العلمانية مفهوما وتاريخا وراهنية
1 - لماذا العودة إلى طرح العلمانية ؟
نسعى في ما يلي إلى إعادة طرح موضوع العَلمانيّة على بساط التعريف وبيان المفهوم والمضمون والتطوّر ونبدأ بالوقوف على الدّوافع التي تدفع اليوم إلى معاودة النظر في العلمانيّة، والتي نلخصها في أمرين أوّلهما الغموض الذي عاد من جديد كي يلفّ العَلمانيّة ويجعل لها صورة محرّفة ومشوّهة عند الشباب وبين أفراد المجتمع عامّة، صورة ما انفكّ دعاة الانغلاق والتعصّب واستعباد الأرواح والأبدان يعملون على ترويجها ويمعنون في إخفاء حقيقتها، فإذا بالعلمانيّة حسب زعمهم "مفهوم غريب ودخيل وملحد وفاسد". أمّا الأمر الثاني الذي دعانا إلى التذكير بالعلمانيّة ونفض الغبار عنها وإجلاء صورتها وإظهار حقيقتها فهو الظروف والأوضاع الرّاهنة التي يمرّ بها العرب والمسلمون والحروب الطائفيّة والدّينيّة التي تجري مقدّماتها في العراق وتتهدّد باقي البلاد العربيّة والإسلامية وتمتدّ شظاياها إلى بلاد أخرى كثيرة شرقا وغربا حتّى لكأنّ العالم يوشك أن يغرق في عتمة "قرون وسطى" جديدة، ممّا حتم على حمَلة الأنوار وعلى التقدّميّين والأحرار في بلادنا العربيّة والإسلامية أوّلا، وفي سائر أرجاء المعمورة ثانيا التنبّه إلى خطورة التيّار وإلى العمل على إحياء القيم المدنيّة الكبرى والبحث عن قارب النجاة من طوفان الدّم الطائفي والعنصري الذي بات يحصد أرواح الآلاف في بلد كالعراق، بعد أن سلّمه المحتلّ الأمريكي-الغربي إلى "المرجعيّات" الدينيّة ورؤساء الطوائف والعشائر العملاء.
إنّ الكتابات الصّادرة، منذ ما يزيد على القرن، بل منذ عصر النهضة الأوروبيّة ثمّ الثورة الفرنسيّة وغير الفرنسيّة ليست هي التي تعوز القارئ والباحث والرّاغب في الاطلاع والتثقّف، وهي كتابات بمختلف اللغات لمفكرين وقادة سياسيّين، لأنصار الفكرة ومناهضيها، لمن تولّى بلورتهــا النّظريّة ولمن مارسها على أرض الواقع. وفي هذا السّياق كان للمهتمّين العرب والمسلمين بالمسألة إسهام ذو بال تناول العلمانيّة من جوانبها المختلفة. وقبل أكثر من عشرين عاما شهدت السّاحة الفكريّة والثقافيّة والسّياسيّة بتونس حراكا أتاحته الفجوة التي تلت أحداث قفصة 1980 وانقلاب 7 نوفمبر 1987 والتي سرعان ما أصبحت ذكرى، وتجسّد في تلك النقاشات والسّجالات الواسعة حول أمّهات الملفّات الشاغلة بال النخبة والمجتمع، بين المشروع المدني الدّيمقراطي ومشروع الدّولة الدّينيّة، وكان لا بدّ أن تكون العلمانيّة (أو اللائكيّة بعبارة تلك السّاعة) في قلب المواضيع المطروحة واتسعت منابر عديدة (الدّوريّة الفكريّة "أطروحات" خاصّة) لطرح تلك الملفّات واحتضان مادّة المطارحات.وقد أثمر الجدل حول "اللائكيّة" والدّولة الدّينيّة مادّة جديرة بالجمع والنشر لم يجمع منها وينشر – فيما نعلم - سوى كتاب "في اللائكيّة" لحمّه الهمّامي، لكن هذا التأليف على قيمته الوثائقيّة وقيمة الرّؤية التنويريّة والتقدّميّة التي قادته، يبقى متأثرا بظروف السّجال التي ولّدته، ومعنى ذلك أنّه أثر نظري يتوفر على قيمة عمليّة من كونه نتاج مواجهة لأسئلة الواقع ومجابهة للأضداد، لكن مهمّته لم تكن تثقيفيّة بالمعنى المدرسي والتكويني الذي نحتاج اليوم إليه، ولا يمكن أن تسدّ مسدَّ المراجع الأساسيّة المطلوبة في الموضوع. ولعلّ من الآثار الإيجابيّة لتلك النقاشات التي قابلت بين الرّؤى والمشاريع في الثمانينات والتسعينات حول صورة المجتمع التّونسي المنشود، ما تمّ على صعيد الجامعة من اهتمام بعض دوائر البحث والباحثين في الحضارة وعلم الاجتماع بالموضوع ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى العمل الذي أنجزه الأستاذ فتحي القاسمي في إطار المرحلة الثالثة تحت عنوان "العلمانيّة وطلائعها في مصر" والذي لم يتسنّ له أن ينشره كاملا غير مبتور إلا بمصر سنة 1999. هذا الكتاب ثمرة بحث وتقصّ، ويضمّ حصيلة نظر صاحبه في نشأة العلمانيّة وتطوّرها وطروحها العربيّة والإسلاميّة والأطراف المتقابلة عليها وبالتالي فإنّ الكتاب يكتسي أهمّيّة تثقيفيّة رغم ما نختلف فيه معه حول نظرته التي نراها تحتاج أحيانا إلى تعديل حتّى يقع إنصاف العلمانيّة من غلاة خصومها دون تردّد أو احتشام.
أمّا الملابسات التي تحفّ اليوم بإعادة العلمانيّة إلى دائرة الضوء فلا أحد يجهلها أو يحقّ له أن يتجاهلها، بل لعله لم تكن الحاجة إلى الحلّ العلماني ماسّة في البلاد العربيّة مثلما هي الآن، وهذه البلاد تقف على بركان الحروب الطائفيّة والدّينيّة، فضلا عن مخاطر صعود تيّارات دينيّة متطرّفة لا تميّز بين الدّين والسّياسة، وفضلا عن استغلال الأنظمة الحاكمة للدّين في خطابها الانتخابي وفي محاربة المعارضة الدّيمقراطيّة. وقد دلّت التّجربة على أنّ التشويه لا يأتي إلى العلمانيّة من خصومها الموجودين داخل الحكم وخارجه فحسب، بل كذلك من بعض "المدافعين" عنها مثلما يحدث أن يشاهد النظارة في بعض القنوات العربيّة، حين يتولّى الدّفاع لسان الامبريالية والصّهيونيّة فيبدو لمن يجهل حقيقة العلمانيّة كأن كلام أعدائها هو الصّواب، أو مثلما نسمع ونرى أحيانا في بلادنا حين يصبح بعض "أصوليّي العلمانيّة" حلفاء للدّكتاتوريّة تحت غطاء "مقاومة الظلاميّة" فإذا به متواطئ معها أو مبرّر لقمعها وفسادها وعمالتها.
ولذا سنسعى إلى تقديم مادّة تعريفيّة وتاريخيّة ونبدأ بتدقيق المصطلح وإيضاح العلاقة بين العَلمانيّة (بفتح العين" والعِلمانيّة (بكسر العين) واللائكيّة، هذا الثالوث الجاري على ألسنة النّاس والذي كثيرا ما يختلط أمره عند أغلبيّتهم.
2 - في التسمية
يتداول المتكلمون في كلامهم اليومي كما يتداول الباحثون المتخصصون في كتاباتهم أكثر من مصطلح لتسمية ما نسميه بالعلمانية. فهم حينا يستخدمون العَلمانية (بفتح العين) وحينا العِلمانية (بكسر العين) وحينا آخر اللائكية من الأصل الفرنسي Laïcité. وإن كانت الصيغة الأولى أقل هذه الصيغ رواجا رغم كونها تبدو الأصح والأنسب مثلما سنبين ذلك لاحقا.
وقد اختلف المترجمون والدارسون في التسمية اختلافهم في المفهوم الدقيق. اختلفوا بين العلمانية (بفتح العين) والعلمانية (بكسر العين) واللائكية وتباينت آرائهم حين أرادوا الاتفاق على تعريف موحد لهذا المتصور، ونحن نسعى إلى عرض مختصر لهذا الجدل الذي دار ويدور حول المسألة عسانا نخرج بما نراه الرأي الأصوب، حتى يقع تجاوز عتبة الموضوع نحو الجوهر الذي هو حقيقة العلمانية ولبها النافع، علما وأن خصومها وأعداءها أسهموا دائما في الإبقاء على التباس مفهومها بل وفي الترويج لمفاهيم هي براء منها، مما يستوجب التصحيح والتوضيح، وإزالة الشُّحن العقدية والذاتية التي تحجب الرؤية الموضوعية وتحُول دون المعرفة، وتهدف إلى التشويه. أول ما نريد الإشارة إليه هو أن هذه المصطلحات نشأت في فضاء الثقافة الغربية، فكانت التسميات الأولى من نصيب أهل المواليد. ومثل هذا المنشأ لا ينفي طبعا الطابع الإنساني عن الأفكار. فالعَلمانية (بفتح العين) يقابلها في اللسان الفرنسي sécularisme والعلمانية (بكسر العين) scientisme واللائكية Laïcité.
أما العَلمانية (بفتح العين) فتعود إلى أصلٍ هو العَالم (بفتح اللام) الدنيوي، ومنها العلمنة sécularisation من علمن séculariser ذي الجذر اللاتيني بمعنى siècle (قرن) إذن دلالة الزمان الواقعي، والحياة الوضعية. وتتفق العَلمانية (بفتح العين) والعِلمانية (بكسر العين) في الوقوف على أرضية التطور العلمي والترقي الذهني للإنسان، وإذا كانت الأولى مفهوما قديما عريقا على صلة بالمنازع الفلسفية المادية وبمسار السيطرة على الطبيعة واكتشاف قوانينها وتسخيرها لخدمة البشر، فإن الثانية لم تزدها إلا رسوخا بما تحقق للعلوم من فتوح متتالية قلصت سلطان الجهل وأتاحت إحاطة أكبر بظواهر الكون وفهما أعمق للأديان وعقلية أوسع لإدارة شؤون الاجتماع البشري.
وتعود اللائكية إلى الأصل اللاتيني "لايكوس" laikos بمعنى ما هو من مشمولات أنظار الشعب لا أنظار رجال الدين (الإكليروس) وما هو مستقل عن الهيئات الدينية (دولة لائكية، قضاء لائكي، تعليم لائكي... أي منظم وفق قواعد اللائكية وقيمها مع وجوب ملازمة الحياد على الصعيد العقيدي).
وحسب ما انتهى إليه الباحث فتحي القاسمي في أطروحته "العَلمانية وطلائعها في مصر" فإن اللائكية تجسم الجانب العملي والسياسي للعلمانية" وأنها "أصبحت في القرن التاسع عشر تيارا فكريا قويا وموجة ذهنية نشيطة استقطبت الاهتمام وأصبحت لها نواديها ومؤلفوها المدافعون عنها" (ص35).
وتاريخ اللائكية هو تاريخ صراعها ضد الكنيسة من أجل رفع وصايتها على الأرواح والأبدان وفرض احترام حرية المعتقد وحرية الفكر عملا على تكريس ما ورد في إعلان حقوق الإنسان الذي أفرزته حركة النهضة والتنوير وتوجته الثورة الظافرة في فرنسا. واستمر التيار اللائكي هناك يرسخ مبادئ الحرية السياسية والشخصية ويعمل على علمنة السلطة، الأمر الذي لم يكتمل دستوريا إلا في أواسط القرن الماضي، ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان غداة الحرب العالمية الثانية كي يدعم هذا التيار. وكثيرا ما تم الخلط بين العَلمانية واللائكية حتى عند الباحثين وذلك نظرا إلى كون الثانية اتخذت شكل الأولى أحيانا، وبعضهم استخدم "الحيادية" و"التسامح" بدل اللائكية. وبينوا أنها مذهب عقلاني يقول باستقلالية الدولة عن المسلمات الغيبية. ويستخلص القاسمي من التعاريف التي استعرضها ومن المسار التاريخي الذي عرفته اللائكية أن الهدف كان "جعل الإنسان المسؤول الأول والأخير أمام مصيره في الدنيا. وأن التدين أمر لا يهم إلا صاحبه، وثمة قانون يخضع له الجميع منذ ولادة كل فرد، فلا فرق بين متدين وغير متدين..."(ص39) إذن فهي لا تعني الفصل بين الدين والسياسة فحسب وإن كان ذلك هو حجر الزاوية لأن بقية الإجراءات استتباعية متولدة عن الفصل بين الدين والدولة، بين الشأن العقـَدي الذي يُحل فرديا والشأن السياسي الذي يُحتكم فيه إلى المجموعة.
وفي المحصّلة قد يبدو النقاش حول التسمية من قبيل الترف خصوصا والفرق بين تسمية وأخرى لا يتجاوز حركة (فتح العين أو كسرها). واعتقادنا أن الحياة، أي الاستعمال المطرد، بصدد انتخاب التسمية المناسبة صوتيا (سهلة التداول) ودلاليا (حمّالة المعنى المراد) وثقافيا (ذات الأصل في اللسان العربي) وقد تكون "العلمانية" (بكسر العين أو بفتحها) هي الحل، والتجربة كفيلة بفرض الكسر أو الفتح حين يصبح مشروع العلمنة (أو الأليكة) مطروحا على جدول الأعمال والأقوال في المجتمع وحين يقع تجاوز حلقات المثقفين المتخصصين علميا أو سياسيا. إن الحراك الفكري والسياسي والاجتماعي هو الذي يفرز مصطلحاته وتسمياته، لا النقاش المجرد والنظر الذهني الصرف.
3 - شيء من التاريخ :
ونعود إلى العلمانية، بعد حديث المقدمات والتسميات، كي نقف على مسار نشأة الفكرة ونموها وتطورها واتساع نفوذها، حتى لا يتصور أحد أن العلمانية كانت مجرد شطحة فكرية أو -كما لا يزال خصومها المتزمتون يرددون بين الفينة والأخرى في بعض الفضائيات- مجرد بدعة.
لقد عرفت العلمانية مخاضا طويلا في رحم المجتمعات الغربية التي كانت تعيش حراكها التاريخي المعروف وتستيقظ من سبات القرون الوسطى وتدخل عصر الأنوار والثورات الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية، وتبحث عن الأسس والقواعد المتينة التي تكفل لها بناء نفسها وإقامة الأنظمة التي يتعايش في ظلها البشر مهما شطت بهم الأجناس والأعراق والأديان والألوان.
لم تعرف المجتمعات قبل ظهور النظام العلماني العلمانية لكنها عرفت – في فترات ازدهارها الحضاري- مظاهر من التحرر الفكري والتسامح الديني والنفوذ العقلي يمكن اعتبارها بمثابة المقدمات التي انتهت في العصر الحديث إلى وعي العلمانية وإقرارها ركنا من أركان النظام الديمقراطي.
والناظر في التاريخ، وتحديدا هناك حيث تبلورت فكرة العلمانية وشهدت نضجها وتقنينها دستوريا وتطبيقها، يقف على دور التطور العلمي والاجتماعي الذي عاشته مجتمعات الثورة الصناعية، في هذه العملية، خلال القرون الثلاثة الماضية، وخاصة منها التاسع عشر وما كان للثورة الفرنسية (1789) والثورات الاجتماعية المتلاحقة، داخل فرنسا وفي المراكز الأروبية الكبرى (انجلترا، ألمانيا، إيطاليا...) التي قادتها البورجوازية ضد النظام الإقطاعي الذي كانت الكنيسة سنده في تعطيله لعجلة التقدم، ويقف أيضا على الدور الذي يعود إلى الصراع داخل الكنيسة نفسها بين الجمود ونزعة التطور، تحت تأثير الكشوف العلمية والثورة الاجتماعية.
ولسنا في حاجة إلى إعادة عرض المحطات الكبرى التي عرفها تاريخ المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة، وسرد قائمة الأعلام الذين أضاءوا طريق المعرفة بالقلم والاختراع والاكتشاف منذ أن قال فولتير ما معناه:" لننشغل بخدمة حديقتنا" وما يعنيه ذلك من انصراف إلى العمل والعمل على تسخير الطبيعة والارتقاء بنوعية الحياة، وما معناه: "قد أختلف معك في الرأي لكني مستعد كي أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك" بما يعني ذلك من رفع ليد القوى المتسلطة والمكبلة (الكهنوت، الإقطاع...) عن الإنسان حتى يتسنى له أن يحقق إنسانيته ويتمتع بالمواطنة، ويفتق مواهبه المخبوءة وطاقاته المطموسة، فوق الأرض.
لقد غيرت الثورة الصناعية وبروز قوى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية - التقدمية مقارنة بالنمط الإقطاعي- أسلوب الحياة التقليدي وقلصت من نفوذ الجماعة على الفرد وأطلقت النزعة الاستقلالية والإرادة الفردية من عقالها، وأحدثت نقلة في مستوى النظرة والعلاقات، وسلّم القيم. ثم جاء المشروع الاشتراكي الذي أعطى نفسا إضافيا لتيار العلمنة وارتقى نظريا وسياسيا بالطرح العلماني حين رسخ حرية المعتقد واعتبر التدين مسألة شخصية لا دخل للدولة فيها، ففصل فصلا واضحا وحاسما بين السياسة والدين ومنع تديينها وتسييسه، وعمل على محاربة الاستغلال والفاقة المادية والمعنوية وسائر الآفات التي من شأنها دفع الناس إلى الإغراق في الماورائيات والانصراف عن إرادة الحياة.
والتحولات الاجتماعية الناهضة على قاعدة الثورة الصناعية إنما هيأت لها ورافقتها حركة فكرية وفتوح علمية ردت سلطان الجهل على أعقابه ومكنت من ترويض الطبيعة والمسك بزمام القوانين التي تحكمها، فضلا عن إدراك القوانين التي تحكم تطور المجتمع البشري، وفي مقدمتها قانون الصراع الطبقي، بعد النقلة النوعية في علم الفلسفة وعلم الاجتماع المحققة على يد الماركسية. وتجسدت العلمانية بتماسك خلال التجربة الاشتراكية الأولى في كافة مجالات الحياة العامة، رغم الغلو البيروقراطي والممارسات القسرية أحيانا، والغريبة عن جوهر الخط العلماني في سياسة الدولة الاشتراكية، وذلك نتيجة الخلط بين الموقف الفلسفي والموقف السياسي من الدين.
وقد راهن العلمانيون على المدرسة في إنجاح المشروع، فنادوا بعلمنة –أو أليكة- التعليم الذي بنوه على شعارات ثلاثة من شأنها أن تفتحه أمام العموم، ألا وهي :
مجانية التعليم
إلزامية التعليم
لائكية التعليم
وشهدت المدرسة الفرنسية تطبيق هذه السياسة التي ما إن وصل الاشتراكيون عن طريق "كومونة باريس" إلى الحكم حتى سارعوا بتكريسها. وكانت العلمانية تمثل الاتجاه الرسمي للدولة في ظل الجمهورية الثالثة بفرنسا على امتداد 70 عاما من حياتها (1870 - 1940) وكانت القوانين الخاصة بعلمنة المدرسة الفرنسية قد بدأت في الصدور منذ أواسط القرن 19. لكن رياح العلمنة كانت تهب منذ القرن 18 وعلى إثر الثورة (1789) خاصة حين تم إعلان حقوق الإنسان الذي كرس إرادة التحرر من الهيمنة الدينية والسياسية، والذي خصص البند الثامن عشر لاعتبار الاعتقاد مسألة شخصية تلقائية لا يفرضها جهاز، فضلا عن تحريم الرق والمساواة في الحقوق وجعل التعليم حقا مجانيا. ثم جاء قانون 1790 الذي ألغى الأوامر الدينية (فيما يتصل بالدولة) ورفض نابليون بونابرت وهو يعتلي عرش فرنسا أن يتولى البابا وضع تاجه. وتم في 1905 صدور القرار القاضي بالفصل بين الكنيسة والدولة، كما تم قطع العلاقات الديبلوماسية مع البابا. إلا أن الكنيسة كانت تسعى بدورها إلى تليين مواقفها والتكيف مع كثير من المفاهيم الحديثة حتى جاء الوقت الذي أقرت فيه بأهمية الديمقراطية الليبرالية وبالمؤسسات الديمقراطية رغم عدم تخليها عن مناهضة التيار العلماني، وظهرت الأحزاب "الديمقراطية المسيحية" وتعززت نزعة التمرد داخل الكنيسة ضد الكهنوت المتحجر.
وفي حلقة قادمة نواصل رصد العوامل التاريخية التي أفضت إلى تثبيت العلمانية ركنا من أركان النظام الديمقراطي الحديث، قبل أن نخلص إلى رصد الفكرة العلمانية عبر إرهاصاتها المبكرة في التراث العربي الإسلامي.
4 - الفكرة العلمانية وليدة التطور والارتقاء
إن العلمانية نتاج تطور تاريخي وسيرورة حضارية عرفهما المجتمع الإنساني في أكثر ربوعه المعاصرة نضجا واستعدادا لنشوء الفكرة وتقبلها. ومثل سائر الأفكار الكبيرة في العالم سواء أكانت شرقية أم غربية، يونانية أم هندية أو عربية أو فارسية أو فرنسية أم ألمانية أم انجليزية أم روسية أم صينية أم غيرها، فهي تدخل ضمن الرصيد المعرفي الإنساني وتعدو صالحة للتعميم ما دامت تخدم مشروع التحرر والانعتاق وتسهم في رفع كابوس الظلم والاضطهاد، سواء تم باسم الله أو باسم "عبد الله".
والعلمانية شأنها شأن الديمقراطية والاشتراكية قيمة إنسانية عابرة للقارات والأجناس والجنسيات، فمن الخطإ ومن سوء النظر القول بأنها نبتة غريبة لأنّها غربية المنشإ، وحلّ لا يصلح إلا للمجتمعات ذات الديانة المسيحية، وكأن استغلال الدين لإضفاء الشرعية على استعباد الناس خاص بأهل هذه الديانة. قول مردود من عدة نواح أخرى لعل أكثرها إقناعا أن المجتمع البشري شرقا أو غربا، وبقطع النظر عن الخصوصيات، يخضع في تطوره لقانون عام، ما دام مجتمعا طبقيا والإنسان فيه يستغل الإنسان ويمكر به من أجل سلبه ونهبه وقهره. والمكر يلبس لبوس الدين كما يلبس لبوس حقوق الإنسان عند الأمريكان وحلفائهم. إضافة إلى ذلك فإن الحضارة العربية الإسلامية لم تخل في حقب ازدهارها من خمائر المنزع العقلي والنزعة المادية التي قلصت من سلطان الدين على السياسية والمجتمع، تحت ضغط "أحوال الوقت"ومقتضيات الواقع التي تفرض مراعاتها، وتكون بذلك قد ساهمت ولو عن بعد في دفع التطور نحو اكتمال الفكرة العلمانية. وهذا موضوع يحتاج عودة. ومما يؤكد عالمية هذه الفكرة وحيويتها في علاج أورام مجتمعاتنا الراهنة ما يشاهد اليوم وبالحجم المكبر، من وبال الاقتتال بين الطوائف الدينية في عديد البلدان الإسلامية، جراء تواصل الخلط بين الدين والسياسة، وتسليط السماء على الأرض، والاحتكام إلى الشرع في الشأن الوضعي، بل ما يشاهد أيضا، وفوق ذلك، من تفشي الخرافة و"العرافة"، وانتشار "البدع" التي لا علاقة لها بالدين وإن هي نبتت على أرضيته وأرضية استغلاله في المآرب الشخصية والسياسية. إن العلمانية في شكلها المكتمل (نسبيا) كانت وليدة الثورات التي حققت القطيعة مع الذهنية القروسطية، وهي ثورات علمية وصناعية وسياسية واجتماعية وثقافية وفكرية، ضد الإقطاع والقنانة والكهنوت المتأله، والجهل المتغطرس. وكان لا بد للثورة التي تمت على أسوار "قرن الأنوار" (الثامن عشر ميلادي) واضطلع فيها الفلاسفة والمفكرون والعلماء والأدباء والفنانون بدور الممهد، أن تفضي إلى علمنة المجتمع، ووضع حد للتسلط الكنسي على الأبدان والأرواح والضمائر، وأن تثمر ثمرة العلمانية التي حققت الإنجاز الكبير التالي: حفظ الدين من التوظيف السياسي وحفظ السياسة من التحريف الديني، والتفريق بين هذه باعتبارها شأنا جمعيا تعاقديا، وذلك باعتباره شأنا فكريا تعبديا.
لم تكن العلمانية إذن فكرة مجردة مفصولة عن التاريخ، وعن التطور العلمي والتقني، والاكتشافات والاختراعات والسيطرة على الطبيعة، والتصنيع، وصراع الطبقات، والثورة البرجوازية، والثورة العمالية، ولذا فهي لم تتشكل على نحو متطور ولم تحظ بالتطبيق (رغم التردد، والتفاوت، والانتكـاس، والثورة المضادة) إلا حديثا وهناك حيث الأوضاع ناضجة لتقبلها، وقد باتت ركنا أساسيا من أركان البنيان الديمقراطي، وشرطا جوهريا من الشروط الضامنة لحقوق الإنسان والمواطنة. وفي ظل غيابها تسود أنظمة الاستبداد وتستفحل الطائفية والقتل على الهوية، وعلى الشبهة، يكفر الأحرار والمعارضون في الحملات الانتخابية، وتجيش "العامة" ضد أهل الفكر والرأي، المرشوقين بـ"الزندقة" و"الإلحاد" بل وضد أصحاب الديانات الأخرى، والمذاهب والطوائف المخالفة ووضعهم تحت طائلة التكفير.
وإذا كانت النهضة العلمية والحضارية حاضنة الفكرة العلمانية في المجتمع الغربي فإن ذلك لم يتحقق إلا عبر صراع مرير بين قوى التقدم والتنوير المحمولة طبقيا على أعناق التشكيلة الاجتماعية الصاعدة (البرجوازية زمن ثوريتها) وقوى الشد إلى الوراء المتمترسة بترسانة القيم الإقطاعية والعبودية، والحاكمة باسم الحق الإلهي.
5 - الفكرة العلمانية والحضارة العربية
الفكرة العلمانية وليدة التطور التاريخي الذي شهده المجتمع البشري ونتاج تحولات تاريخية أكدت حاجة البشر إلى إدارة شؤون الاجتماع والسياسة بأدوات وآليات عقلانية وأرضية وبالتعاقد الذي يقع الاتفاق عليه دون تدخل أي قوة متعالية. وكانت الثورة البورجوازية القائمة على نمط الإنتاج الرأسمالي وبنيته الفكرية والثقافية والقيمية هي التي آذنت بوجوب رفع القيود المادية والمعنوية المكبلة للإنسان بما فيها القيود التي فرضتها المؤسسة الدينية وضرورة إقرار حرية المعتقد والنظر إلى الدين باعتباره شأنا شخصيا ومسألة خاصة تحسم بين الإنسان ومعبوده، ولا دخل لأحد فيها، جماعة كان أو فردا. ولقد نكصت البورجوازية بعد ذلك كما هو معروف وغلبت عليها، وهي تنزع منزع القوة الرجعية المحافظة، نزعة استغلال الدين لصالحها واستحضار أرواح العالم القديم أملا في تأبيد نفوذها وكبح جماح القوى الصاعدة التي تهدد بتجاوزها.
أما علاقة الفكرة العلمانية بالثقافة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل فهي لا تحتاج إلى دليل رغم وجود من ينفيها ويزعم - بناء على نفيها- أن مجد الحضارة العربية الإسلامية قام على أسس ودعائم دينية.
لكن الإقرار بوجود الفكرة وتأثيرها في مجرى تطور هذه الحضارة وفي منح لحظات إشعاعها وقوتها ليس من شأنه أن يدعو إلى القول بأن تلك الفكرة كانت متبلورة ومكتملة منذ البدء لأن الأمر كان أقرب إلى التحسس وينبغي أن ينتظر نضج المعطيات واستعداد البيئة الحاضنة وصعود التركيبة الاجتماعية الحاملة كي يتشكل في رؤية واعية وهو ما تم إبان الثورة البورجوازية قبل قرون من الآن. لقد تحسس المتعقلون والمتنورون وأهل الرأي والاجتهاد من بُناة الحضـارة العربية قيمة الفصل بين الشأن الديني والشأن الدنيوي حتى يستوي أمر المدينة المنشودة وسوغوا ذلك، في ظل النظام الإقطاعي وإيديولوجيته الدينية، بذرائع وحيل مثل "مراعاة أسباب النزول" و"مراعاة أحوال الوقت" و"الحيل الشرعية" و"دفع المضار" إلخ.. وغالبا ما مورست القناعات ذات النسغ العلماني من دون تبريرات نظرية سوى ما كان من قبيل الخطرات والتلويحات سواء تم ذلك في ميدان العلوم أو الأدب أو الاجتماع أو السياسة. ونريد أن نستدل على دور المنظور العلماني في تطور الحضارة العربية الإسلامية بما بلغته هذه إبان العصر الوسيط، الذي كان ظلاما على أوروبا والغرب (بعد استثناء إسبانيا الأندلسية). وبالعودة إلى تراث الحركة الماركسية التونسية الحديثة نفسه في سنوات الثمانين من القرن الماضي وإلى المساحات التي قابلتها بالحركة الأصولية حول موضوع الدين والدولة، وقضية المرأة، نقرأ في سياق الحديث عن العلمانية وفضائلها ما يلي، وهو من صميم مضمون هذه الحلقة: "ينبغي البحث عن سر تطور الحضارة العربية إبان العصر الوسيط لا في الإيديولوجيا الدينية نفسها ولكن أولا وقبل كل شيء في الواقع المادي للعرب الذين انتقلوا نهائيا مع مجيء الإسلام إلى المجتمع الطبقي وشهدوا منذ الدولة الأموية تركز النظام الإقطاعي (...) وإذا أمعنا النظر في الجانب الفكري لهذا التطور الحضاري فإننا نجد أن المنطلقات التي ارتكز عليها هي في تناقض مع الإيديولوجيا الدينية الإسلامية القائمة على تفسير ميتافزيقي للكون والمجتمع. إن أهم عنصر فلسفي تطور في هذه الفترة وحكم بالتالي تطور العلوم والثقافة هو العقلانية المبنية على بعض التصورات المادية. وكمثال على ذلك نذكر المعتزلة وابن سينا والمعري وابن رشد لقربهم من أذهان القراء. فالمعتزلة هم أصحاب نظرية القدرية (نسبة إلى القدرة لا إلى القدر) التي تؤمن بحرية إرادة الإنسان ضد الجبرية الإيديولوجية الإسلامية في ذلك الوقت (...) أما المعري فالجميع يعلم أنه اعتـبر ذات خطرة أن "لا إمام سوى العقل..."(...) وطور ابن رشد العناصر المادية في فكر أرسطو فأكد أن المادة والحركة خالدان ولم يقع خلقهما كما أنكر خلود الروح والحياة الآخرة (...) ومن جهة أخرى طور ابن سينا المعارف التجريبية القائمة على التجربة والملاحظة والحجة المنطقية (...). إن الخيط الرابط بين جميع هذه المواقف هو الصراع بين الفكر المادي والفكر المثالي الذي يجسمه الفكر الديني أجلى تجسيم. وقد شق هذا النزاع حتى المعارف اللغوية فانقسم اللغويون إلى قسمين: القائلون بأن اللغة ظاهرة اجتماعية تاريخية وبالتالي من صنع البشر والقائلون بقدمها وبكونها من خلق الله. إن جميع هذه العناصر المادية العقلانية هي في الحقيقة الأساس الفلسفي لذلك التطور الحضاري الذي عرفه العرب في العصر الوسيط وفي ظل الهيمنة الإقطاعية. وما أن استنفذ النظام الإقطاعي إمكانياته التاريخية حتى دخل بدوره في أزمة خانقة...". (في اللائكية، حمه الهمامي، 1988، ص59 – 61).
تعمدنا إطالة الشاهد الذي يستجيب لحاجة هذا المقال والذي يذكر بما سبق من إسهامنا الفكري في القضايا التي نراها تعود عودا على بدء اليوم، وإن كان الشاهد يبقى مقتضبا ومجملا ولا يغني من العودة إلى الكتاب، فأمثلة التمشي العقلاني والرؤى "العلمانية" كثيرة في التراث العربي الإسلامي وفي الممارسة الواقعية سواء تعلق ذلك بسياسة الساسة أو بأدب الأدباء ونقد النقاد وقضاء القضاة أو بغيره، حيث كان يوجد من يعتبر هذه الأنشطة "الدنيوية" بمعزل عن الدين، وأن تديينها لا يزيدها فضيلة على سواها. وأمام الراغب في التوسع والتزود جهود جمة عربية وتونسية، داخل الجامعات وخارجها، لباحثين حرصوا، وإن بتفاوت ومن مواقع ومنطلقات غير متجانسة، على الاقتراب من الحقيقة وإصابة الموضوعية في قراءة ومعرفة التاريخ وإعادة فتح الملفات المحنطة ومعرفة أسباب التطور وعلله وأسراره.
6 - العلمانية سبيل الخلاص من آفة الطائفية والتكفير واستغلال الدين، لكن
سعينا إلى الإحاطة بالعلمانية مصطلحا ومفهوما ومخاضا تاريخيا وجذورا في تربة الحضارة العربية الإسلامية، ونرى اليوم كيف يعود الحديث عن العلمانية في مهد تطورها الغربي وفي البلدان التي اعتمدتها نظاما ونصت عليها في دساتيرها وتشريعاتها.وذلك فضلا عن الحديث الذي يجري بين الفينة والأخرى على ألسنة المفكرين وأهل الرؤى والبدائل السياسية والمجتمعية في البلاد العربية والإسلامية، وعبر الفضائيات، إن بالرفض أو القبول. وما من شك في كون العود على بدء في موضوع العلمانية سواء في مواطنها التقليدية أو في مشرقنا مردّه إلى ما يشهده العالم عامة والبلاد ذات الديانة الإسلامية خاصة، من استباحة لأبسط حقوق البشر ومن تضييق على حرية التفكير والتعبير والرأي واللباس والطعام والشراب والصداقة والتنقل والسفر إلخ... ومن توظيف للدين في الاعتداء والقتل والترهيب والترغيب فضلا عن السياسة والانتخاب وعامة الشأن المجتمعي والدنيوي، بما جعل العلاقة بين الدين والدولة والدين والسياسة، في حاجة إلى تسوية جديدة من شأنها إعادة الاعتبار للحريات العامة والفردية التي تضمن للإنسان، مهما كانت عقيدته، أن يتمتع بحقوقه الأساسية في ظل دولة ديمقراطية وضمن عقد اجتماعي قائم على مبدإ المساواة في المواطنة.
وما من شك في أن المشهد الدامي لما يحدث في العراق وفلسطين، وبلدان عربية وإسلامية أخرى، من تناحر طائفي وقتل على الشبهة المذهبية وتقتيل بالجملة لأبناء هذه الطائفة أو تلك سواء داخل مواطن تعبّدها أو مواطن تواجدها في الحياة العامة، هو الذي كان له دور كبير في العودة بموضوع الحل العلماني، إلى الواجهة، وفي اعتباره، عند عدد متزايد من أهل النظر، الأفــق الوحيد ما دام ينبني على الفصل بين الشأن المعتقدي، وهو فردي وخاص، والشأن السياسي، وهو مجتمعي وعام، وما دام بالتالي كفيلا بوضع حد للاقتتال الطائفي ولمصادرة أبسط الحريات واستعباد الأرواح فضلا عن الأبدان. فبلاد كالعراق أو فلسطين أو سوريا أو السودان أو لبنان، أو غيرها من بلاد الشرق والغرب، لا يستوي أمرها إلا بإقرار العلمانية في تنظيم العلاقة بين الدين والدولة، ما دامت بلادا متعددة الأديان والعقائد والطوائف، لا يجوز لطرف واحد أن يبسط نفوذه ويفرض سلطانه على بقية الضمائر بالقوة المولدة للانفجار، وحمامات الدم. بل إن عدم الإذعان للحل العلماني على الواجهة الفلسطينية، مثلا، كان سببا حتى الآن في تشتيت الصف السياسي والتنظيمي للحركة الوطنية الفلسطينية وشرذمتها إلى رايات مذهبية وطائفية متعددة تعمل كل منها لحسابها الخاص، وتأبى التنازل عن نرجسيتها الفصائلية لحساب الحركة، بما أضعف مردود المقاومة ووفر على المحتل متاعب جمة. لكن ولئن كان في موروث الدولة العربية والإسلامية عناصر علمانية هي التي شكلت قاعدة للخلق والإبداع والتطور الحضاري فإن مهمة إرساء النظام العلماني اليوم، باعتباره حجر زاوية في الدولة الديمقراطية الحديثة، لا نراها منتظرة من أنظمة الاستبداد والفساد والعمالة القائمة حاليا، ولذا فإن استكمال هذه المهمة التاريخية مرتبط بالتحولات الديمقراطية الوطنية التي على قوى التغيير الحقيقي أن تنجزها والتي نعيش مخاضها العسير راهنا. وليس معنى ذلك أن على هذه القوى انتظار تلك الساعة الفاصلة وتعليق تحركاتها، بل المطروح هو العمل الدؤوب والنضال اليومي من أجل تقريب تلك الساعة ومراكمة المكاسب مهما كانت جزئية وعدم الاستسلام لتيار الردة.
لكن ذلك لا يكفي لكي يجعل من العلمانية قناعة واسعة النفوذ في المجتمع خصوصا أمام مساعــي التشويه التي ما انفك شيوخ التكفير يلحقونه بها، وأمام الأحكام المسبقة ذات الخلفية التكفيرية التي زرعتها الدولة القائمة عبر المؤسسة الدينية وعلى منابر المساجد والجوامع، وعبر المؤسسة التربوية والتعليمية والثقافية والقيم السائدة ذات الحمولة الإقطاعية والعبودية في جانب كبير منها.
إن الحل العلماني الذي هو بمثابة قارب النجاة لكافة أفراد المجتمع مهما باعدت بينهم المعتقدات، يكتسب مصداقيته ويلقى الآذان الصاغية ويعمّر حين يتنزل – وهو القيمة الكونية - في الهوية الثقافية والحضارية الخاصة، ويُطرح ضمن مشروع النهضة الوطنية والقومية وبرنامجها المناهض للهيمنة الأجنبية.
ويزعم دعاة الدولة الدينية وأعوان الدكتاتورية وهم يحاربون الديمقراطية أن العلمانية تعني الإلحاد وأنها نبتة غريبة عن التربة العربية والإسلامية، متعمدين خلطا تكذبه حقيقة العلمانية مفهوما وتاريخا وتشريعا، وجاهلين أو متجاهلين حقائق التراث الحضاري العربي والإسلامي، وهم الذين اعتبروا الحرية والديمقراطية – كما العلمانية - نبتة مستوردة ولا تصلح إلا لأهلها.
لكن من يطرح الحل العلماني من موقع الاستخفاف بمعطى الهوية الوطنية والقومية، والاصطفاف وراء المحتل "الديمقراطي" والمستعمر "الحضاري" وتبنـّي نقده العنصري والصليبي لديانات الآخرين والإسلام تخصيصا، يخسر الجولة حتما بل ويقدّم خدمة جليلة لأعداء الفكرة العلمانية والمشروع الديمقراطي الذين سيظهرون بمظهر المدافعين الوحيدين عن الهوية، المناهضين الوحيدين للاحتلال والوصاية الأجنبية، الرافضين الوحيدين للإلحاق والإذلال!
تعليقات
إرسال تعليق