أيضا بأنّها نظام أو تركيبة لها تنظيم معيّن كالمؤسّسات التـّـعليميّة ومؤسّسة العائلة والمؤسّسات الإقتصاديّة والمؤسّسات الدّينيّة وغيرها. المؤسّسة هي مجال التـّـفاعل الاجتماعيّ والتـّـحكـّـم ومجال تتفاعل فيه علاقات السـّـلطة وهي المجال الرّئيسيّ للحياة الاجتماعية حيث تنظـّـم وتتحكـّـم وتعمل على تلبيّة بعض الاحتياجات الإنسانيّة. ويمكن أن تتـّـخذ المؤسّسات أشكالا متعدّدة ولكنـّـها لا يمكن أن توجد من دون أسس مادّية كالأفراد والبنايات. فعلى سبيل المثال ، الأسرة مؤسّسة لأنّ التنظيم الاجتماعيّ فيها واضح ولكنّها منطقيّا لا يمكن أن توجد من دون أساس مادّيّ وهو البيت. وقد أجمع علماء الاجتماع على وجود خمس مؤسّسات كبرى في كلّ مجتمع : الحكومة والدّين والتعليم والاقتصاد والاسرة.

المؤسّسات الاجتماعيّة عناصر مهمّة في هيكلة المجتمع إذ توفـّـر بنى السـّـلوك المرتقب في الحياة الاجتماعيّة. وفي حين تنظـّـم كلّ مؤسّسة جانبا معيّنا من الحياة فالمؤسّسات جميعها مترابطة ومتداخلة وكلّها تشكـّـل حياة الفرد عبر الثـّـقافة والتـّـنشئة الاجتماعيّة والتـّـنضيد الاجتماعيّ ومعايير المطابقة والانحراف.

هذا الرّأي تقول به نظريّة نظام التـّـحكـّـم الاجتماعيّ وهي مقاربة تدرس أساليب التـّـحكـّـم الاجتماعيّ من خلال المعايير والقواعد والقوانين والمحرّمات والتـّـقاليد ومن خلال مجموعة أخرى من المفاهيم ذات الصّلة بالموضوع. القواعد والمعايير مهمّة بصفة خاصّة في الدّراسات الاجتماعيّة الثـّـقافيّة التـّـطوّرية التي جعلت تلك القواعد شموليّة في نظم وعمليّات التـّـحكـّـم الاجتماعيّ. حسب هذه المقاربة كلّ نشاطٍ اجتماعيّ منظـّـم وتحكمه نظم من القواعد تمّ انتاجها اجتماعيّا. تلك القواعد نجدها في اللـّـغة وفي العادات وفي معايير السـّـلوك وفي القوانين وهي التي تحكم المؤسّسات الاجتماعيّة بأكملها؛ وهكذا فإنّ صناعة القواعد وتأويل السـّـلوك وتكريس المعايير والقواعد في المجتمع يستدعي إعادة صياغتها وتغييرها باستمرار. الإنسان في المؤسّسة وفي المجتمع هو وكيل أو قوّة فاعلة مثله مثل المؤسّسة ككلّ والمجموعة والمنـظـّـمة وغيرهم يؤدّي دورا وينتج ويساهم في تغيير النـّـظم الاجتماعيّة وقواعدها ومعاييرها وذلك بصفة غالبا ما تكون غير واعية. القواعد والمعايير تتغيّر وقد يكون تغيّرها ناشئا من داخل المجتمع أو من خارجه ولكنّ المحافظة على النـّـظام الاجتماعيّ تستدعي دوما تجارب تراكميّة وتأقلما وتعديلا وبهذه الكيفيّة يحدث التـّـجديد المعياريّ والمؤسّسيّ. ثمّة إذا جدليّة بين نظم التـّـحكـّـم الاجتماعيّ والأفعال والتــّـفاعلات الاجتماعيّة. الأفراد كوكالة في هذه العمليّات المستمرّة يعتمدون على مؤهـّـلاتهم في تحليل الوضع وتأويله وفي الرّدّ على الجذب والدّفع الخاضعين إليهما وينتج الأفراد قوانين ومعايير تتماشى مع وضعهم أو يُدخلون على القواعد الموجودة تعديلات كلـّـما اقتضت الحاجة ذلك.

ويمكن التـّـعرّف على مستويات التـّـفاعل الاجتماعيّ كلـّـها من خلال نظم التـّـحكـّـم الاجتماعيّ (1984
Giddens, Goffman, 1974). القواعد الاجتماعيّة تنمـّـط سلوك اللاّعبين الاجتماعيّين أي تقسـّـمه إلى أنماط ونماذج وتتحكـّـم به ولكنـّـها توفـّـر لهم الفرص من أجل تحقيق التـّـفاعل والتـّـضامن مع الآخرين ومن أجل حلّ المشاكل المعقـّـدة التي قد تنشأ عن الأفعال الاجتماعيّة. وضمن عمليّات تنظيم التـّـفاعل تجعل القواعدُ أنماط السـّـلوك واضحة وذات معنى ومن لا يلتزم بها يعدّ منحرفا.

وفي عمليّة التـّـفاعل يلعب الدّين والثـّـقافة إلى جانب التـّـراتيب المؤسّسية دورا بارزا إذ أنّ الدّين عبارة عن نظام من القواعد منبثقة عن معتقدات معيّنة ويحمل أشكالا ومنظومات معياريّة ونماذج معرفيّة مشتركة ويحدّد بكلّ وضوح دور كلّ فرد ويضع استراتيجيات ونماذج لأفعال اجتماعيّة ويستعمل منظومة لغويّة متميّزة. الدّين يعرّف الأدوار وكيفيّة عمل المؤسّسات ويؤكـّـد على طريقة معيّنة في التـّـفكير والفعل؛ وبهذا المعنى تكون المنظومة اللـّـغويّة التي يستعمل اجتماعيّة وتقليديّة (أي موروثة) في ذات الوقت. الدّين مثلا يحثّ على الإيفاء بالوعد ويوضـّـح قيمة عمل كهذا وهذه القاعدة الأخلاقيّة تبيّن الظـّـروف التي يمكن فيها أن يَـعـِِـدَ الشـّـخص شخصا آخر والظـّـروف الشـّـرعيّة التي يمكن فيها الإخلاف بالوعد. بهذه الطـّـريقة يجعل السـّـلوك مقبولا أو غير مقبول وبهذه الطـّـريقة يقود التـّـفاعل بين النـّـاس كغيره من باقي المؤسّسات الاجتماعيّة. ويوفـّـر الدّين إطارا مرجعيّا يحدّد النـّـماذج الاجتماعيّة ويحكم عليها وبذلك يضمن أنّ كلّ اللاّعبين الاجتماعيّين يطابقون للقواعد والمعايير. ويشدّد الدّين في ذلك على هذه المفاهيم:
ـ الخير الفرديّ للمتديّن كما أراده الله له والمصلحة الجماعيّة التي تحصل من الدّين.
ـ الدّين جزء من الهويّة ويمنح المكانة الاجتماعيّة: التـّـقوى دليل على الالتزام وحسن السـّـلوك.
ـ الدّين يستمدّ سلطته من القوّة الإلهيّة المقدّسة وبالتـّـالي كلّ عمل يشرعنه هو عمل مقبول من الله عزّ وجلّ.
ـ الدّين يستمدّ قوانينه من مبادئ مقدّسة تحدّد العلاقات بين النّاس كما أرادها الله. ويعدّ هذا ترسيخ لقواعد المطابقة التي توجـّـه النـّـاس وتفرض عليهم تعريفا معيّنا للواقع الاجتماعيّ. هذه الأفكار تمثـّـل في الواقع الجانب الإيديولوجيّ لمؤسّسة الدّين.

وفي كلّ دين نجد رصيدا قصصيّا يبيّن ما حدث لأقوام خلت لم تتقيّد بالمعايير، فالدّين بذلك يستند إلى روايات دوّنتها الكتب السّماويّة و الكتب غير السـّـماويّة وكلّ من لا يتـّـعظ بها يعرّض نفسه للعقاب أسواء في الدّنيا أم الآخرة. الجزاء والعقاب مفهومان يقوم عليهما كلّ دين. ويتبوّأ رجال الدّين عادة مكانة المسؤول عن الأمـّـة الذي يتحكـّـم ويعاقب ويكرّس القواعد الدّينيّة. لو أنّ شخصا ما يفطر رمضان فإنـّـه يتعرّض للضـّـرب ولربـّـما الحبس لأنـّـه خرق القواعد والمعايير. رجال الدّين وكالات تضطلع بمهمّة الحفاظ على الدّين والحفاظ على الدّين يعني تكريس القواعد والمعايير. وكلّ وكالات التـّـحكـّـم تكرّس العادات وقد تستند إلى مدوّنات أو نصوص شرعيّة أو قانونيّة حتـّـى أنّ السـّـلوك يصير مطابَـقة غير واعية لأنّ القواعد والمعايير مشتركة ومتجذّرة في اللاّوعي بما أنّ الأفراد قد تعلـّـموها وهم صغار وتمّ ترسيخها مجدّدا مرّات عديدة وفي أوضاع مختلفة: في المدرسة، في الشـّـارع، وفي العمل... وهذا لا يعني أنّ كلّ القواعد تستدعي مراقبة وتحكـّـما فبعد التـّـنشئة الاجتماعيّة الأوّليّة والثـّـانويّة ينقاد الفرد ويطابق من تلقاء نفسه.

الثـّـقافة هي همزة الوصل بين مختلف الميادين والبنى الاجتماعيّة (مؤسّسات، طبقات، مجموعات جندريّة، إثنيّة أو مصلحيّة... ) التي تتفاعل عبر التـّـشكيلات الثـّـقافيّة (أشكال التـّـعبير، أساليب الحياة، القيم، العادات...) وفي ذات الوقت تتشابك مع المصالح الاقتصاديّة والسـّـياسيّة. وفي هذا الإطار يتمثـّـل دور الدّين في صياغة المعاني أو توفيرها والتـّـمسـّـك بالقيم عبر الممارسة الدّينيّة والثـّـقافيّة بصفة عامّة. المؤسّسات الثـّـقافيّة ومن بينها الدّين تساهم في تشكيل الثـّـقافة وتقدّم خدمات ورؤى حاضريّة ومستقبليّة لكنّ الدّور الذي يضطلع به الدّين يصعب وصفه بصفة علميّة لأنـّـه مرتبط بالهويّة الفرديّة والجماعيّة على حدّ سواء.

علم الإجتماع الدّينيّ عند إيميل دركهايم:

درس دركهايم الدّين في إطار نظريّته الوظيفيّة فاعتبره محتويا على ميكانيزمات هدفها التـّـشارك في نظام اجتماعيّ مهدّد والمحافظة عليه. وبموقفه هذا يعارض دركهايم اليعقوبيّين الذين أرادوا أن يخترعوا دينا اصطناعيّا قائما على العقل ويعارض المسيحيّة الجديدة التي نادى بها سان ـ سيمون وكذلك دين الإنسانيّة الذي نادى به أوغست كونت. المفكـّـرون العلمانيون الفرنسيّون عملوا على معالجة الإشكال الحديث المتمثـّـل في كيفيّة المحافظة على الأخلاقيّات من دون التـّـهديد بالعقاب الذي نجده في الدّين. هذا الإشكال عبّر عنه فيودور دوستويوفسكي على لسان إيفان كارامازوف حيث قال: "إذا كان الله قد مات كلّ شيء يصبح جائزا إذن". كان دركهايم معنيّا بهذا الإشكال فقال إنّ الدّين هو الإسمنت الذي يبقي على تماسك المجتمع إذ يحوّل الفرد عن اهتماماته اليوميّة ويجعله يتعلـّـق بأمور مقدّسة يشترك فيها الجميع. الدّين إذا ينتزع الفرد من النـّـفعيّة والفرديّة ويلهمه الإخلاص والتـّـفاني في خدمة المجتمع فإذا ما انعدم الدّين ما الذي يحلّ محلـّـه ويضطلع بهذه الوظيفة (المحافظة على التـّـماسك)؟

يقول دركهايم
Emile Durkheim إنّ الظواهر الدّينيّة تنشأ في أي مجتمع عندما يحدث انفصال بين مجالي المدنـّـس - مجال الأنشطه اليوميّة النفعيّة - ومجال المقدّس - مجال التـّـسامي والغير عاديّ والخارق للطـّـبيعة المحيّر. وقد كتب:

"من الطـّـبيعيّ أن تقع الظـّـواهر الدّينيّة في ثلاث فئات أساسيّة: القصص والمعتقدات والشـّـعائر أو الطـّـقوس. القصص والمعتقدات حالات للفكر المحمول أو أشكال له، والشـّـعائر والطـّـقوس جوانب تطبيقيّة أو سلوك. وفيما بين الإيمان والتـّـطبيق نجد الحدود التي تفصل الفكر عن السّلوك والحركة...

جميع المعتقدات الدّينية المعروفة، سواء كانت بسيطة أو معقـّدة تمثـّـل سمة مشتركة واحدة: إنّها تفترض تصنيفا للأشياء الحقيقيّة والمثاليّة التي بها يمثـّـل النّاس أنفسهم في طبقتين وفي نوعين متعارضين يُـشار إليهما، بصفة عامّة، بمصطلحين مختلفين تترجمهما اللـّـغة إلى مقدّس ومدنـّـس. تقسيم العالم إلى مجالين يحتوي الواحد منهما كلّ ما هو مقدّس ويحتوي الآخر كلّ ما هو مدنّس يمثـّـل السّمة المميّزة للفكر الدّينيّ".
المصدر: إيميل دركهايم، الأشكال الأساسيّة للحياة الدّينيّة: النّظام التـّـوتميّ في أستراليا (الكتاب الأوّل: مسائل أوّليّة)، صفحة 42 .

وعندما يحدث الإنفصال بين الدّينيّ والمدنّس (اسم فاعل) يمكن أن تتخذ المجموعة الدّينيّة أو المجتمع بأسره أيّا من الإتـّـجاهين لكنّ الدّين يتغلـّـب دوما. أنشطة المجتمع المقدّسة لها قيمة بين المؤمنين وليست وسائل لبلوغ أهداف بل هي أهداف بعينها لأنّ الدّين قد منحها معاني وجعلها جزءا من العبادة. الدّين إذا عند دركهايم مجموعة من العقائد والرّموز التي تصنع "الشـّـراكةّ" و"الجماعيّة". الدّين ، كما قال ، ليس مجرّد أبتداع اجتماعيّ ، بل هو في الواقع المجتمع نفسه الذي أضفيت عليه صفة القداسة. هذه الفكرة نجدها عند فويرباخ
Feuerbach أيضا؛ وقد أكـّد دركهايم على أنّ الآلهة التي تـُـعبد ليست سوى اسقاطات لسلطة المجتمع أو لقوّته. الدّين نشأ أوّل مرّة في سياق اجتماعيّ ، والأهمّ من ذلك ، عندما يحتفل النّاس بأشياء مقدّسة إنّما يحتفلون عن غير قصد بقوة المجتمع. هذه السّلطة أو القوّة تتسامى بوجودهم إذ أنّهم يمنحونها معنى مقدّسا من أجل إبصارها وإثباتها (تلك القوّة). وإذا كان الدّين في جوهره تمثيل متسام لقوى المجتمع فإنّ اختفاء الدّين التـّـقليديّ، حسب دركهايم، لا يجب أن يـُـتـّـخذ كدليل على تفكك المجتمع. ما يجب أن يفهمه الإنسان الحديث هو أنّ الإعتماد على المجتمع وكذلك التـّـماسك الإجتماعيّ كانا في القديم يتحقـّـقان مباشرة من خلال التمثيل الدّيني ويمكن أن يتحقـّـقا اليوم عبر البدائل العقلانيّة التي يجب أن تعيد صياغة المفاهيم الدّينيّة القديمة (صياغة أفكار أخلاقيّة تعوّض الدّين التـّـقليديّ). الوعي الجماعيّ عند دركهايم هو أعلى أشكال الوعي لأنـّـه الوعي بالوعي ذاته ولأنّه وعي يسمو فوق كلّ الظـّـروف الفرديّة والمحلـّـية.

نلاحظ ممّا سبق أنّ دركهايم لم يتـّـبع سان سيمون وأوغست كونت في محاولاتهما إنشاء دين إنسانيّ جديد بل إنّه دعا إلى الوحدة الأخلاقيّة في مجتمعات صائرة نحو التـّـحلـّـل. لقد حثّ النّاس على التـّـوحّد في أخلاقيّات مدنيّة تستند إلى الإعتراف بأنّ الفرد هو كما هو بفضل المجتمع أو بفعله. المجتمع يعمل بداخل الأفراد فيسمو بهم بأخلاقياته على عكس المعتقدات الدّينيّة القديمة التي تقول إنّ الدّين وحده قادر على السّموّ بالبشر فوق ذواتهم السّقيمة بطبعها والتي لا تبحث سوى عن العوائد النـّـفعيّة.

ولا يقتصر علم الإجتماع الدّينيّ عند دركهايم على هذه الإعتبارات العامّة التي وردت في صفحات قليلة من أعماله الضّخمة وإنّما أولى دركهايم اهتماما بالأشكال الدّينيّة البدائيّة في كتابه الضّخم "الأشكال البسيطة للحياة الدّينيّة" . لقد انطلق يبحث في أصول الظـّـواهر الدّينيّة فدرس التـّـوتميّة في أستراليا وهي أقدم النـّـظم الدّينيّة وأبسطها. ويستخلص أنّ الدّين ظهر عندما انقسم الواقع إلى مجالين: المقدّس والمدنّس. وقد أوضح أنّ الدّين موروث أُنتج اجتماعيّا ولكنّه بيّن كذلك الرّابط المتين بين الدّين والمجتمع وقال إنّ مفاهيم أو نماذج مثل الزّمان والمكان والجوهر والهويّة والشـّـخصيّة كلـّـها منبثقة عن التـّـفكير الدّينيّ. عبر المقدّس، في رأيه، يعبد المجتمع نفسه: "المجتمع بالنّسبة لأعضائه كالإله بالنّسبة لعبّاده". الدّين هو بالتـّـالي مادّة من موادّ الثـّـقافة والثـّـقافة وعاء له.

وقد شرح دركهايم الوظائف الأربع للدّين: التّأديب ، الحفاظ على التـّـماسك ، تنشيط القوى الإجتماعيّة، وأخيرا الوظيفة اليوفوريّة وهي منح الشـّـعور بالإبتهاج والمسرّة للمتديّنين. الطقوس الدّينية في الحياة الاجتماعية تفرض الانضباط الذاتي وقدرا من الزّهد. والاحتفالات الدّينيّة تجمع بين النّاس ، وبالتـّـالي يعمل الدّين على إعادة تأكيد التزامات الأفراد ويربط بينهم بروابط مشتركة لتعزيز التـّـضامن الاجتماعي. الشـّـعائر الدّينيّة تعيد الحيويّة الى التـّـراث الاجتماعيّ وتساعد على توريث القيم الثـّـابتة للأجيال المقبلة. الدّين يلعب إذا دورا في مواجهة مشاعر الإحباط وفقدان الثقة واليقين عن طريق تجديد الشـّـعور بالرّفاه لدى المؤمنين وتثبيت إحساسهم بأنّهم على صواب أخلاقيا على عكس العالم الذين هم جزء منه. ويساعد الدّين على إعادة انشاء رصيد الثقة الخاصّة والعامّة. وبوصفه مؤسسة اجتماعية تعمل على إعطاء معنى عند حدوث أزمات وجودية مثلا فإنّه بربط الفرد بمجال متسام وبمنظومة من القيم هي في الأصل متأصّله في المجتمع.


الدّين عند ماكس فيبر:

ماكس فيبر (في علم الاجتماع الدّينيّ، 1963) قدّم تعريفا للدّين مخالفا لتعريف دركهايم وماركس ولكنّه اعتبر الدّين كغيره من علماء الاجتماع منتوجا اجتماعيّا. انطلق من الدّين كظاهرة اجتماعيّة ليشدّد على المعنى الذي يقدّمه للأفراد. وقد قال مرارا إنّ الإنسان آلة لصنع المعاني، وقد تأثـّـر بنظرته تلك (عمليّات البناء الاجتماعيّ للواقع، تكوين المعاني) علماء اجتماع كثر منهم بيتر برغر، لوكمان، ومفكـّـرون مهتمّون بعلم اللاّهوت أيضا منهم نينيان سمارت (1978) الذي تحدّث عن الأصول الظـّـاهراتيّة في مقاربة ماكس فيبر للدّين. يقول فيبر إنّ تعريف الدّين غير ممكن في بداية أيّ بحث متعلـّـق بظاهرة الدّين ولكن يجب أن يُدرَس الدّين أوّلا ثمّ يُـقدّم التـّـعريف في نهاية الدّراسة أو البحث (1963 ص 1). بالنـّـسبة إليه لا يجب أن يسعى عالم الاجتماع إلى فهم جوهر الدّين بل عليه أن يفهمه كجزء من المعاني التي نجدها وراء سلوك الأفراد وأن يشرح تأثيره في ميادين أخرى من أنشطة النّاس مثل الأخلاقيّات والاقتصاد والسّياسة. وفي الفصل الثـّـاني من الدّراسة التي قام بها للبروتستنطيّة (1974) قال إنّها جزء من التـّـحليل الأخلاقيّ الرّأسماليّ والسّلوك الاقتصاديّ.

وفي تركيزه على السّياق الاجتماعيّ لظاهرة الدّين وعلى أهمّية النـّـظم المعنويّة في ذات الوقت لجأ إلى كثير من الأعمال ودرس ديانات متعدّدة: الكنفوشيوسيّة والدّاوية والهندوسيّة والبوذيّة واليهوديّة والإسلام. وفي دراسته المشار إليها تعرّض للكالفينيّة وعارض نظريّة الحتميّة الماركسيّة التي تقول إنّ الدّين نتاج للظـّـروف والعوامل الإقتصاديّة. وقد أولى أهمّية خاصّة لما أسماه المحفـّـز الدّينيّ وأكـّـج على أنّ الدّين يساعد في تشكيل الرّؤى الاقتصاديّة والسّلوك بأنواعه. وفي سنة 1963 انطلق بيتر برغر ولوكمان من تركيز فيبر على المعاني وربطا الدّين بالمعرفة في كتاب اشتركا في تأليفه عنوانه "علم الاجتماع الدّينيّ وعلم الاجتماع المعرفيّ: علم الاجتماع والبحث الاجتماعيّ". وقد بيّن المؤلـّـفان كيفيّة إضفاء المعاني على الواقع من خلال تطوير نظرة ذاتية عن العالم. وقد بيّنا أنّ الدّين يلعب دورا في إعطاء معنى للواقع. ويؤكـّـد بيتر برغر لاحقا (1967) على أنّ الدّين هو الوسيلة التي بواسطتها يتمّ بناء عالم خارجيّ مقدّس. "الدّين هو محاولة جريئة لتكوين مفاهيم عن الكون بأكمله ذات أهمّية للبشر (1967 ب ص 37).

دراسة الدّين كما جرت العادة تندرج في نوعين من الدّراسات: إمّا الجوهريّة التي تحاول تبيّن جوهره وإمّا الوظيفيّة التي وضعها دركهايم والتي تركـّـز على فعل الدّين أو وظيفته. وتوحي الوظيفيّة وكذلك معظم الدّراسات الأخرى التي تركـّـز على المعاني بأنّ الأفكار الدّينيّة وممارستها لا يمكن تجنّبها وبالتـّـالي تقع في الإشكال التـّـالي: كيفيّة علمنة الدّين وكيفيّة عقلنه المجتمع والمحافظة على الدّين في نفس الوقت. بالنـّـسبة للبعض الذين يرون في الدّين حفاظا على التـّـماسك الاجتماعيّ العلمانيّة إمكانيّة محدودة. وبالنـّـسبة للقائلين بانتصار العقلانيّة على التـّـفكير الدّينيّ ونهاية الانقسام الكبير في التـّـفكير بتغلـّـب العلم العلمانيّة ضروريّة واستبعاد الدّين ضروريّ لأنّه يخوض مزاحمة مع البناءات المفهوماتيّة العلميّة للنّظام الاجتماعيّ.

نرى أنّ نظريّات الوظيفيّة وكذلك النـّـظريّة الماركسيّة المتعلـّـقة بالدّين قدّمت كلـّـها نظريّات تعميميّة لأنـّـها مهتمـّـة في الأساس ببنية المجتمع وإشكاليّة النـّـظام الإجتماعيّ وقد جعلت للدّين وظيفة شموليّة تتمثـّـل في الإبقاء على الحالة الاجتماعيّة كما هي (إبقاء الدّين على التـّـماسك الإجتماعيّ بالنـّـسبة لدركهايم فكرة لا تختلف عمّا ذهبت إليه الماركسيّة ونظريّّات الصّراع من أنّ الدّين يُستعمَل في الحفاظ على النـّـظام الاجتماعيّ). لكنّ علماء الاجتماع اليوم لم يعودوا مهتمّين بإيجاد نظريّات شموليّة حول الدّين لأنّه أصبح من المقبول به أنّه لا يوجد دين واحد أو دين صحيح وآخر خاطئ بل ثمّة أشكال دينيّة مختلفة تلعب أدوارا في الدّاخل وعبر مختلف الأوضاع الاجتماعيّة الخارجيّة ففي المجتمع الواحد توجد ديانات عديدة تتفاعل فيما بينها. كما يتـّـضح من وظيفيّة دركهايم ومن الحتميّة التـّـاريخيّة للماركسيّة أنّ الدّين عامل توحيد وتقسيم أو تفرقة في نفس الوقت أي أنّه يلعب دورا في الإدماج الاجتماعيّ وفي الصّراع الاجتماعيّ أيضا.

الدّين يوفـّـر هويّة مشتركة ـ يعبّر عن معاني مشتركة ويُساهم في شرحها بطريقة معيّنة ـ يصف معايير أخلاقيّة ـ يعوق التـّـغيير في المجتمع ـ يتعامل مع المعاناة النـّـفسيّة والأزمات الحياتيّة ـ يؤثـّـر في السـّـلوك الاجتماعيّ ويشكـّـله... لكنّ الدّين، في رأي ماكس فيبر، إمّا يصنع الفتور أو النـّـشاط داخل النـّـظام الاجتماعيّ والاقتصاديّ عبر تحيد السـّـلوك وتقديم مفاهيم عن الآخرة وعن الجزاء والعقاب. الاعتقاد بتواصل الحياة فيما بعد الموت فكرة موجودة في كلّ الدّيانات وتحثّ الإنسان على الاستقامة وبذل الجهد في العمل وغير ذلك. المقاربة التـّـفسيريّة للدّين تركـّـز على أهمّية الرّموز الدّينيّة في التـّـعبير عن المعاني المشتركة؛ وتتمثـّـل الرّموز في اللـّـغة الدّينيّة الفريدة من نوعها ومختلف الحركات والصّور والأيقونات والمعبودات. الأيقونة صورة لها معنى، وكما قلت، الدّين له جانب فنّيّ يمكن ملامسته بمجرّد النـّـظر إلى أماكن العبادة: صور، كتابة، زخرفة... المعاني والأحاسيس الدّينيّة لا يمكن لمسها وإنّما يمكن مشاهدتها في مختلف الأفعال والحركات والصّور وفي مختلف الطـّـقوس. وأمّا أهمّ دور يلعبه على الصّعيد الفرديّ فهو ترسيخ المكانة الاجتماعيّة.

الدّين المدنيّ:

في سنة 1967 طبّق عالم الإجتماع الأمريكيّ روبرت بلـّـه آراء دركهايم على المجتمع الأمريكيّ فاستعمل مصطلح "الدّين المدنيّ" وقد نقله، في واقع الأمر، عن جون جاك روسّو الذي عبّر به عن البعد الدّينيّ المتمثـّـل في النـّـظام السـّـياسيّ. وسّع روبرت بلـّـة ذلك المفهوم وقال إنّه يشمل كلّ المعتقدات والأخلاقيات والقيم التي نجدها لدى كلّ أمّة وضرب مثالا على ذلك مختلف المثـل التي تؤمن بها أمّة ما كالعدالة والحرّية والمساواة وغيرها؛ هذه المُـثـُـل تتّسم بكونها مقدّسة وتميّز الحياة المدنيّة في المجتمع لأنّ كلّ واحد يؤمن بها ولأنّها متجذّرة في الضـّـمير الجمعيّ. هذا الدّين المدنيّ يعمل تماما مثل الأديان القديمة: يحافظ على التـّـماسك. وهو مرتبط شديد الارتباط بالمعاني المحمولة عن التـّـاريخ والموروثات الإنجيليّة التي تمّ تفسيرها فصارت تعبّر عن شعب أمريكيّ مختار منحهم الله أرضا مقدّسة هي أمريكا فجاء أجدادهم "الآباء الحجيج"
ليستعمروا تلك الأرض. وقد حلـّـل بلـّـه الخطابات الرّئاسيّة الأمريكيّة وأشار إلى تكرار العبارات المحشوّة بالمعاني الدّينيّة مثل "اللـّـه يرحم أمريكا" كما أشار إلى الاحتفالات الوطنيّة التي يُضفى عليها طابع دينيّ محض.

مفهوم الدّين المدنيّ بقي غامضا إلى يومنا هذا لأنـّـه من المستحيل تحديد عناصره التي يمكن أن تكون طقوسيّة ولادينيّة في ذات الوقت. المهمّ هو أنّ روبارت بلـّـة أراد أن يبيّن أنّ الدّين المدنيّ وهو الدّين الممزوج بالسـّـياسة يمكن أن يـُـتـّـخذ كمقياس به تـُـقاس درجة التـّـماسك في المجتمع.

الدّين كعامل تقسيم وتفرقة:

جعل التـّـحليل الماركسيّ أشكال الدّين جزءا من البنية الاجتماعيّة تتمثـّـل في أدوات تـُـستعمل في الإبقاء على التـّـحكـّـم الاجتماعيّ وإخضاع الأغلبيّة لحكم الأقلـّـية المهيمنة. لم يرى ماركس في الدّين إنقاذا للبشريّة وإنّما اعتبره، في المجتمع الرّأسماليّ، إيديولوجيا تعبّر عن الانقسام الطـّـبقيّ وترسّخه. بالنـّـسبة له الإنقاذ لا يتمّ إلا عبر العمل الثـّـوريّ الذي يقوم به الأفراد من أجل تخليص أنفسهم. الدّين يعمل دوما على جعل الأغلبيّة تعتمد إعتمادا كاملا على الأقلّية المهيمنة ويعطي مصداقيّة للبنى المؤسّسيّة التي تعمل في كلّ مجتمع على نفي التـّـجربة الواقعيّة للإضطهاد وجعلها مقبولة.

لكنّ هذا الشـّـرح المبسـّـط لا يقدّم صورة كاملة عن النـّـظرة الماركسيّة للدّين بأيّة حال من الأحوال. ولا يعجب القارئ حين أقول إنّ "تـيولوجيا التـّـحرير" حاولت قلب الماركسيّة فقالت بأنّ في الدّين إمكانات ثوريّة بوصفها عاملا من عوامل التـّـغيير الإجتماعيّ؛ أتباع هذا المذهب لم ينظروا إلى الدّين كمجرّد إيديولوجيا تحافظ على الاضطهاد بل قالوا إنّه في طبيعته ثوريّ. الدّين عند ماركس إيديولوجيا تلهي عن الصـّـراع الطـّـبقيّ وتحجبه وتمنع تحقيق الثـّـورة البروليتاريّة ولذلك لم يولي أهمـّـية للتـّـنوّع الدّينيّ ولأشكال الدّين المختلفة وإنـّـما قدّم كما قلت تفسيرا شموليّا للنّظام الرّأسماليّ جعل فيه الدّين منتجا بشريّا لا مكان فيه، في الحقيقة، لعالم غيبيّ. الدّين، حسب ماركس، يظهر في المجتمعات تلقائيّا كضرورة مرتبطة بالواقع المعاش أي أنّ الفقراء هم الذين انشأؤوه لإعطاء معنى لأوضاعهم، ثمّ صار إيديولوجيا تستعملها الطـّـبقات الحاكمة في الحفاظ على الاضطهاد. وكان ماركس متأثـّرا بكتابت فويرباخ فرأى الدّين طريقة بها يُـشبع الأفراد رغباتهم واحتياجاتهم في هذا العالم عبر تخيـّـل عالم ما ورائيّ وحياة أخرى فيما بعد الموت.
"هذا هو أساس النـّـقد اللاّدينيّ: الإنسان يصنع الدّين، الدّين لا يصنع الإنسان. الدّين في الحقيقة وعي ذاتيّ وإحساس ذاتيّ بالعلوّ لدى الإنسان الذي لم يمتلك نفسه بعد أو الذي فقد نفسه مرّة أخرى. لكنّ الإنسان ليس كائنا مجرّدا جالس القرفصاء خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان: الدّولة والمجتمع. تلك الدّولة وذلك المجتمع ينتجان الدّين الذي هو وعي بالعالم مقلوب لأنّ العالم مقلوب. الدّين هو النـّـظريّة العامّة لهذا العالم وموسوعته وحماسته وعقابه الأخلاقيّ ومنطقه في شكله الشـّـعبويّ ونقطة الشـّـرف الرّوحيّة فيه وتهنئته الرّسميّة وأساسه الشـّـامل للتـّـعزية والتـّـبرير. الدّين هو التـّـحقيق الخياليّ لجوهر الإنسان مادام جوهره لم يحصل على أيّ وجود واقعيّ."
المصدر: ماركس وإنجلز؛ مجموعة أعمال في عشر أجزاء، الجزء الثـّـالث ص 175.

لم يخصّص كارل ماركس عملا بعينه للدّين ولكنّه درسه في إطار ما أسماه إيديولوجيّات الاضطهاد والأحلام المزيّفة للمضطهدين التي أنتجتها الأوضاع الاجتماعيّة وتروّجها الطـّـبقات المهيمنة. الدّين عند ماركس لا يمكن فصله عن النـّـظام الإجتماعيّ لأن السـّـياق الإجتماعيّ هو الأساس لظهوره ولشكله. الدّين، عنده، لديه تأثير تخديريّ مثل الأفيون (كلـّـنا نذكر قولته الشـّـهيرة) ولكنّه يعمل لصالح الأقلـّـية المهيمنة إذ يبرّر الواقع الاجتماعيّ والمكانة من خلال تحويل الأنظار والعقول عن الإمكانيّات الثـّـوريّة للمضطهدين.
"المبادئ الإجتماعيّة للمسيحيّة برّرت عبوديّة العصور القديمة ومجّدت رقّ القرون الوسطى وتلك المبادئ قادرة عند الضـّـرورة أن تدافع عن الاضطهاد ولو عن طريق التـّـجهّم المحزن. المبادئ الاجتماعيّة للمسيحيّة تعظ بضرورة وجود طبقة حاكمة وطبقة مضطهدة وكلّ ما تقدّمة للطـّـبقة الأخيرة هو الرّجاء الورع بأنّ الأولى فاعلة للخير... المبادئ المسيحيّة تعلـّـم الجبن والنـّـقمة على الذّات والوضاعة والخضوع والتـّـواضع؛ باختصار كلّ مميّزات الغوغاء والبروليتاريا..."
(المصدر: محموعة من أعمال ماركس إنجلز، الجزء السّادس ص 231)

التـّـحليل الماركسيّ يسلـّـط الضّوء على كيفيّة ظهور الدّين وباقي الإيديولوجيّات الثـّـقافيّة وعلى تطوّرها واستعمالها في الصّراع الطـّـبقيّ إلاّ أنّ التـّـأويل الاجتماعيّ الحديث عمل على هدم فكرة "أفيون الشـّـعوب" من خلال التـّـشديد على أهمّية اختلاف المصالح في المجتمع والتـّـركير على قوّة الجماعات الاجتماعيّة وقوّة إيديولوجيّاتها.

الدّين والصـّـراع الاجتماعيّ:
لو تأمـّـلنا المحتويات الثـّـقافيّة التي تقدّمها وسائل الإعلام لأدركنا أنّها لا تركـّـز على الصّراع الاجتماعيّ وتستعمل الدّين كآداة لغسل الأدمغة وتحقيق المطابقة الإجتماعيّة. ولا تقدّم الدّين أبدا كعنصر من عناصر الصّراع. وإذا كان الدّين يمنح الهويّة ويحافظ على التـّـماسك فإنّه يرسّخ مفهوم "المنتمي" للمجموعة و"الخارج" عنها: "نحن" و"هم". الدّين يكرّس الانقسام عبر وصف الآخر بالكفر أو بالفساد أو بالإنحلال الأخلاقيّ ويقدّم الذريعة لخوض المواجهة فيما بين الطـّـوائف وإن كانت الحروب تشعلها عناصر ثقافيّة مركـّـبة واسعة النـّـطاق. ويتـّـصف الدّين الطـّـائفيّ بكونه يحمل معتقدات إقصائيّة خاصّويّة تجعل أصحابها يسعون إلى إدماج الآخرين بالقوّة أو عبر ما يسمّى الدّعوة. (هذا الفصل منقوص؛ سوف أتممه ثمّ أعيد نشره)*
الدّين الإسلاميّ وأشكاله:
البعض من علماء الإجتماع يهتمّون بالإنتماء لعقائد معيّنة وبكثافة التـّـردّد على أماكن العبادة من أجل قياس مدى التـّـديّن لدى النّاس، غير أنّ التـّـديّن تحتلف معانيه لدى المجموعات البشريّة ومن شخص لآخر. وقد وضع كلّ من غلوك وستارك (1968) أبعادا خمسا للتـّـديّن يمكن أن تكون مؤشّرات بواسطتها تقاس درجة التــّـديّن: المعتقدات، الممارسة، التـّـجربة، المعرفة، والنـّـتائج.
المعتقد: مجموعة الافكار الدّينيّة المحمولة
الممارسة: تشمل العبادة والطـّـقوس.
التـّـجربة: العواطف الذّاتية والحالات الإدراكيّة والتـّـواصل مع الله.
المعرفة: درجة فهم الأسس الدّينيّة والعقائديّة.
النـّـتائج: ما إذا كان التـّـديّن ينتج التزاما وآثارا أخرى تجعل المتديّن معروفا مثل اللـّـباس وطرق الأكل والأخلاقيّات وطرق السـّـلوك.

ويمكن القول أنّ الإسلام واسع ومتنوّع فيما ينطلق منه من متخيّلات ومتفاوت فيما ينتهي إليه من آراء. ذلك الإختلاف من شأنه أن يسبّب إشكالا للباحث الذي يسعى إلى قياس الدّين ومقارنة التـّـديّن لدى شرائح المجتمع كما أنّ سواد النّاس في كلّ المجتمعات لا يتردّدون على أماكن العبادة ومع ذلك هم يحملون أفكارا دينيّة وهذا ما عبّر دركهايم بـ "المقدّس" الذي لا يقتصر على عبادة الآلهة والأرواح بل يشمل كلّ شيء متفوّق في العزّة والمجد والقوّة وكلّ شيء يُـعَـامل باحترام وخشوع. اعتماد الفرد على المجموعة وعلى المقدّس عند دركهايم معناه تعبير المجتمع عن نفسه. وبقطع النّظر عن إحصاء المتديّنين في العالم الإسلامي، الذي هو غير متوفـّـر أصلا، يمكن القول إنّ الإسلام متجذّر في المجتمعات الإسلاميّة لكنّه يختلف من بلد إلى آخر فالنّاس لا يتديّنون بنفس الطـّـريقة، ولئن كانوا يعتنقون نفس المبادئ والعقائد فإنّ فهمها يختلف من بلد إلى آخر. لذلك ليس بالإمكان تحديد بنية سياسيّة متجانسة في ظلّ التـّـنوّع الإسلامي المعروف. ما يميّز العالم الإسلاميّ هو أنّ التـّـمسّك بالقيم والمتخيّلات عال جدّا وصارم. ويمكن أن نقسّم الدّين إلى ثلاث أصناف:
أوّلا: الدّين الرّسميّ.
ثانيا: الدّين العامّ وهو دين عامّة النّاس.
ثالثا: دين الجماعات أو الدّين المنظـّـم وهو الإسلام السّياسيّ.

أفيد القارئ أنـّـي لست مهتمّا هنا بالحركات الدّينيّة الإسلاميّة وأعلمه أنّ مصطلح الدّين المسيّس أو الدّين السـّـياسيّ يستعمل في الإعلام وقد ضاغته وسائط الإعلام. وأمّا في الدّراسات الإجتماعيّة الغربيّة فيستعمل مصطلح "الأصوليّة" عند الحديث عن تلك الحركات الأسلاميّة، وقد فضّلت المصطلح الإعلاميّ على غيره.

الدّين الرّسميّ هو دين الدّولة التي تريده أن يكون معتدلا وأن يكون مسخـّـرا لخدمتها. ولتسخير الدّين لخدمة الدّولة ربطته بالحاكم فلم يعد الدّين متمحورا حول أتباع الرّسول وصحابته وإنّما حول الحاكم الذي يُصوّر على أنّه حامي التـّـوحيد والمحافظ على العقيدة وعلى مصالح الأمّة. ويتراوح اعتدال الدّين في نظر الحكـّـام المسلمين بين التـّـقـبّـل المحدود لثقافات الغرب وبين الانفتاح الكامل عليها، لكنّ كلّ الدّول الإسلاميّة ترفض مزج الدّين بالسّياسة لأنّ كلّ فكرة وكلّ رؤية تخوض في سياسة الحاكم تـُعدّ تهديدا لسلطته. الحكّام المسلمون يدركون أنّ الإسلام السّياسيّ لا يؤمن بفصل الدّين عن الدّولة ويعتبر أنّ تطبيق الإسلام يقتضي حكما إسلاميّا ولا يجوز مزجه بأيّة عناصر خارجيّة أسواء كانت فلسفيّة أم تشريعيّة أم سياسيّة. وفي عمليّة التـّـصدّي للحركات الإسلاميّة يقول الحكّام إنّ الدّين لا يجب أن يكون من اختصاص الأفراد بل من اختصاص الدّولة. ويمكن إرجاع الإنتشار الذي تتمتـّـع به الحركات الإسلاميّة إلى الحجج التي تقدّمها وهي أنّ الإسلام يضمن سيادة العدالة وكلّ أسباب القوّة للمسلمين ويساعد تلك الحركات الإسلاميّة في انتشارها ديكتاتوريّة السـّـلطة في العالم الإسلاميّ وفشل كلّ المشاريع التـّـنمويّة في كلّ البلدان الإسلاميّة بالإضافة إلى عجز تلك الدّول عن مواجهة الكيان الصّهيونيّ مذ أنشئ سنة 1947.
الدّين السّياسيّ تعتنقه حركات سياسيّة غير متجانسة أصلا تريد تحقيق التـّـغيير وذلك بالعودة إلى الإسلام كما كان مطبّقا في عهد الرّسول كمحاولة للخروج من التـّـخلـّـف الإقتصاديّ والتـّـردّي الاجتماعيّ. تلك الجماعات تطمح إلى إعادة هيكلة المجتمع والقضاء فيه على العلمانيّة والإلحاد واللـّـيبراليّة الفكريّة. لكنّ القاسم المشترك بين كلّ الجماعات الإسلاميّة هو أنّها نادرا ما تلجأ إلى الإجتهادات لأنّ كلّ جماعة تستند إلى مرجعيّات نظريّة تتمثـّـل في عدد من علماء الدّين فسّروا الإسلام ووضعوا نظرة مستقبليّة لكيفيّة تطبيقه بحيث يخلـّـص الأمـّـة من مشاكلها. ومن بين هؤلاء أبو الأعلى المودوديّ وسيّد قطب ومحمّد قطب وحسن البنّا وغيرهم. وأمّا السّبب الغبر معلن لعزوف تلك الحركات عن الاجتهاد فهو إيمانها بأنّ الأفراد غير مؤهـّـلين لتفسير القرآن وتأويله وبالتـّـالي لا يجب أن يضطلع بتلك المهامّ سوى علماء الدّين، كما أنّ الفرد لا يجب عليه أن يفهم الدّين كما يشاء لأنّه لن يستطيع تبيّن الخطإ من الصّواب من دون التـّـمسّك بالنّصوص الشّرعيّة وبالقرآن والسّنـّـة ولئن فهم الإسلام كما شاء ابتعد عن أصول الدّين. الحركات الإسلاميّة وخاصّة تلك الحركات الجهاديّة منها غير مهتمّة بالقضايا الدّينيّة الشـّـائكة بل تقترح العودة إلى الوراء والقطيعة مع الثـّـقافة الغربيّة كحلّ لإشكاليّة الاستلاب الحضاريّ الذي عاشته وتعيشه الأمّة الإسلاميّة. فعلمانية الدّين وكذلك "اللـّـيبراليّة الإسلاميّة"، في نظر تلك الجماعات، بدعتان انتجهما العالم الغربيّ من أجل احتواء العالم الإسلاميّ والإبقاء عليه تحت تأثير الثـّـقافة الغربيّة. وقد نشأ الإسلام السّياسيّ من الحركة السّلفيّة والحركة الإصلاحيّة التي نشأت كردّة فعل على الهيمنة الأروبيّة على العالم الاسلاميّ والتي تزعّمها جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده ومحمّد رشيد رضا وغيرهم. لكنّ الحركات الإسلاميّة أصبحت أشدّ أصوليّة لمّا ألغى كمال أتاتورك الخلافة الإسلاميّة في 3 مارس 1924 وبعد قيام الأحزاب الاشتراكيّة والقوميّة التي صارت تركـّـز على الانتماء العربيّ وليس على الانتماء لدين الاسلام. وكانت النـّـتيجة أن رفعت تلك الحركات أسواء علنا أم سرّا شعار الجهاد في سبيل الله وإسقاط الحكـّـام. وقد نشأت حركة الجهاد الإسلاميّ في مصر بعد اعتقال سيّد قطب وإعدامه سنة . وترفع تلك الحركات شعار الإسلام كبديل لأنّ البلدان الإسلاميّة تعيش أزمة اجتماعيّة تتمثـّـل في الفقر من ناحية وفي الشـّـعور باليأس والقنوط.

وأمّا غالبيّة المسلمين في كلّ بلد إسلاميّ فتؤمن بأنّ الإسلام ديانة فحسب ولا تطبـّـقها بحذافرها ولا تتـّـبع مدرسة فكريّة بعينها. ويمكن الجزم بأنّ الإسلام العامّ أو الشـّـعبيّ مليئ بالخرافة والسـّـحر بعيد كلّ البعد عن إسلام الجماعات الإسلاميّة ومنضو تحت سلطة الدّولة.

وإذا كانت محاولات التـّـصدّي للهيمنة الثـّـقافيّة الغربيّة قد اتـّـخذت شكل الأصوليّة الدّينيّة فإنّ ذلك مردّه إلى عدم وجود موارد ثقافيّة بديلة في البلدان الإسلاميّة باستطاعتها تعبئة الجماهير التي تعيش في يأس وقنوط، كما قلت. نـخب المثقـّـفين لم تجد أيّة وسائل للتـّـعبير عن آرائها ولم تجد أيّة مساحات تعمل فيها فتبنّت رؤى تقليديّة قديمة ومتشدّدة. ويجب ألاّ ننسى أنّ الهياكل والمؤسّسات التي تولـّـت مقاليد السـّـلطة بعد رحيل الاستعمار لم يتمّ تعزيزها بتحديث للرّسالة الدّينيّة كما أنّ الدّول الاسلاميّة بمساعدة الدّول الغربيّة عملت دون كلل على قطع الطـّـريق أمام كلّ الحركات السّياسيّة والثـّـقافيّة التـّـقدّميّة وخنقتها وهي في المهد. وفي مقابل هذا تبنّت الحركات الإسلاميّة رؤى تشدّد على مأساة العالم الإسلاميّ وبؤس المسلمين.
عودة إلى الإنقسام الكبير في التـّـفكير:
لقد شرح تفكير الانقسام الكبير الفيلسوف وعالم الأنثروبولوجيا التـشيكي البريطاني إيرنست جلنر في كتابه "ما بعد الحداثة، العقلانيّة والدّين "، وأوضح الفرق بين التـّـفكير العقلانيّ والدّينيّ كما يلي:
ـ التـّـفكير الغير عقلانيّ والنـّـظم التـّـفسيريّة التي نجدها في الدّين تؤمن بحقيقة واحدة ثابتة وتعتقد أنّها تملك تلك الحقيقة.
ـ النـّـسبيّة التي لا تعترف بوجود حقيقة موضوعيّة، فريدة من نوعها، ثابتة، تحاول أن تثبت أنّ المعتقدات لها نفس الصّلاحيّة ككلّ فكر معرفيّ آخر.
ـ العقلانيّة [التي تؤمن (أوّلا) بوجود حقيقة موضوعيّة والتي لا تعتقد (ثانيا) أنّ الإنسان بإمكانه أن يتوصّل إلى معرفة قطعيّة، والتي تزعم (ثالثا) أنّ مناهجها العقليّة وما تتوصّل إليه من نتائج أرفع من كلّ أشكال المعرفة] متفوّقة فعلا لأنـّـها تستعمل طريقة مجدية في إنتاج المعرفة.
وبهذه الطـّـريقة يصف النّسبيّة بأنّها فاشلة، فشلا ذريعا، في انتاج المعرفة (ص56 ـ 57):
"النّسبيّة تسلـّـم بوجود ثقافات متماثلة في العالم. الثـّـقافة ’ألف‘لها رؤيتها الخاصّة بها عن نفسها وعن الثـّـقافة ’باء‘. وبالمثل الثـّـقافة ’ب‘ لها رؤيتها الخاصّة عن نفسها وعن الثـّـقافة ’أ‘. وهذا ينطبق على مجموعة الثـّـقافات الموجودة في العالم. لا يجب أن تجلس أ مكان القاضي لتحكم على ب ولا العكس، ولا يتوجّب على أ أن ترى ب من خلال نفسها... في بعض الأحيان، من المرجّح أن يقع عناصر كلّ من ألف وباء، بعض الشـّـيء، في مركزيّة الإثنيّة، انطلاقا من تفكيرهم بأنّ مفاهيمهم الخاصّة بهم تصوّر العالم كما هو في الحقيقة وأنّ الآخر يجب عليه أن ينظر إلى نفسه وإلى كلّ شيء آخر حسب مصطلحاتهم الخاصّة، وإذا لم يفعل يكون سخيفا... الحقيقة هي (حسب النّسبيّة) أنّ الثـّـقافات متساوية، وليس من حقّ أيّة واحدة منهنّ أن تحكم على الأخريات أو أن تأوّلهنّ مستعملة مصطلحاتها، وعلاوة على ذلك لا يجب أن تزعم بأنّ العالم يمكن وصفه بطريقة صحيحة بمصطلحاتها".

وفي نظر إيرنست جلنر النّسبيّة ليست على صلة بالحالة الواقعيّة للمعرفة في المجتمعات الحديثة:
"العالم الذي نعيش فيه في الحقيقة مختلف كلـّـية. لعلـّـه كان قبل ألفيّتين ونصف يشبه، تقريبا، العالم الذي تحبّ النّسبيّة أن تصوّره... كان هناك تعدّد للجماعات الاجتماعيّة كلّ لها طقوسها وأساطيرها الخاصّة بها. وكان من غير المعقول حقا أن تسمُو ثقافة فوق الثـّـقافات الأخرى، وأكثر من ذلك، أن تدّعي ثقافة أنّ الحقيقة عن ايّة واحدة منهنّ قد توجد فقط في مصطلحاتها".

هكذا كان العالم في القديم، حسب جلنر، تنطبق عليه النـّـسبيّة بامتياز، ولكنّه تغيّر فحدث الانقسام الكبير عندما برزت العقلانيّة وهي طريقة في التـّـفسير لادينيّة، لاسحريّة؛ وعندما برزت أنتجت معرفة نسمّيها اليوم علوما طبيعيّة تمتاز بمناهج وتطبيقات وأفكار فريدة من نوعها:
ـ المعرفة التي ينتجها العلم يمكن تطبيقها في أيّة أوضاع ثقافيّة.
ـ عندما تـُـطبـّـق تلك المعرفة من أجل التـّـوصّل لأهداف ملموسة تغيّر وجود الإنسان بصفة جذريّة...
ـ المعرقة العلميّة لا تعبأ بالإختلافات الثـّـقافيّة وبالأخلاقيّات، بل تتعارض معها، وهي التي تحمل رغباتنا وآمالنا الحقيقيّة مقدّمة إلينا تفسيرا موثوقا به ولكنّه يفشل في منحنا راحة وطمأنينة. كما أنّ المعرفة العلميّة لا تؤكـّـد لنا بأنّ الأشياء هي حقـّـا كما نريدها أن تكون. وهذا يتعارض تعارضا كلـّـيّا مع أشكال المعرفة القديمة، ومنها المعرفة الدّينيّة. وخلافا للنسبية ، تشمل العقلانيّة كلّ النّاس وتحمل جميع العقول ولكنّها لا تعترف بأنّ كلّ الثـّـقافات ونظم المعاني على قدم المساواة (ص 37). كلّ عقل له القدرة على اكتشاف الحقيقة عندما يتـّـبع منهجا صحيحا. العقلانيّة تقيم الذّليل على أنّه ثمّة عدد لا محدود من المعاني حتـّـى أنّ تلك المعاني لا يمكن أن تكون كلـّـها صحيحة. علينا إذا أن نقوم بعمليّة فرز لنفصل الغثّ من السّمين. وعندما وجدنا الطـّـريقة العقلانيّة في الفرز زال الانقسام الكبير في التـّـفكير وتغلـّـبت العقلانيّة على الدّين والخرافة.

ومن خلال النّقاش الذي خاضه إيرنست جلنر مع إيدوارد سعيد حول "الاستشراق" على صفحات التـّـايمز نرى أنّه يؤمن بتفوّق الثـّـقافة الغربيّة على غيرها.

العلم والعقلانيّة:

العلم اليوم يعمل انطلاقا من مسلـّـمات تدخل في نطاق الوضعيّة التي تقول بأنّ الأشياء والظـّـواهر المحسوسة تقع في إطار سلسلة لامحدودة من العلل. كلّ شيء ملموس، له وجود فعليّ، يمكن التـّـعرّف عليه لأنّه نشأ عن علـّـة ما يمكن التـّـعرّف عليها أيضا. لكنّ العلوم حتـّـى وإن كانت تجريبيّة تهتمّ كذلك بالظـّـواهر الغير ملموسة: على سبيل المثال المفاهيم التي تعبّر عن السـّـعة والضّغط ودرجة الحرارة وغير ذلك هي في الحقيقة تجريدات تعبـّـر عن خصائص الواقع الذي تدرسه العلوم. وتعمل العلوم دوما على إيجاد مؤشـّـرات مادّية تدلّ على المفاهيم المجرّدة فمقياس الحرارة مثلا يجعلنا ندرك درجة الحرارة والبارومتر يجعلنا ندرك الضـّـغط الجوّيّ إلخ. وفي دراسة أيّة ظاهرة تقول العلوم إنّ الوقوف على العلاقة السّببيّة بين الأشياء والظـّـواهر هو ما يؤدّي إلى الحقيقة، ولا يمكن دراسة أيّة ظاهرة إلاّ إذا أثبتنا وجودها، والإثبات يتمّ عبر التـّـجربة الامبيريقيّة التي تـُـضاغ نتائجها في قوانين علميّة مجرّدة. بهذا المعنى لا تزعم العلوم أنّها تصنع الحقائق وإنّما تكشف عن وجود ظاهرة ما وتبيّن عملها؛ لهذا السـّـبب نقول إنّ العلوم موضوعيّة في مناهجها.

لكنّ العلماء أنفسهم قد يقعون في الذّاتية عندما يبدون آراء ويصدرون أحكاما حول حقائق معيّنة ولذلك تشترط المناهج العلميّة استبعاد كلّ الآراء الشـّـخصيّة والأحكام المعياريّة من أجل التـّـوصّل إلى الحقيقة وإنتاج معرفة تجريبيّة. وفي ميدان العلوم الاجتماعيّة (التي يُعنى بها هذا الكتاب في رؤيتها للثـّـقافة) ثمّة منهج واحد يمكن أن يضمن الموضوعيّة وهو المنهج الافتراضيّ الاستقرائيّ .

هذا المنهج يتمثـّـل في تفكيك الواقع إلى علـّـة ونتيجة
cause and effect وهذه العمليّة يُعبـّـر عنها أحيانا بمصطلح "التـّـحليل الذرّي للواقع" atomization of reality الذي يمكن تلخيصه في منهج باشلار، فيلسوف العلوم الفرنسيّ: ملاحظة، فرضيّة، تجربة، قانون. لكنّ الظـّـواهر الإجتماعيّة لا تساعد على إقامة التـّـجارب كما أنّها لا تثبـُـت على حال من الأحوال ولذلك تـُـستبعد التـّـجربة ويستعاض عنها بالتـّـحليل والاستقراء والاستنتاج. وبما أنّ الظـّـواهر الاجتماعيّة غير ثابتة فإنّ النـّـتائج التي تتوصـّـل إليها ظرفيّة في طبيعتها أو تاريخيّة. العلوم الاجتماعيّة لكي تكون موضوعيّة ولكي تواكب التـّـغيّر الاجتماعيّ عليها أن تقدّم تفسيرات للظـّـواهر الاجتماعيّة بصفة مستمرّة وأن تجد دوما طرقا جديدة بواسطتها تغيّر من الأفكار المحمولة عن الواقع. ولئن تغلـّـبت العقلانية على التـّـفكير الدّيني كما قلت سابقا فلأنّ العلوم العقليّة تعتمد على هذا المنهج الفريد من نوعه في إدراك الظـّـواهر وإنتاج المعرفة.

النّاس الذين بتـّـبعون التـّـفكير غير العلميّ لا يخضعون المنظومات الشـّـرحيّة الموروثة للتـّـحليل وإنّما يقومون بتقويتها وترسيخها لأنـّـهم يعتقدون أنّ لها قيمة كبرى. ويمكن القول إنّ التـّـحوّل من الشـّـروح النّابعة من المعتقدات والموروثات نحو التـّـفكير النـّـابع من التـّـحليل والنـّـقد هو الذي أدّى انتصار المناهج العلميّة. لكنّ تبنّي القوّة الإدراكيّة للتـّـفكير العلميّ دون غيره أدّى إلى إشكال، حسب ما قال به ماكس فيبر، تمثـّـل في فقدان الإنسحار
Lack of enchantment بعالم الغيب المحيّر وهو فقدان للخيال. العلوم تصف الواقع بأنّه موجود رغما عنّا كما هو وليس كما نريده نحن أن يكون. وبالتـّـالي فالعالم العقلانيّ، وإن كان مجديا ومنظـّـما، غير متعلـّـق بالعالم الواقعيّ ومتساكنيه، في رأي فيبر. العلوم، حسب فيبر، لا تهتمّ بما هو شعوريّ وذاتيّ ومنتج ومُـجْز، وكما يقول إيرنست جيلنر:
"الحقيقة ليست الجمال ولا الفضيلة ولا الوسيلة وليست التـّـقدّم الذي قد يحصل في قضيّة سياسيّة أو غيرها".
Ernest Gellner: Spectacles and Predicaments, 1979, Cambridge Univ Press, P144

كما أنّ العلم لا يوفـّـر ميثاقا يساعد على كيفيّة العيش ولا تقدّم لنا العلوم الصّحيحة والتـّـجريبيّة طرقا في كيفيّة تنظيم أنفسنا ولذلك تكتسي العلوم الاجتماعيّة أهمّية كبرى لأنّها تقدّم تفاسير تساعد على تجنـّب الآفات الاجتماعيّة. لكنّ التـّـفكير الدّيني لا زال حتـّـى اليوم، أي بعد تخطـّـي الانقسام الكبير في التـّـفكير، ينفي عن الانسان أيّة قدرة أخلاقيّة من دون الدّين ويشكـّـك في إمكانيّة التـّـوصـّـل إلى الحقيقة.

الدّين في علم الأناسة الرّمزيّ والظـّـاهراتيّة:
Symbolic Anthropology and Phenomenology

بالنـّـسبة للمهتمّين بعلم الإجتماع المعرفيّ يرجع ترسّخ التـّـفكير الدّيني في الواقع الاجتماعيّ إلى عدم قدرة العلوم على طمأنة النّاس عاطفيّا ونفسيّا على عكس الدّين الذي يطمئن معتنقيه. وفي هذا الإطار أيضا يؤكـّـد علم الأناسة الرّمزيّ وكذلك الظـّـاهراتيّة (على لسان عدد من الكتـّـاب على الأقلّ) على أنّ كلّ النـّـاس يحتاجون إلى الطـّـمأنة بأنّ العالم الذين فيه يعيشون آمن ومنظـّـم، وهذا ما عبّر عنه أنثوني غيدّنز بالأمن الانطولوجيّ(Anthony Giddens, 1991). كلّ العلوم تطمح إلى الاضطلاع بهذه المهمّة ولكنّها عاجزة عن ذلك ولذلك حلـّـت محلـّـها الثـّـقافة التي تزعم اليوم أنّها تقدّم نظما معرفيّة حقيقيّة فيها ما يطمئن وفيها جانب علميّ. وفي محاولة التـّـعرّف على الأسباب التي تجعل النـّـاس يعتنقون تفكيرا غير علميّ يقول المفكـّـرون العقلانيّون إنّ الدّارس لظاهرة التـّـفكير الدّينيّ عليه أن ينظر إليها من خلال الأسباب التي يقدّمها النـّـاس لتديّنهم وعليه ألاّ يعتبر تلك الأسباب غير منطقيّة أو لاعقلانيّة لأنّ هذا معناه القول بأنّ النّاس لديهم عقول غير ناضجة وهذا الاتـّـجاة في البحث هو ما يسمـّـى "الخاصّية النـّـسبيّةّ" للمعرفة والثـّـقافة، كما وصفها علم الأناسة الثـّـقافيّ.

نسبيّة الثـّـقافة:

المقاربة النـّـسبيّة للثـّـقافة التي نجدها في نظريّات ما بعد الحداثة تشكـّـك في العقلانيّة ولا تؤمن بوجود الانقسام الكبير في التـّـفكير والذي توفـّـر فيه العلوم الحقيقة في حين توفـّـر فيه التـّـفسيرات الغير علميّة شروحا غير عقلانيّة. المقاربة النـّـسبيّة تقول إنّ فحص العلوم وما تتوصّل إليه يبيّن أنّها لا تختلف عن النـّـظم الغير علميّة وبالتـّـالي فإنّ التـّـفكير العلميّ والعقلانيّة لن يتمكـّـنا إطلاقا من إزاحة الدّين. النـّـسبيّة تنطلق من المناهج العلميّة ذاتها وتفحص المعرفة التي تنتج، وبما أنّ العلماء بدورهم كائنات اجتماعيّة فإنّ نشاطهم العلميّ خاضع للتـّـأثيرات الاجتماعيّة والثـّـقافيّة. هذا النـّـقد لكيفيّة إنتاج المعرفة وللحداثة والعقلانيّة يشدّد على أنّ كلّ التـّـفاسير المقدّمة (من كلّ الأطراف) تتمتـّـع بنفس الدّرجة من الصّلاحيّة؛ الدّين إذا مفيد لأصحابة تماما مثل العلم. وأمّا الحلّ الذي تقدّمه هذه المقاربة لمسألة علمنة المجتمع فيتمثـّـل في القول بأنّ التـّـفكير الغير علميّ لا يموت نهائيّا وإنّما يظلّ دوما متعايشا مع التــّـفكير العلميّ لكنّه يفقد أهمّيته تدريجيّا إلى أن يصبح مهمّشا تماما.

وتختلف نظريّات العلمنة في درجة التـّـركير على الدّور الذي قد يلعبه في عمليّة العلمنة وتتراوح بين النـّـظريّات القائلة بوجود مزاحمة بين العلم والدّين والنـّـظريّات التي لا تعترف بأيّ دور للعلم في تقهقر التـّـفكير الدّينيّ.

ومن بين الكتـّـاب الذين كتبوا عن العلمنة البريطاني براين ويلسن (
Bryan Wilson) الذي كان فزعا بخصوص طبيعة الحياة الاجتماعيّة التي يهيمن عليها التـّـفكير العلميّ. وقد حافظ على التـّـقليد الفيبيري في أعماله. وقد رأى ماكس فيبر أنّ العقلانيّة غير مهتمّة سوى بتبيان العلاقات السّببيّة بين الظـّـواهر هادفة إلى النـّـجاعة التـّـقنية لا غير والتـّـركير على كيفيّة عمل الأشياء وكيفيّة جعلها تعمل بنجاعة من دون شرح لماذا هي الأشياء على تلك الحال. ويقول ويلسن إنّ تقهقر التـّـفكير الدّينيّ دليل على نجاج العلمنة؛ لكنّ أطرافا أخرى عارضته وقالت إنّ الدّين لم يتقهقر وإنّما حلـّـت محلـّـه أشكال أخرى من التـّـديّن غير متمحورة حول الكنيسة إذ أصبح الدّين فرديّا كما أنّ أشكالا ثقافيّة أخرى مثل تتبّع المنافسات الرّياضيّة وما يسمّى أسلوب الحياة والموضة صارت أشكالا من التـّـديّن، وكذلك النـّـظريّات السّياسيّة التي تدعم الوطنيّة صارت تضطلع بمهمّة الإبقاء على التـّـماسك الاجتماعيّ. ولا ينفي براين ويلسن وجود العديد من الأشكال غير العلميّة التي توفـّر المعاني والمعرفة في المجتمعات الحديثة وإنّما يؤكـّـد أنّ وجود هذه النـّـظم الثـّـقافيّة أدّت إلى تهميش الدّين. وفي كتاب نشره سنة 1982 "الدّين في آفاق اجتماعيّة" (Religion In Sociological Perspective) أوضح أنّ العلمنة تتضمّن هذه السـّـمات:
ـ أنّ القوى السّياسيّة هيمنت على المؤسّسات الدّينيّة وهمّشتها.
ـ أنّ التـحوّل في التـّـحكـّـم من الدّينيّ إلى العلمانيّ أضعف الوكالات الدّينيّة.
ـ أنّ تعقـّـد المجتمع أدّى إلى انخفاض الطـّـاقات والموارد التي تمنحها الأفراد للنـّـشاط الدّينيّ والرّوحيّ.
ـ أنّ المؤسّسات الدّينيّة لكونها متعفـّـنة قد تلاشى نفوذها.
ـ أنّ السـّـلوك الفرديّ لم يعد يراعي التـّـعاليم الدّينيّة وإنّما يستجيب لمعايير تقنيّة صرفة.
ـ التـّـخلـّـي عن تأويل الظـّـواهر الاجتماعيّة والطـّـبيعيّة بالشـّـاعريّ والفنـّـي وبالجماليّة والاستعاضة عن ذلك بالوصف الصّحيح الذي يميّز بين العاطفة والعمليّات الإدراكيّة.
ـ أنّ الدّين نفسه لم يعد طقوسا وصلاة بل تجارب روحيّة شخصيّة وأخلاقيّات مستوحاة من الواقع.

ويمكن القول إنّ أشكالا عقائديّة جديدة مستوحاة من الأدب والموسيقى والثـّـقافة الشـّـعبيّة قد عوّضت الدّين فأنتجت ثقافات وممارسات معيّنة (استعمال المخدّرات، الانتفاض السّياسيّ، طرق معيّنة في اللـّـباس إلخ).

ميشال فوكو والتـّـحكـّـم عبر الخطاب:

يدخل فكر ميشال فوكو فيما بعد الهيكليّة التي ترى الوجود الإنساني معتمد بصفة كاملة على المعرفة والخطابات التي تعمل مثل اللـّـغة. اللـّـغة ∕ الخطاب تعرّف لنا الواقع ولكي يستمرّ النـّـظام في البقاء نحن مجبرون على استعمال تعريفاته. المعرفة المتوفـّـرة لدينا عن الواقع وعن العالم متأتـّـية من اللـّـغة ومن الخطابات التي نجدها في الزّمان والمكان والتي تخبرنا من نحن وتؤكـّـد لنا أنّ ما نعلمه صحيح. التـّـفكير الخطابيّ إذا بناءات مكوّنة من تعريفات مختلفة للواقع هدفها التـّـحكـّـم الاجتماعيّ والانسان ليس سوى إنتاجا شكـّـلته الخطابات المقدّمة. وانطلاقا من هذه الملاحظات عرّف فوكو التـّـاريخ بأنّة صعود ثمّ سقوط الخطابات لأنّ الخطاب يشيّد نظاما قائما على التـّـحكـّـم يسقط عندما يفقد ذلك الخطاب معناه. بهذا المعنى يصبح التـّـغيّر الاجتماعيّ تغيّرا في أشكال المعرفة السّائدة ويكون دور المؤرّخ أن يبحث في تلك التـّـغيّرات وأن يجد الأسباب التي أنتجتها. وعلى عكس العقلانيّين لم يرى فوكو أيّ تقدّم في مثل هذه العمليّات: مادام التـّـاريخ استبدال قصص وخطابات بقصص وخطابات أخرى تمكـّـن من الـتـّـحكـّـم فإنّ استبدال الحقيقة بحقيقة أخرى لا يعدّ نصرا أو تقدّما في التـّـفكير لأنّ الحقيقة ليست سوى ليست سوى نتاجا للسّياسة.

ويمكن القول إنّ الفكرة التي وضعها ميشال فوكو مستقاة من النـّـظريّة التي وصف بها طوماس كون (
Thomas Khun) المعرفة العلميّة (1970). وقد رأى كون أنّ المعرفة العلميّة نسبيّة لأنـّـها تمثـّـل عددا من النـّـماذج الخاصّة. أمّا بالنـّـبة لفوكو فإنّ المعرفة البشريّة في الثـّـقافات المختلفة وعبر الزّمن أي عبر التـّـاريخ نسبيّة لأنّها تتمثـّـل في عدد من الخطابات. وبالنـّـسبة لكلّ من كون وفوكو تتشكـّـل المعرفة نتيجة العمليّة السّياسيّة أو بالأحرى نتيجة لعمليّة ممارسة السّلطة. السـّـلطة لها صبغة المركزيّة في تفكير فوكو وتتمثــّـل فيما يلي:
ـ السـّـلطة تمارَس من خلال الخطاب على الرّعايا الخاضعون، في الحقيقة، لقوّة الخطابات. ولكي يوجدوا ويفكـّـروا عليهم تقبـّـل ذلك الخطاب.
ـ تـُـمارَس السـّـلطة من أجل تحقيق هيمنة الخطاب ولذلك فإنّ الخطابات المختلفة يتمّ تعهّدها بالرّعاية عبر التـّـعديل ويتمّ ترويجها وتدعيمها عبر الممارسة الخطابيّة (
Discursive Practice). ويلعب الخطاب دورا تأديبيّا تنظيميّا وتستعمل الخطابات كلّ الأجهزة الاجتماعيّة (appareils sociaux) السّلطة ليست في المقام الأول ، في نظر ميشال فوكو ، سمة للدولة بل هي موجودة في جميع المؤسّسات : السجن والمدرسة والمصنع والعائلة وفي المؤسّسات العلميّة ودورها التـّأديب في المجتمع والتـّطبيع (normalization).
ـ السّلطة لا تنفصل عن المعرفة: كل جهاز لسلطة ما في المجتمع الحديث هو أيضا مكان للتـّدريب على المعرفة (على الحياة، على الجنون، على الجنس، منذ الطفولة المبكّرة وعلى إنتاج الفنّ...). بأسلوب منهجيّ، وتسمح المعرفة بضمان ممارسة السّلطة. فعلى سبيل المثال ، المعرفه الاداريّة (الديموغرافيا ، وعلم الجريمة...) هي طريقة لمعرفة عدد السكان على نحو افضل من أجل التحكّم والمراقبة.
ـ المعرفة وسيلة للتـّـحكـّـم في يد السـّـلطة ولذلك هي المسؤولة عن اللاّمساواة الموجودة في المتجتمع.

هذه السّمات، بالنّسبة لميشال فوكو، هي سمات المجتمع الحديث القائم على الخطاب الذي يتحكـّـم في الجسم ويقوم بتنظيمه. وإذا كانت الدّراسات الإبستميّة لميشال فوكو تركـّـر على ثنائيّة المعرفة والسـّـلطة فإنّ دراساته التـّـاريخيّة عُـنيت بثنائيّة الجسم والمجتمع. بالنـّـسبة له بروز الخطابات المتمحورة حول الجسم قد رافتها، بالقوّة، عمليّات علمنة: خطابات ما قبل الحداثة (
pre-modern discourses) كان يهيمن عليها الدّين حتـّـى أنّ الاشياء توصف بأنـّـها خير أو شرّ، وكانت الحياة الاجتماعيّة مهيكلة حول هذين المفهومين، ومع بروز المجتمع الحضريّ الحديث أخذ العلم تلك الوظيفة من الدّين وكانت المعرفة الطـّـبيّة ذات أهمّية في هذه المعرفة الجديدة. الحياة الحديثة صارت موضوعا للتـّـحكـّـم الطـّـبّي . صعود العلم وخاصّة منه المعرفة الطـّـبيّة صاحبه تقهقر لسلطة الأشكال المعرفيّة الدّينيّة. وعلى سبيل المثال أصبحت المطابقة والانحراف مسألة صحـّـة ومرض وليس موضوع خير أو شرّ. الطـّـبيب عوّض رجل الدّين في ترويج تعريف الانحراف وترويج الأفكار التي تعالجه.

الدّين يضطلع بمهمّة التـّـحكـّـم في الجسد من أجل الحفاظ على بقاء الملكيّة في صلب العائلة ولذلك يؤكـّـد على ضرورة إنجاب أبناء شرعيّين. وفي هذه الحقبة المتقدّمة جدّا من الرّأسماليّة هناك درجة من الفصل بين الملكيّة والتـّـحكـّـم ولكنّ دور العائلة المتمثـّـل في الحفاظ على الثـّـروة في العائلة الواحدة لم يختفي فالقوانين تؤكـّـد على شرعيّة الأبناء وتكرّس الزّواج بامرأة واحدة. وإذا لم تكن الملكيّة الاقتصاديّة اليوم بشرط يحدّد الزّواج أي لا يمنعه فذلك لأنّ المؤسّسات الاقتصاديّة تهيمن على العائلة. التـّـحكـّـم بالجسم تضطلع به اليوم البنى الاجتماعيّة بما تنتجه من ثقافة تميّز بين المرأة والرّجل وبالتـّـالي لم يعد الفرد خاضعا للضـّـمير الجمعيّ كما يقول دركهايم ولا للمعاني المقدّسة كما يقول بيتر برغر ولا للدّين المدنيّ كما تقول الوظيفيّة الحديثة وإنـّـما لمؤسّسات علمانيّة تمارس التـّـسلـّـط على الجسد من خلال الثـّـقافة.
في أنّ العلم أيضا نتاج اجتماعيّ:
يبيّن علم اجتماع العلوم أنّ انتاج الأفكار العلميّة وتقبّلها نشاط اجتماعيّ يعتمد على عوامل اجتماعيّة وثقافيّة بحتة. ففي المجتمعات المتخلـّـفة نجد نشاطا علميّا محدودا لأنّ الأفكار الغير علميّة مهيمنة، وتعتمد الدّولة على تلك الأفكار في ضمان التـّـحكـّـم وبالتـّـالي تعوق عمليّات انتاج المعرفة بصفة عامّة. وقد قطع علم اجتماع العلوم أشواطا كبيرة نتيجة الأعمال التي قام بها طوماس كون فقد عرّف ما أسماه "دوغمائيّة العلوم النـّـاضجة" التي هي التزام بطريقة خاصّة في النـّـظر إلى العالم وممارسة العلم في إطاره. ويصبح العلم ناضجا عندما يكثر عدد ممارسيه ومدرّسيه والمنظـّـرين فيه وعندما ينتشر بين الجماهير. هؤلاء العاملين في ميدان ذلك العلم، كالفيزياء مثلا، يتبنّون التزاما إيديولوجيا يجعلهم ينظرون إلى علمهم ويمارسونه بطريقة معيّنة. ويرافق ذلك تعلـّـق دوغمائيّ بأفكار معيّنة. ذلك التـّـعلـّـق الدّوغمائيّ يعرّف العلم الذين يمارسونه وكيفيّة حلّ الإشكالات التي يطرحها. معنى هذا أنّ المنظـّـرين والممارسين لعلم ما يضعون قواعد للـّـعبة التي يقومون بها ومنظومة من "نماذج الحقل العلميّ" (1972). تلك النـّـماذج تبيّن أنواع الكائنات التي تملأ هذا الكون وكيف تتصرّف وأنواع السـّـلوك الذي تنتهجه وتوضح ما هي الأسئلة التي من الشـّـرعيّ طرحها وتقنيّات البحث فيها والإجابة عليها.

نلاحظ إذا أنّ العلوم لا تخلو من الذاتيّة وأنّ النـّـماذج العلميّة القائلة بأنّ العلم يقدّم نظريّات صحيحة تمّ التـّـثبّت منها عبر جمع الحقائق الملاحَـظـَـة مفهوم مغالط. العلماء، معتمدين على نماذجهم العلميّة، يسعون إلى ولوج المجهول وتفسيره وذلك بالبحث عن التـّـفاسير التي تتماشى مع تلك النـّـماذج ولكنّ طوماس كون يقول إنّ التـّـحدّي الحقيقيّ ليس أن يفسّروا المجهول بل أن يثبتوا الموجود. وإذا كانت النـّـظم العقائديّة نظما دائريّة لأنّها ترجع كلّ شيء لأصل واحد فإنّ البحث العلميّ أيضا يندرج في نظام مغلق من الأفكار التي تثبت نفسها بنفسها. وعندما يبرز دليل يناقض تلك النـّـماذج العلميّة فإنّها تتجاهله وتعتبره حالة شاذّة غير خاضعة للقانون العلميّ وذلك لأنـّـه يهدّد قواعد اللـّـعبة المحدّدة مسبقا. ومن هنا يقول طوماس كون إنّ النـّـماذج العلميّة تقاوم التـّـجديد العلميّ. لكنّ التـّـجديد العلميّ يحدث كالتـّـحوّل عن فيزياء إسحاق نيوتن والاستعاضة عنها بفيزياء آلبرت أينشطاين ويحدث التـّـجديد عندما يصبح الدّليل الشـّـاذ عنيدا وقويّا حتـّـى أنـّـه يفرض على العلماء مساءلة المسلـّـمات العلميّة. العلوم أيضا تمرّ بأزمات إبستميّة يتمّ حلـّـها عن طريق تشكيل نماذج علميّة جديدة.

الإلتزام بتأويل علميّ خاصّ يشجّع مقاومة الأفكار المجدّدة التي تسمّى تأويلات منحرفة. وكمثال على تبنـّـي الأورثودوكسيّة العلميّة لمواضيع غير علميّة ومحاولة شرحها أذكر الباراسيكولوجيا التي اتـّـخذت من الوخز بالإبر دليلا على وجود القدرة النـّـفسيّة وتأثيرها في الجسم وكذلك اضطلاعها بالبحث في الحياة بعد الموت. وتسلـّـط السـّـوسيولوجيا التـّـأويليّة الضـّـوء على الأصول الاجتماعيّة والثـّـقافيّة التي تصيب البحث العلميّ بالتـّـلوّث فتقول إنّ التـّـفاعل اليوميّ بين العلماء في المخبر وفي أماكن العمل يمثـّـل تعاونا يتمّ التـّـفاوض بشأنه لكنّ الرّوتين العلميّ يؤول إلى ما يسمّى الإثنوميثودولوجيا التي لها تأثير كبير في المعرفة المنتجة. الإثنوميثودولوجيا تعتبر التـّـفاعل بين العلماء مفهرسا في المعرفة المنتجة وفهم المناهج المستعملة بين العناصر المشاركة في إنتاج المعرفة لا يتمّ إلاّ عبر التـّـأويل. ونتيجة العمل المشترك، بالتـّـالي، لا يمكن أن تكون موضوعيّة لأنـّـها ناتجة عن مجهودات ذاتية تأويليّة ولهذا السـّـبب المعرفة المنتجة نسبيّة بالقوّة. ولا يمكن في النـّـهاية فهم أيّ عمل علميّ إلا عبر الدّراسة الإثنوغرافيّة.

وتقول نظريّات ما بعد الحداثة الاجتماعيّة أيضا بتلوّث النـّـتائج العلميّة عبر التـّــأويل ولكنّ التـّـأويل ناتج ليس عن العناصر التي تتعاون في إنتاج تفسير علميّ بل ناتج عن الخطاب المتـّـفق عليه. المعاني مفروضة على العناصر التي تقوم بالبحث من خلال اللـّـغة التي تحمل رصيدا ثقافيّا وهم مجبرون على استعمالها لكي يفكـّـروا.

ملاحظات للقرّاء:
أوّلا: ردّوا على ما كتبت، يا أهل الاختصاص، لكي نخوض نقاشا نستفيد منه.
ثانيا: هذا فصل من كتاب في الثـّـقافة أنا منكبّ على كتابته، فقولوا لي، من فضلكم، ما إذا كان الأسلوب مقبولا.
ثالثا: سوف أقدّم فصلا آخر يُعنى بالدّين في علم الأناسة وفصلا آخر يعنى بالدّين في الفلسفة. أقول هذا لأنّ ما كتبت هنا يبدو لي منقوصا. وسوف أقدّم قائمة المراجع في أخر فصل أقدّمه إليكم.
رابعا: هذه فصول الكتاب:
الأصول المحتمـَـلة للثـّـقافة
ـ كيف تـُـدرس الثـّـقافة؟ الدّراسات الثـّـقافيّة ومناهجها
ـ الثـّـقافة والإرتقاء البيولوجيّ: تقييم للدّراسات الدّاروينيّة
ـ الثـّـقافة واللـّـغة وعلم اللـّـسانيات الإجتماعيّة
ـ الثـّـقافة والدّين
ـ السّلطة والسّياسة وعلاقتهما بالثـّـقافة
ـ الثـّـقافة والطـّـبيعة والتـّـقنيّات بما في ذلك وسائل الإعلام
ـ التـّـكنولوجيا كثقافة
ـ النـّـصّية والرّموز والخطاب: المعاني والعلامات والإيحاءات والتـّـرقـّـبات... الكلمة والصّورة، الرّموز البصريّة، تفكيك الرّموز...
ـ بناء الثـّـقافات الثـّـانويّة والثـّـقافات الشـّـعبويّة
ـ الثـّـقافة والتـّـرفيه: من الطـّـقوس إلى ثقافة العروض
ـ النّظرة الأنثويّة للثـّـقافة: الجندر والجسم والنّفسيّة
ـ المرأة في الثـّـقافة
ـ نظريّات الثـّـقافة ونقد الثـّـقافة
خامسا: يمنع نشره دون إذن الكاتب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة