هل صحيح أنّ حزب العمّال دعا إلى افتكاك السّلاح من الجيش والبوليس وتوزيعه على الناس؟
هل صحيح أنّ حزب العمّال دعا إلى افتكاك السّلاح من الجيش والبوليس وتوزيعه على الناس؟
في إطار الحملة المسعورة التي يشنها هذه الأيام أعداء الثورة، من "تجمّعيين" وبوليس سياسي ومتورطين مع الدكتاتور المخلوع ونظامه، على حزب العمال الشيوعي التونسي، روّج البعض أن حمّه الهمامي الناطق الرسمي باسم الحزب دعا في تصريح صحفي إلى "افتكاك سلاح الجيش والبوليس وتوزيعه على الشعب". و قد استغلت الأوساط الرسمية مثل هذه الادعاءات لاتهام حزب العمال بالتطرف، ناهيك أن رئيس الحكومة الانتقالية الجديد، باجي قائد السبسي، أعادها في قناة الجزيرة ليلة الجمعة 4 مارس "مستدلا" بها على"اتساع مجال حرية التعبير في تونس الثورة."
ومن الملاحظ أن تلك الادعاءات، قبل أن تصبح تصريحا صحفيا مزعوما لحمه الهمامي، انطلقت من تعمد بعض الأطراف تداول فقرة من البرنامج الاستراتيجي لحزب العمال المقرر في مؤتمره التأسيسي لعام 1986 حول تصور الحزب للتنظيم الذي سيكون عليه الدفاع الشعبي بعد القيام بالثورة والإطاحة بالرجعية وإقامة الجمهورية الديمقراطية الشعبية على أنقاضها. وقد وردت هذه الفقرة على النحو التالي:" الاستعاضة عن قوات البوليس والجيش بالتسليح العام للشعب".
لكن الذين اعتمدوا هذه الفقرة لترويج هذه الاتهامات تعمدوا عزل صياغتها عن إطارها التاريخي وهو البرنامج العام لحزب العمال ولم يشيروا إلى تاريخ الوثيقة التي جاءت بها الفقرة وقدموا الأمر وكأن حزب العمال، بل حمه الهمامي، دعا اليوم وبعد 14 جانفي 2011 إلى افتكاك سلاح الجيش والبوليس وتوزيعه على الناس "كي يتقاتلوا" حسب ما هو وارد في التعاليق. ومن هنا انبرى المناوئون لحزب العمال يتهمونه بـ"التطرف" و"الفوضى" و"محاولة إثارة الفتنة" و"الإرهاب". بل إن بعضهم لم يتورع عن إلصاق أعمال التخريب التي ارتكبتها عصابات إجرامية بتواطؤ من البوليس السياســـــــــي
يومي 26 و 27 فيفري بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة، بحمه الهمامي وعبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل.
إن حزب العمال معتاد على هذه الأساليب التي تعتمد الكذب والتشويه وفبركة التهم والتي شكلت في عهد بن علي طريقة حكم تعكس عجز أصحابها عن الخوض في القضايا الأساسية ومقارعة الحجة بالحجة. و إذا كنا لا نستغرب استمرار البوليس السياسي وبقايا "التجمع" وعناصر استفزازية تتغطى بلباس المعارضة، في استعمال نفس الأساليب، فإن الأغرب هو ما جاء على لسان رئيس الحكومة المؤقتة باجي قائد السبسي، من ترديد لنفس الادعاءات واتهام لطرف سياسي بالمغالاة دون ذكر مصدره.
وقبل الرد على هذه التشويهات نريد توضيح موقف حزب العمال من إعادة تنظيم المؤسستين الأمنية والعسكرية؟
إن موقف حزب العمال من تنظيم قوات الأمن والجيش هو موقف واضح لمن يريد أن يطلع عليه سواء قي الوثائق المكتوبة أو في تصريحات ناطقه الرسمي . فقد اعتبرنا دائما أن نظام الاستبداد في تونس هو دكتاتورية بوليسية أي أن جهاز البوليس وعلى رأسه البوليس السياسي هو الذي يسيطر على كافة أجهزة الدولة وهو الذي يشد بقبضته على الشعب ويخنق أنفاسه لإخضاعه لسلطة الرجعية. وعلى هذا الأساس فإن أي تغيير ثوري ديمقراطي لابد أن يعيد تنظيم الدولة بشكل جذري ومن ثمة إعادة تنظيم الجهاز الأمني دورا ووظيفة ليتلاءم مع النظام الجمهوري الديمقراطي المنشود.
إن هذه النظرة هي التي حدّدت تكتيكات حزب العمّال في موضوع الحال. ففي الوثيقة البرنامجية التي تحمل عنوان "من أجل بديل ديمقراطي وشعبي"، بتاريخ ديسمبر 2004 وهي منشورة في موقع الحزب ومتداولة على الورق، ورد ضمن
المطالب المباشرة للحزب ما يلي:"
- حل جهاز البوليس السياسي وإلغاء سلك الأمن الجامعي.
- إخضاع المؤسستين الأمنية والعسكرية لمراقبة المؤسسة التشريعية(...) حتى لا تفلتا من كل مراقبة وحتى لا تقعا تحت السيطرة المطلقة للسلطة التنفيذية".
و قد تكررت هذه المطالب في العديد من وثائق الحزب الأخرى وكذلك في بيانات و مواقف مشتركة مع قوى سياسية أخرى.
أما الناطق الرسمي باسم الحزب فقد تعرض لنفس الموضوع أكثر من مرة بعد الثورة في مختلف وسائل الإعلام السمعية والبصرية والمكتوبة التي حاورته. ويمكن حوصلة ما جاء في كلامه في أن القطيعة مع الدكتاتورية تقتضي البدء باتخاذ إجراءات مباشرة بشأن قوات الأمن في انتظار إعادة تنظيمها وفق عقيدة أمنية جديدة جمهورية وديمقراطية. فأما الإجراءات المباشرة فتعني:
- حل جهاز البوليس السياسي بمختلف فروعه ومحاسبة المسئولين فيه، أمرا وتنفيذا، عن أعمال التعذيب و القتل و النهب.
- تطهير الأجهزة الأمنية الأخرى من بوليس وحرس وطني و ديوانة من رموز الاستبداد و الفساد.
أما العقيدة الأمنية الجديدة، الجمهورية والديمقراطية، فهي تستند إلى المبادئ والعناصر التالية:
- إن الأمن والاستقرار الحقيقيين لا يتأتيان للمجتمع إلا إذا توفرت لكافة أفراده الحرية والمساهمة في إدارة الشأن العام والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية وما تعنيه من شغل وتعليم وعلاج وضمان اجتماعي وسكن لائق و نقل وبيئة سليمة.
- إن دور قوات الأمن التي ينبغي تخفيض عددها إلى أقل ما يمكن حتى لا تصبح عبئا على الميزانية، هو حماية المواطن وضمان الأمن له وليس حماية أقلية حاكمة.
ـ توفير الحماية لعون الأمن بما يمكنه من الاستناد في أداء وظيفته إلى مرجعية وحيدة هي الدستور والقانون ومن رفض التعليمات المخالفة لهما دون أن يكون عرضة لاضطهاد أو عقاب.
- إخضاع قوات الأمن لمراقبة الهيئات التمثيلية
على المستوى الوطني و الجهوي والمحلي وتشريك هذه الهيئات في اختيار المسؤولين الأمنيين ولم لا انتخابهم مثلما يقع انتخاب المسؤولين المحليين الآخرين.
- إيجاد الصيغ الملائمة لتشريك المواطنين والمواطنات في ضمان الأمن في مدنهم وقراهم وأحيائهم.
أما في خصوص المؤسسة العسكرية فإن حمه الهمامي تعرض لها من زاوية دورها منذ قيام الثورة في "حفظ الأمن" وفي "حماية الممتلكات العامة والخاصة" ودعا إلى ضرورة عودة الجيش إلى ثكناته حالما تنتهي مهمته.
ولكن المؤسسة العسكرية تحتاج هي أيضا إلى إعادة تنظيم لأنها كانت مؤسسة من مؤسسات الدكتاتورية، ولا بد من مقرطتها بالعودة إلى مناقشة وظيفتها ودورها وعلاقتها بالشعب في الدفاع عن الوطن (التنسيق بين الدفاع النظامي التقليدي والدفاع الشعبي في حالات تعرض البلاد لعدوان أجنبي) والعلاقات داخلها خصوصا بين الجنود و ضباط الصف من جهة و كبار الضباط من جهة ثانية.
ومهما يكن من أمر فإن مناقشة دور المؤسستين الأمنية والعسكرية وإعادة تنظيمهما هي جزء من مناقشة طبيعة الجمهورية الديمقراطية التي ننشدها والتي سيقع الجدل فيها بمناسبة الخوض في الدستور الجديد للبلاد.
عودة إلى موضوع "التسليح العام للشعب"
تلك هي إذن المواقف التي عبّر عنها حزب العمال في المدة الأخيرة وهي كما نرى لا تحوي ما روّجه محترفو الكذب والتشويه من دعوة إلى" افتكاك سلاح الجيش والبوليس وتوزيعه على الشعب". و دعنا الآن نعود إلى الفقرة المنتقاة من برنامج الحزب الاستراتيجي و المتعلقة بـ"التسليح العام للشعب".
لقد ظن البعض أنهم بترويج هذه الفقرة، بعد إخراجها من إطارها، قد وضعوا حزب العمال في"الزاوية" و أحرجوه و بينوا أنه حزب "فوضوي" و "غير مسؤول" و"يريد الدفع بالبلاد نحو الهاوية". و لم يشارك في حملة التشويه هذه ضد حزب العمال أعوان البوليس السياسي و"التجمع" و غيرهم من أعداء الثورة فحسب بل انخرطت فيها أيضا بعض "الأقلام" المحسوبة على "المعارضة الديمقراطية والتقدمية" والتي كانت تعمل في ركاب حكومة محمد
الغنوشي.
إن ما نريد أن نوضحه لمن يهتم حقا بحزب العمال ويريد أن يطلع على مواقفه من أبناء الشعب وبناته هو أن القضية التي ناقشها مناضلات الحزب ومناضلوه عند وضع البرنامج العام للحزب ساعة التأسيس هي التالية: كيف يمكن للعمال والكادحين والشعب عامة، بعد تحقيق الثورة والوصول إلى السلطة، التحكم في أجهزة الدولة من إدارة وبوليس وجيش وإعادة تنظيم المجتمع تنظيما ديمقراطيا شاملا وعميقا ؟
إن هذه المعضلة خاض فيها المفكرون والسياسيون الثوريون في كل الثورات وحاولوا تجسيد حلولها في إجراءات عملية لصيانة الثورة و إنقاذها من أعدائها. فجهاز الدولة البيروقراطي في النظام البورجوازي يتغول ويتضخم و"يفلت" من مراقبة المجتمع وينيخ بكلكله عليه و يستهلك القسم الأكبر من موارده ويعرقل نموه الديمقراطي كما يعرقل مشاركة عموم الناس قي إدارة المجتمع.
وقد أجاب المفكرون الثوريون ومنهم ماركس وأنجلس، على هذه المسألة بأن الحل يكمن في انتخاب الموظفين ومراقبتهم وفي "تجزئة" مهام الدولة بما في ذلك مهام الأمن والدفاع، وتوزيعها على المجتمع حتى تصبح تدريجيا شأنا عاما عاديا لا يختص به جهاز طفيلي يستغل وضعه ليفرض نفسه على المجتمع.
وبالطبع فإن كل هذا لا يمكن تحقيقه إلا في مناخ اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي جديد يكون التضاد الطبقي قد زال منه وأخذت الأمور تتدرج فيه نحو ذوبان الدولة ذاتها ومعها السياسة لتحل مرحلة جديدة يتم فيها "تعويض حكم الناس بإدارة الأشياء وقيادة الإنتاج". كما لا يمكن تحقيقه إلا في ظل تحولات دولية لفائدة العمال والشعوب إذ أنه لا يمكن التخلي، في ظروف سيطرة الامبريالية على مصائر العالم، عن جيش منظم ومسلح بشكل جيد مع المزج بين هذا النمط من الدفاع وبين أساليب الدفاع الشعبي بل وتحويل الجيش النظامي ذاته إلى جزء لا يتجزأ من الشعب، إلى طليعته الدفاعية.
إن أعداء الثورة والرجعيين بشكل عام لا يتصورون من تنظيم للمجتمع إلا على النحو القائم حاليا وبعبارة أخرى فإنهم لا يتصورون مجتمعا دون جهاز بيروقراطي ضخم ودون بوليس وجيش وقمع،
وإلى ذلك فإنهم لا يرون في الشعب سوى حفنة من "الرعاع" أو "الهمج" الذين ينبغي التحكم فيهم بواسطة "الأجهزة" لأنهم إذا ما تركوا لوحدهم أو مكنوا من السلاح استعملوه، حسب هؤلاء التافهين وضيقي الأفق، ليتقاتلوا. وهذا هراء لتبرير سيطرة تلك "الأجهزة" على العمال والكادحين.
لقد بينت مختلف التجارب الثورية أن الشعوب حين تأخذ السلاح بشكل واع ومنظم تستعمله لا لتتقاتل بل لكي تحرر نفسها من جلاديها ومضطهديها، محليين وأجانب. ولولا الكفاح المسلح لما تمكنت حركات التحرر الوطني من التخلص من الاستعمار. ومهما يكن من أمر لا يمكن لأي طرف كائن ما كان أن يسلب الشعوب حق الدفاع عن نفسها بما في ذلك عن طريق الكفاح المسلح إذا فرض عليها ذلك سواء من قوى استعمارية خارجية ( فلسطين...) أو قوى رجعية داخلية (ليبيا ...).
وفي تونس فإن حزب العمال مثله مثل أحزاب المعارضة الديمقراطية الأخرى اكتفى في مواجهة الدكتاتورية بالنضال السلمي للحفاظ على جماهيرية الثورة ونجاحها ولم يدع قط إلى أي عمل عنيف أو إرهابي. إن مصدر العنف والإرهاب والتقتيل والحرق وتغذية النعرات الجهوية والقبلية وما انجر عنها من أعمال همجية يقف وراءها طرف واحد هو نظام بن علي وبقاياه وأجهزته المتمثلة في البوليس السياسي وأعوان وزارة الداخلية والقناصة والميليشيات "التجمعية" وميليشيات العائلة الحاكمة.
أما الحكومة الحالية فإنها لم تتخذ إلى حد الآن أي إجراءات جدية لمحاسبة ومحاكمة القتلة والمخربين. وفي نفس الوقت يتسلى البعض بترويج اتهامات التطرف ضد حزب العمال. والحقيقة أن هؤلاء هم الذين يدعمون سياسة "عفا الله عما سلف" وغض الطرف عن العنف الذي تعرض له شعب تونس وشبابها. وما الدعوة إلى التحريض على حزب العمال والقوى الثورية إلا دعوة لتواصل سياسة العنف وإعطاء المبررات للبوليس السياسي للعودة إلى نهج القمع والاستبداد. ولكن هذا السلوك سيكون مآله الفشل ولن يجدي أصحابه نفعا.
هيئة تحرير "صوت الشعب" مارس 2011
تعليقات
إرسال تعليق