موقف حزب العمال من محاكمة الاسلاميين سنة 1992:لا لـمحاكمة تـصفية الـحسابات

مرّة أخرى، حزب العمال وحقوق الإنسان (ملاحظات حول تقرير)

12 جويلية 1992

لا لـمحاكمة تـصفية الـحسابات

I- قيادات "النهضة" أمام المحكمة العسكرية : بعد الوفاق المواجهة.

إنطلقت منذ العاشر من شهر جويلية الجاري محاكمة المجموعة الأولى من عناصر "حركة النهضة" المحالين على المحكمة العسكرية بتهم مختلفة ومتعدّدة أهمّها "محاولة الاعتداء على حياة رئيس الدولة ومحاولة الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة" والعقاب في كلتا الحالتين هو الإعدام رميا بالرصاص. وستنظر دائرة عسكرية ثانية بداية من يوم 27 جويلية في القضية الأخرى التي تحال فيها كذلك مجموعة من قيادي وكوادر نفس الحركة. وقد وجهت إليهم أيضا تهم عديدة عقاب البعض منها الإعدام رميا بالرصاص، وتأتي هذه المحاكمات لتختم الفصل الأول من المواجهة بين سلطة السابع من نوفمبر و"حركة النهضة" علما وأنّ محاكمات عديدة أخرى جرت بكامل أنحاء البلاد أمام محاكم حق عام وحكم فيها على المئات من أتباع هذه الحركة وأنصارها.

ومن المعلوم أنّ هذه المواجهة انطلقت منذ أكثر من سنة لتضع حدّا لسياسة الوفاق التي ميزت العلاقة بين السلطة و"حركة النهضة" مباشرة بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 والتي سعى من خلالها كلا الطرفين إلى ربح الوقت لتحقيق أهدافه. فقد كان فريق السابع من نوفمبر يعمل على تركيز نفسه في السلطة فقدم لـ"النهضويين" عدّة تنازلات قصد احتوائهم وتوظيفهم في نطاق ما سمي وقتها بـ"سياسة سحب البساط"، أمّا هم فقد كانوا يريدون ربح الوقت لإعادة تنظيم صفوفهم وتوسيع تأثيرهم في الساحة، فقدموا شهادات الولاء للسلطة آملين الاعتراف بهم وتشريع أنشطة حركتهم.

لكن الوفاق انقلب تدريجيا إلى مواجهة بعد انتخابات أفريل 1987 التشريعية التي جرت في ظروف لا ديمقراطية وأدّت كسالفتها من الانتخابات إلى "فوز" الحزب الحاكم بجميع المقاعد في البرلمان. فاتّضح لـ"حركة النهضة" أن حليفها الذي صوتت لفائدته في الإنتخابات الرّئاسية ولعبت الدور الذي أوكله إليها في مواجهة بعض الخصوم السياسيين الآخرين الذين كان يعتقد أنهم المنافس المباشر له في تلك الانتخابات يرفض أن يتنازل لها عن أي جزء من السلطة بل وعن أي مقعد في البرلمان. كما اتضح لها أنّ "نواياه غير صافية" وأنّه، من موقع السعي إلى الحفاظ على احتكاره للسلطة، بصدد إعداد العدّة لمواجهتها.

لقد أعدّ الحزب الحاكم منذ الأشهر الأولى لسنة 1990 ما عرف ببرنامج الـ25 نقطة لمواجهة "حركة النهضة" وهو برنامج يهدف إلى اجتثاث جذورها في القطاع التربوي وضرب مصادر تمويلها (سحب الرخص التجارية وغيرها من أتباع "الحركة" وأنصارها إلخ...) ومراقبة أعضائها وتفكيك جهازها التنظيمي –العسكري. وما ان بدأت السلطة في تنفيذ بنود ذلك البرنامج حتى ظهرت مسيرات عنيفة وهجومات على مراكز الشرطة ومقرّات الحزب الحاكم. وربما ظنّ زعماء هذه "الحركة" أن الوقت حان للانقضاض على السلطة فبدأوا في تجهيز أنفسهم بالمعلومات على مختلف أجهزة الدولة وبالأسلحة مستعينين بعناصرهم المندسّة في الجهاز الإداري البوليسي والعسكري وبعلاقاتهم الوطيدة مع "جبهة الإنقاذ الإسلامية" في الجزائر التي تتمتّع بنفوذ كبير خاصة بعد فوزها في الانتخابات البلدية والولائية لسنة 1990.

لقد استغلّت السلطة ردّ فعل "حركة النهضة" لتحقق هدفا من أهدافها وهو الإجهاز على خصم سياسي يهدّدها بجدّية نظرا لتأثيره في الساحة المحلية ولارتباطاته الخارجية بالسعودية وإيران والسودان والولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأوساط السياسية الفرنسية (في الحزب الاشتراكي وأحزاب اليمين...) فضلا عن ارتباطاته بفصائل "الحركة الإسلامية" في مختلف أنحاء العالم. فشنت هجمة شاملة على هذه الحركة تحت غطاء مقاومة "الإرهاب" و"التطرف" و"الظلامية". وقد ارتكبت خلال هذه الهجمة فظاعات لا توصف : إيقافات بالجملة طالت آلاف المواطنين مداهمات منازل "المشبوه فيهم" وترويع سكانها، تعذيب وحشي ومنهجي أدّى إلى وفاة حوالي ثمانية (8) أشخاص حسب تقارير منظمة العفو الدولية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، حجز مئات الأشخاص في أماكن سرية دون علم أهاليهم، خرق منهجي لإجراءات الاحتفاظ والإيقاف التحفظي. وفي خضمّ هذه الحملة الرهيبة على "الإخوان" أصبحت ممارسة شعيرة الصلاة أو امتلاك كتب دينية أو مصاحبة أحد المشبوه فيهم بالانتماء إلى "حركة النهضة" خاصة بالنسبة لأعوان الإدارة والأمن والجيش مدعاة للشبهة.

ومن ناحية أخرى اتخذت سلطة السابع من نوفمبر من مقاومة "الإرهاب النهضوي" ذريعة لشنّ هجمة عامّة على الحريات الديمقراطية وخاصة منها حزبنا، حزب العمال الشيوعي التونسي الذي تجاوزت محـاكمات مناضليه وأنصـاره الأربعين محـاكمة (40) وشملت ما يزيد عن 200 مناضل منذ 7نوفمبر 1987. كما طال القمع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي حلّت بموجب قانون لا ديمقراطي ولا دستوري لأنّها رفضت التواطؤ مع انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وندّدت بالتعذيب وخرق الإجراءات الخاصة بالاحتفاظ والايقاف التحفظي. وعسكرت السلطة الجامعة التي أصبحت مرتعا للبوليس يتدخل فيها متى شاء وكيفما شاء بل ويطلق النار على الطلبة ويقتل. ولجّمت الصحافة تلجيما تامّا. وفي ظل هذا الوضع أصبح البوليس السياسي هو "الفاتق الناطق" في البلاد يراقب حياة المواطنين بجزئياتها مراقبة مباشرة. واستغل الحزب (التجمع) الدستوري هذا الوضع ليحاول بسط نفوذه على الفضاءات التي خسرها خلال السنوات الأخيرة في المجالات النقابية والثقافية خصوصا.

لقد أكد حزب العمال الشيوعي التونسي منذ انطلاق المواجهة بين السلطة و"حركة النهضة" أنّها مواجهة في غير صالح الشعب. فالحزب الحاكم لا يواجه "رأس حربة التيار الظلامي"، أي "حركة النهضة" من موقع الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والنور والتقدم بل من موقع الحفاظ على احتكاره للسلطة والحياة العامة مؤسسات وإدارة ووسائل إعلام. وما فعله ويفعله مع هذه الحركة هو نفس ما كان فعله وما زال يفعله تحت عناوين أخرى (مقاومة التطرف، مقاومة الفوضى) مع الحركة اليسارية والحركة النقابية والتعذيب الذي أودى بحياة حوالي ثمانية أشخاص من أتباع "النهضة" هو نفسه الذي أودى بالأمس بحياة نبيل بركاتي عضو حزب العمال الشيوعي التونسي وحسين الكوكي وسعيد قاقي النقابيين (جانفي 1978). وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الحزب الحاكم هو المسؤول رأسا على تعفن الأوضاع الإجتماعية والسياسية التي ولّدت التطرف الديني وساعدت على تطوّره. فهذا التطرف هو الإبن الشرعي للدكتاتورية الدستورية التي تحكم البلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة بطرق غير مشروعة.

أمّا "حركة النهضة" فإنّها لا تواجه السلطة دفاعا عن مصالح الشعب والوطن أو بنية إقامة نظام ديمقراطي وتقدمي يلبّي مطامح الجماهير في استقلال فعلي عن الإمبريالية وفي العدالة الإجتماعية والديمقراطية وإنّما من موقع السعي إلى إقامة دكتاتورية دموية منغلّفة بالدين على شاكلة ما هو موجود في إيران والسودان أو أفغانستان. وهو ما أكّدته مواقف هذه الحركة وممارسـاتها وتحـالفـاتها سواء المحلية، مع بعض رموز الحكم البورقيبي (مزالي...) أو مع أنظمة السعودية والخليج القروسطية ومع عديد الأوساط الإمبريالية في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وأنجلترا.

II- محاكمة "التطرف" أم تصفية حساب؟

إنّ المحاكمة التي تجريها سلطة السابع من نوفمبر لقيادات "حركة النهضة" بعد أن حاكمت في الجهات أعدادا من قواعدها، تتنزّل ضمن هذا الإطار العام. وبالتالي فإن السلطة كما سبق أن قلنا، تريد بهذه المحاكمة التخلّص من خصم سياسي مستغلة ما سقط فيه من ردود فعل عنيفة وأحيانا إرهابية وان اهدافها أبعد من أن تكون محاكمة التطرف الديني الذي من الوهم الإعتقاد بأن الحلول الأمنية والعسكرية ستضع حدّا له بل من الوارد في ظلّ استمرار سياسة الإستغلال الفاحش والقهر السياسي والمهانة الوطنية والقومية أن تغذّيه وتعزّزه. وتؤكّد وقائع المحاكمة الحالية التي ينظر فيها القضاء العسكري هذه الحقيقة التي لا يمكن لأي ديمقراطي نزيه ومتماسك أن يسكت عنها وإلاّ سقط في الإنتهازية والنفعية وهو ما يفعله العديد من ، أشباه الديمقراطيين، متعللين بأن الأمر ما دام يهمّ "الإخوانجية" "لا تردْ فاسْ على هراوة" متناسين الإنعكاسات السلبية لهذا الصراع على حياة المواطنين وهي انعكاسات أصبحت واقعا ولم تعد مجرد احتمال نظري.

إن العناصر التي تعطي محاكمة قيادات "حركة النهضة" طابع "تصفية حساب" والبعد كل البعد عن المحاكمة العادلة التي تتوفر فيها ضمانات الدفاع ويحاسب فيها المتهم على ما اقترفت يداه وليس على ما بفكر أو على مجرد انتمائه الفكري والسياسي لحركة ما يمكن حوصلتها فيما يلي :

1) إحالة المتهمين على محكمة عسكرية وهي تمثل رغم ما يقدم من تبريرات، محكمة استثنائية لأنّ هيئتها، عدا الرئيبس، متكونة من عسكريين ولأن أحكامها نافذة وغير قابلة للإستئناف بل للتعقيب فقط. وكان من الأحرى ولتوفير كافة الضمانات إحالتهم على محكمة مدنية.

2) عدم تمكين المتهمين من إجـراء التحقيق بحضور المحـامين. وقد صرح معظمهم أمام المحكمة بأنهم كلما طلبوا من حاكم التحقيق العسكري إحضار محام إلاّ وهدّدهم بإرجاعهم إلى محلات البوليس السياسي، والهدف من هذه العملية لا يخفى على أحد وهو: أولا: التستر على آثار التعذيب التي يحملها المتهمون. وثانيا: إرغامهم على إعـادة ما يوجد في أبحاثهم لدى البوليس السياسي حتى لا تظهر الاعترافات الواردة في تلك الأبحاث مقتلعة تحت التعذيب. وقد اعتمد رئيس المحكمة التطابق بين محاضر استنطاق البوليس ومحاضر التحقيق ليرد على المتهمين بأن اعترافاتهم لو كانت مقتلعة تحت التعذيب لما أعادوها أمام حاكم التحقيق والحال أنّهم في "مأمن من كل ضغط".

3) عدم تمكين معظم المتهمين من زيارة محاميهم طوال مدّة الإيقاف التحفظي والحال أنّهم يواجهون تهما خطيرة تتطلب إعدادا كبيرا من المحامين ومن منوبيهم للردّ عليها. وقد اشتكى المحامون أنفسهم من هذا الوضع. وحتى القلة القليلة من المحامين التي تمكنت من زيارة منوبيها فإنّها ذكرت أنّ الزيارة كانت شكلية لا تتجاوز، أحيانا الدقيقتين إضافة إلى الرقابة المشددة. كما اشتكى المحامون من عدم تمكينهم من ملفّ القضية كاملا. فقد عمدت المحكمة في البداية إلى مدّ كل محام بمحضر استنطاق منوبه وقرار ختم البحث فقط، وبعد احتجاجات عديدة مكنتهم، ولكن قبل موعد المحاكمة بوقت قصير، من الملف كاملا. ونظرا لضخامته لم يتمكن جل المحامين من نسخة فحضروا المحاكمة دون الاطّلاع عليه.

4) رفض المحكمة تأخير القضية لمتّسع من الوقت لتمكين المحامين والمتهمين من إعداد الدفاع إعدادا جيّدا علما أن القضاء الاستعجالي في القضايا العادية يمكّن المتقاضين من التأخير مددا تضلّ في بعض الأحيان إلى 15 يوما، أمّا المحاكم الأخرى، ابتدائية وجنائية فإنّها تمنحهم مجالا أوسع بكثير.

إن جميع هذه العناصر تخل بحقّ أساسي من حقوق المتهم مهما كانت التهم الموجّهة إليه وبصورة أخصّ عندما تكون هذه التهم من الصنف الموجهة إلى المتهمين في قضية الحال وهو الحقّ في محاكمة عادلة. وهو ما نص عليه الفصل 12 من الدستور التونسي "كل متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته في محاكمة تكفل له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه" كما نصّت عليه المادّة 11 البند الأول من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا في محاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه".

لنواصل.

5) تعرّض معظم المتهمين للتعذيب، وهذه الحقيقة المعروفة من قبل، أكّدها المتهمون أمام المحكمة إذ صرّحوا بأنهم كانوا عرضة لأنواع شتى من للتعذيب الوحشي ووصفوه وصفا دقيقا، ورغم مرور مدّة طويلة (أكثر من عام بالنسبة للبعض) على إيقافهم فإنّ فيهم من لا يزال إلى حدّ الآن يحمل آثار التعذيب إضافة إلى أعراض نفسية وعصبية خطيرة من جرّائه. وقد طالب المحامون في عديد الأحيان عرض منوّبيهم على الفحص الطبّي وفقا لما نصّ عليه الفصل 13 مكرّر لمجلّة الإجراءات الجزائيّة.

إنّ التعذيب ممارسة وحشية ولا إنسانية. ورغم توقيع الدولة التونسية على "إتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاّإنسانية أو المهينة" فإنّ التعذيب في بلادنا ما زال يمارس بشكل واسع لا في القضايا السياسية فحسب، بل كذلك في قضايا الحق العام. وفي قضية الحال كما في أيّ قضية أخرى، فإنّ التعذيب ليس له أيّ مبرّر بما في ذلك الأفعال المنسوبة للمتّهم. فالتعذيب يبقى جريمة في كلّ الحالات، وقد نصّت المادّة 2 –البند الثاني من الاتّفاقية المذكورة على أنّه: "لا يجوز التذرّع بأيّة ظروف استثنائية سواء كانت هذه الظروف حالة حرب أو تهديد بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أي حالة من حالات الطوارىء العامة الأخرى كمبرّر للتعذيب".

ثم إن ما سلط من تعذيب وممارسات مهينة على معظم المتهمين في هذه القضية هو من الأمور التي تحيط الأبحاث المجراة بكثير من الشكوك وبصورة خاصة، فإنّ السؤال الذي يطرح هو التالي: أين الحق من الباطل في هذه القضية؟ من هم المورطون حقا في هذه القضية، تخطيطا وتنفيذا في الاعتداءات والجرائم المشار إليها في قرار دائرة الإتهام ومن هم المحشورون حشرا في نطاق هذه القضية بسبب معتقداتهم الفكرية والسياسية؟ وما هو نصيب بعض التهم الموجهة إلى المتهمين من الحقيقة أو بعبارة أخرى ما هو نصيب الواقع وما هو نصيب الدعاية لتبرير تصفية خصم سياسي إلى غير ذلك من الأسئلة المشروع طرحها بقطع النظر عن التكتيك الدفاعي الذي اتّبعه المتهمون أمام المحكمة والقائم على إنكار كل شيء سواء ما يكون قد حجز عندهم فعلا من أسلحة ومعدات أو ما يكونون قد خططوا له فعلا من أعمال. وهذا التكتيك متداول لدى الفرق الإخوانية ويدخل ضمن ازدواجية خطابهم وسلوكهم. إنّ الإتفاقية المتعلقة بالتعذيب تنصّ صراحة في مادتها الخامسة عشرة على أن "تضمن كل دولة طرف عدم الإستشهاد بأية أقوال تثبت بأنه تم الإدلاء بها نتيجة للتعذيب كدليل في أية إجراءات".

6) انتهاك إجراءات الإحتفاظ والايقاف التحفظي بشكل منهجي فقد أكد المتهمون حقيقة معروفة من قبل وهي متمثلة في عدم احترام البوليس السياسي لإجراءات الاحتفاظ (عشرة أيام على أقصى تقدير) والتجائه للتغطية على هذا الخرق القانوني إلى تزوير المحاضر وتغيير تواريخها. وهذه الممارسة تعرض لها أيضا معظم مناضلي حزب العمال الموقوفين في السنة والنصف الأخيرة (قضايا المنستير وقرمبالية وتونس إلخ...) وهي ممارسة لا قانونية توفر للبوليس الوقت كي يسلط شتى الضغوطات المادية والمعنوية على الموقوفين واقتلاع ما يريده منهم من اعترافات.

7) تنضاف إلى كل هذه العناصر، ممارسات لا قانونية أخرى قامت بها السلطة في حق عدد من المتهمين وهي تمثل أساسا في عرض "اعترافات" للمتهمين مسجلة على أشرطة فيديو في التلفزة قبل التحقيق معهم واتهامهم رسميا وإحالتهم على محكمة وتلاوة قرار دائرة الإتهام في جلسة علنية. ومن المعلوم أن تلك الإعترافات سجلت بمحلات البوليس السياسي في وزارة الداخلية وخارجها. وقد صرح المتهمون أنها تمت تحت الضغط وأنهم لقنوا ما يقولون. والغريب في الأمر أن المحكمة نفسها عرضت بعض هذه الأشرطة في قاعة الحلسة بطلب من النيابة العمومية العسكرية وسألت المتهمين عنها. إن هذه الممارسة تتعارض مع القانون ومع ضمانات الدفاع لأنها في تناقض مع مبدأ"كل متهم بريء حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع" (المادة 11 من الإعلان العلمي لحقوق الإنسان) ومما يؤكد خطورة هذه الممارسة في قضية الحال أن أحد المتهمين صرح مثلا أنه قدم في التلفزة خلال شهر فيفري 1991 على أنه أحد المشاركين في حادثة باب سويقة إلاّ أن المحكمة برّأت ساحته فيما بعد وطالب بالتعويض المادي والمعنوي على هذه المخالفة المرتكبة في حقه.

حزب العمال ضدّ محاكمات "تصفية الحسابات"

إنّ جميع العناصر التي ذكرناها والتي تحيط بهذه القضية: تعذيب، إيقافات عشوائية، إنتهاك حقوق الدفاع إلى غير ذلك من الانتهاكات تجعل من المحاكمة الحالية لقيادات "حركة النهضة" محاكمة "تصفية حسابات" وحزب العمال يعبر عن احترازه بل رفضه لهذا الصنف من المحاكمات وما أحيطت به من دعاية رسمية.

لكن هل يعني هذا الموقف تواطؤا مع التيار "الاخواني"؟ نحن على يقين أن العديد من الأصوات الانتهازية ستصرخ عاليا بأنّ حزب العمال متواطىء مع "الإخوان". إننا لا نعير أية أهمية لهذه الأصوات. ففي تونس ليس ثمة من بإمكانه أن يعطي حزبنا دروسا في مقاومة الظّلامية والتطرف الديني، فهو الحزب الوحيد الذي قاومها ولا يزال، على أسس مبدئية، بينما لكل طرف من الأطراف التي تزايد اليوم بمقاومة "الظلامية" تاريخها الخاص في التواطؤ معها ونعت حزبنا بالتطرف عندما كان يقاومها، بدءا بالحزب الحاكم الذي نشأ التيار الإخواني من جراء سياسته وتطور في أحضانه ووصولا إلى بعض المثقفين الانتهازيين الذين كانوا البارحة يتمسحون على أعتاب الغنوشي ومورو والعريض ومرورا بمواعدة الذي كان بالأمس لا يترك مناسبة تمرّ دون المطالبة بالاعتراف بـ"حركة النهضة" في حين أنه يلازم الصمت لما يتعرض له مناضلو الحرية من مظالم وها هو اليوم بعد أن "قلب الفيستة" يتواطؤ مع السلطة في العلن في انتهاكها للحريات الفردية والعامة بما في ذلك ضرب الرابطة.

إنّ حزب العمال مثلما يرفض التواطؤ مع "حركة النهضة" في فكرها وممارستها يرفض بنفس الدرجة وبنفس الحزم التواطؤ مع السلطة في انتهاكها لحقوق الإنسان حتى لو كان الضحية "حركة النهضة" عدوّنا الفكري والسياسي وفي هذا الموقف دفاعا لا عن "حركة النهضة" كحركة سياسية، بل دفاعا عن مبدأ نؤمن به وعن كل مواطن وعن كل حركة ديمقراطية يمكن أن تكون عرضة للقمع، بل قل عن كل الشعب وكل الحركات الديمقراطية التي اتخذت السلطة من مقاومة الإرهاب النهضوي ذريعة للاعتداء على حقوقها الأساسية وبسط دكتاتوريتها على كافة مجالات الحياة العامة.

ثم أن حزب العمال لا يؤمن بأن الحلول الأمنية البوليسية كفيلة باجتثاث جذور التطرف الديني في مجتمعنا. بل يؤمن بأن مقاومة هذا التطرف مرتبطة أولا وأساسا بمقاومة جذوره الاجتماعية والسياسية، بمقاومة النظام الإجتماعي والسياسي الذي ولّده. إن البديل عن النظام الحالي المولد للتطرف الديني وعن النظام القروسطي الذي يبشر به هذا التطرف، هو النظام الديمقراطي القائم على العدالة الاجتماعية وعلى الحرية وعلى صيانة الهوية الوطنية ولا شيء غير ذلك.

12 جويلية 1992

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة