مرّة أخرى، حزب العمال وحقوق الإنسان (ملاحظات حول تقرير)
أصدر "المجلس الوطني للحريات بتونس" في أواخر شهر أكتوبر الماضي تقريره السنوي. وقد خصّصه هذه السنة لما أسماه : "المحاكمة المنعرج – انتصاب المحكمة العسكرية ببوشوشة وباب سعدون خلال صائفة سنة 1992". والمحاكمة المقصودة هي التي شملت في ذلك التاريخ أهمّ قيادات "حركة النهضة" وكوادرها إضافة إلى عناصر من تنظيم "طلائع الفداء" (الجيب الأسود) وأخرى ذات ميولات "إسلامية" غير منظمة. ويمثل هذا التقرير الرابع من نوعه منذ تأسيس "المجلس" في أواخر سنة 1998.
وفي الحقيقة ما كان في نيّتنا الدخول في جدال مع "المجلس" الذي يضمّ في صفوفه مناضلات ومناضلين نكنّ لهم الإحترام والتقدير لما قدّموه ويقدّمونه من تضحيات في سبيل الحرية والديمقراطية في بلادنا، لولا ما لاحظناه في تقرير هذه السنة خصوصا من حياد عن الموضوعية في نقل المعطيات وإصدار الأحكام كلما تعلق الأمر برصد مواقف القوى السياسية من المحاكمة موضوع التقرير. إنّ القارىء يشعر في بعض الأحيان أنّه ليس أمام تقرير حقوقي إنساني بالمعنى الشائع أو حتى من النمط الذي عودنا به المجلس ذاته، بقدر ما هو أمام تقرير سياسي "متحزّب" بالمعنى السلبي للعبارة.
وبما أنّ غرضنا ليس الردّ على كافة النقاط التي يثيرها التقرير، فإنّنا سنكتفي، للتدليل على ما قلناه، بالتعرض لنقطتين مهمّتين بالنسبة إلى حزب العمال لما فيهما من تجنّ وتعسّف على الحقائق التاريخية الأمر الذي يؤثّر، في رأينا، سلبا، في مصداقية التقرير وينحرف به عن هدفه المتمثل منطقيا، في فضح الدكتاتورية النوفمبرية وتبيان انتهاكها المنهجي للحريات وحقوق الإنسان وزيف الشعارات التي ترفعها وفي مقدمتها شعار "دولة القانون والمؤسّسات".
1 - تتمثل النقطة الأولى في تغاضي التقرير عن ذكر المحاكمات التي سبقت محاكمة صائفة 1992 والتي شملت مناضلات ومناضلين من حزب العمال الشيوعي التونسي واتحاد الشباب الشيوعي التونسي. كما شملت مناضلين من حركات سياسية أخرى (الأستاذ جلول عزونة الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية (أوت 1989)، والأستاذ البشير الصيد الأمين العام للتجمع الوحدوي –الديمقراطي –الناصري (سبتمبر 1989) ومناضلين ينتمون إلى "منظمة الشيوعيين الثوريين (جويلية 1990) وعشرات المواطنين المتهمين بالمشاركة في أعمال احتجاجية (موقوفو فياضانات سيدي بوزيد وعددهم 34 (1989) وموقوفو نفطة وعددهم يزيد عن الـ50 أحيلوا على عسكرية صفاقس في جويلية 1990وموقوفو سليانة أحيلوا على عسكرية تونس في عام 1990) وتؤكد هذه المحاكمات أنّ بن علي لم ينتظر صائفة 1992 أو بشكل عامّ اعتقالات "الإسلاميين" في مطلع التسعينات ليكشف الطبيعة الزائفة للتغيير الذي وعد به فجر يوم 7 نوفمبر 1987 وللنصوص القانونية التي سنّها بدعوى "حماية حقوق الإنسان ودعم الحريات الفردية والعامّة" ولاستقلالية القضاء التي ادّعى أنها ستكون من ضمن "الإصلاحات الجوهرية" التي ستتحقّق في عهده الذي سماه "العهد الجديد".
لقد كان التعذيب حاضرا بشكل مكثّف وبشع في قضايا حزب العمال واتحاد الشباب مثلا. ونذكر من هذه القضايا تلك التي وقعت بقفصة (سبتمبر 1989) وتونس (ماي 1990) وباجة (فيفري 1991) والمنستير (نوفمبر ديسمبر 1991). وقد مارس فيها البوليس الإغتصاب لاقتلاع الإعترافات وللإذلال والإهانة (باجة) وهدّد بممارسته أو شرع فيه (قفصة، تونس...). كما مارس أشكالا أخرى معتادة من التعذيب: تعليق، صعقات كهربائية، حرق بالسجائر، حرمان من الأكل والنوم، حرمان من الدواء (بالنسبة إلى أصحاب الأمراض المزمنة...). وهذه الممارسات مسجّلة في شهادات وفي تقارير للمحامين كانت سلمت إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنظمات الدولية الحقوقية والإنسانية. كما انتهك البوليس السياسي آجال الإحتفاظ القانونية وزوّر المحاضر وافتعل التهم. وقد تصرف القضاء في هذه القضايا كمجرد جهاز إداري في خدمة السلطة التنفيذية، تستعمله لتصفية خصومها السياسيين وقمع التحركات والإحتجاجات الشعبية. فرفض عرض ضحايا التعذيب على الفحص الطبي. كما رفض النظر في الشكاوي التي رفعها المحامون ضدّ الجلادين. وداس حقوق الدفاع. ولم يسلم المحامون في هذه القضايا من عسف السلطة. ففي قضية الأستاذ جلول عزونة مثلا (أوت 1989) اعتقلت الأستاذة راضية النصراوي بسبب مرافعتها واتهمت بـ"النيل من كرامة رئيس الدولة".
إنّ المغزى من كلامنا هذا هو تأكيد أنّ الإنتهـاكـات التي حصلت أثنــاء اعتقالات "الإسلاميين" في سنة 1991-1992 والتي أشار إليها التقرير ليست جديدة في عهد بن علي. ولكن تلك الإنتهاكات و هذا هو الجديد، اتخذت مع محاكمة 1992 أبعادا خاصّة بالنظر إلى حجم الحملة التي شنتها الدكتاتورية النوفمبرية على الحركة "الإسلامية" والتي شملت آلاف الناس من أعضاء وأنصار وحتى أشخاص لا صلة عضوية لهم أحيانا بهذه الحركة. وما من شكّ في أنّ الهدف من هذه الحملة كان القضاء على الوجود السياسي والتنظيمي للحركة "الإسلامية".
لقد كان من واجب محرري التقرير أن لا يتجاهلوا الاعتقالات والمحاكمات التي سبقت محاكمة صائفة 1992 وذلك للأمانة التاريخية أوّلا. وثانيا حتى لا يذهب في ظنّ القارىء أنّ بن علي لم ينتهك خلال الأربع سنوات الأولى من حكمه (1987-1991) الحريات وحقوق الإنسان وهو ما يبرّر بالنسبة إلى بعض القوى السياسية نهج المساندة الذي اتبعته خلال هذه الفترة. إن طبيعة نظام بن علي كانت واضحة من البداية رغم ما قام به من مناورات كان الهدف منها زرع الأوهام لربح الوقت الضروري لإعادة تنظيم أجهزة الدولة وخاصة منها الجهاز الأمني، حتى تستعيد فاعليتها القمعية وتصبح قادرة على بسط هيمنتها مجدّدا على المجتمع وتعيد افتكاك الفضاءات التي تخلى عنها النظام، منذ العهد البورقيبي، مكرها.
إنّ خطأ معظم قيادات الأحزاب السياسية المعترف بها والجمعيات والمنظمات النقابية والمهنية هو أنها انخدعت بوعود بن علي وشعاراته وساهمت بهذه الدرجة أو تلك في مغالطة الشعب التونسي وتغذية الأوهام لديه حول "العهد الجديد" الذي قدمته على أنه يمثل "قطيعة مع العهد البورقيبي" في حين أنّه امتداد له في نهجه الدكتاتوري والقمعي. ومن البديهي أنّ القوى التي كانت تساند نظام بن علي وتؤيّده في الفترة المذكورة، ما كان لها أن تنتبه إلى خطورة ممارساته التي كانت تبحث لها عن مبرّرات. ومن بين هذه المبررات اتهام حزب العمال الذي لم يؤيّد انقلاب 7 نوفمبر ولم ينخدع بوعود بن علي "الديمقراطية" بـ"التطرف" وغير الواقعية".
2 - وتتمثل النقطة الثانية في اتّهام التقرير القوى السياسية في تونس، دون تمييز ولا استثناء بالتواطؤ، بهذا الشكل أو ذاك أو بهذه الدرجة او تلك مع الدكتاتورية النوفمبرية في حملتها القمعية على "حركة النهضة". لقد ورد في التقرير ما يلي: "وفي تاريخ انعقاد المحـاكمـات لدى المحكمة العسكرية الذي بدأ يوم 9 جويلية 1992 ولم يكن هنـاك أي منظمة وطنية تتولّى مهمة الملاحظ لسير الجلسات بها. إذ لم يتولى ذلك سوى موفدي منظمة العفو الدولية الذين حرّروا تقريرا جيدا في أعمالهم. أما الأحزاب السياسية بتونس فقد التزمت حيال الحدث صمتا رهيبا" (التقرير ص 8). كما ورد في مكان آخر من التقرير ما يلي: "أمّا موقف السياسيين في هذا المستوى من المحاكمة فهو متراوح بين :
البروز بالغياب والصمت على موضوع المحاكمة رغم ما تمثله من رهان على مستقبل البلاد في المجالات السياسية وحقوق الإنسان والحريات.
تزكية للمحاكمة لا تكاد تخفي روح التشفي في خصوم سياسيين، اعتبر أصحاب هذا الموقف أنّ حسم خلافهم السياسي والعقائدي مع "النهضة" يمكن أن يتمّ في محاكم النظام!" (التقرير ص 39).
إنّ الحكم الوارد بهذين الاستشهادين فاقد للموضوعية بل مناف للحقيقة التاريخية لما فيه من تعميم غير مبرّر. فإذا كان هذا الحكم ينطبق على موقف قيادات بعض الأحزاب القانونية وعلى قيادات معظم الجمعيات والمنظمات النقابية والمهنية والحقوقية والثقافية فإنّه لا يصحّ إطلاقا على موقف حزب العمال الشيوعي التونسي ومعظم القوى السياسية غير المعترف بها في تلك الفترة (حزب الوحدة الشعبية –جلول عزونة...). فنحن في حزب العمال مثلا "لم نلازم صمتا رهيبا" حيال اعتقالات "النهضويين" ومحاكماتهم ولم نزكّها "تشفيا في خصوم سياسيين" بل إنّنا اتخذنا في الإبّان مواقف تدين بشكل لا لبس فيه حملة الاعتقالات وما رافقها من انتهاك لحقوق الإنسان (مداهمات، تعذيب، قتل تحت التعذيب...) كما تدين محاكمة باب سعدون – بوشوشة وما اتسمت به من جور وقد ضُمّنت هذه المواقف في بيانات سلمت إلى الصحافة والمنظمات الحقوقية والإنسانية المحلية (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي كان العديد من مناضلي المجلس من كوادرها) والدولية (منظمة العفو الدولية، هيو من رايتس واتش). كما أنها وُزّعت في أوساط المعارضة التونسية فضلا عن الأوساط النقابية، العمالية والطلابية. وإلى ذلك فقد نشر بعض هذه البيانات في"صوت الشعب" اللسان المركزي لحزب العمال الشيوعي التونسي. وفي كلمة فإنّ هذه المواقف كانت معروفة جدّا في الأوساط الإعلامية والسياسية والحقوقية التونسية. وقد ارتكزت عليها السلطة لاتهام حزب العمال بالتحالف مع "الإرهاب الإخوانجي" أو"التطرف الديني". كمـا أنهـا اتخذت منها ذريعة لتشديد الحملة القمعية عليه –أي على حزب العمال- في إطار استراتيجية بن علي الهادفة إلى القضاء على كل معارضة –مستقلة والإبقاء على ديكور ديمقراطي يستخدم لتجميل وجه الدكتاتورية.
ومن الملاحظ أنّ ما قادنا في مواقفنا تلك هو أوّلا: تحليلنا لطبيعة نظام بن علي الدكتاتورية والبوليسية الذي جعلنا ندرك منذ البداية الهدف الحقيقي من الحملة على "الإسلاميين" وهو الإجهاز على خصم سياسي كمقدمة للإجهاز على كافة المعارضات والأصوات التي ترفض الاصطفاف وراء النظام وفرض قانون الصمت على المجتمع بأسره. ثانيا: مبادئنا وقناعاتنا ومنها رفض التعذيب وافتعال القضايا وانتهاك حقوق الدفاع والمحاكمات غير العادلة (كمحاكمات الرّأي، والمحاكمات السياسية عامّة) رفضا مبدئيا مهما كان انتماء الضحية الفكري والتنظيمي. ومن هذا المنطلق فإنّ خلافاتنا الفكرية والسياسية الجوهرية مع "حركة النهضة" وصراعاتنا الميدانية معها في الحقل النقابي والطلابي والتلمذي والحقوقي الإنساني والثقافي لم تجعلنا نتواطؤ مع نظام بن علي سواء بدافع الخوف من بطشه أو بدافع الطمع في مكافأة منه. لقد تحملنا مسؤوليتنا في الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان دون حسابات ضيقة رغم أنّنا كنّا مستهدفين من الدكتاتورية النوفمبرية التي كانت تلاحق مناضلينا ومناضلاتنا باستمرار في محاولة منها لاجتثاث حزب العمال سياسيا وتنظيميا.
لقد كان من واجب محرّري التقرير التقيد بالموضوعية وإعطاء كلّ طرف حقه. إن من سلبيات الواقع السياسي الحالي ببلادنا تفشّي العقلية الفئوية أو بالأحرى عقلية "الحوانيت" التي تجعل أصحابها لا يتورّعون عن قلب الحقائق أو تجاهلها ظنا منهم أنّ ذلك يكسبهم سياسيا أو على الأقل يضعف خصومهم. ويمثل انقلاب 7 نوفمبر 1987 من جهة وقمع "الإسلاميين" من جهة ثانية موضوعين أساسيين تكثر فيهما اليوم المزايدات والتضليل لأغراض سياسوية. فبالنسبة إلى الموضوع الأول يدّعي بعض الناس أنّ "كافّة" القوى السياسية، دون استثناء، كانت "رحّبت" بالإنقلاب و"أيّدته". وبالنسبة إلى الموضوع الثاني يدّعي هؤلاء أن كافة السياسيين تواطؤوا بشكل أو بآخر مع الدكتاتورية. وفي كلتا الحالتين فإنّهم يتجاهلون موقف حزب العمال السليم والمتميز الذي بيّن تطوّر الأحداث صحته. ونحن لا نعتقد أنّ مثل هذا السلوك قادر على طمس الحقيقة. وقد كان بودّنا لو أنّ المجلس لم يسقط في هذا السلوك.
وعلى كل حال فإنّنا ننشر فيما يلي جملة من النصوص تتضمّن مواقف حزب العمال من قمع الحركة الأصولية. وقد ارتأينا أن لا نكتفي بنشر النصوص المتعلقة بمحاكمة صائفة 1992 فقط. إن القارىء يجد في هذا الكراس نصّا يتعلق بقمع "الإسلاميين" سنة 1987 أي في "العهد البورقيبي" كما يجد نصّا (بيان جماعي) صدر أيّاما فقط بعد بدء حملة الاعتقالات في صفوفهم في أواخر ديسمبر 1990 ونصوصا أخرى صادرة بعد المحاكمة المذكورة بمدة، وتحديدا قبل أن يصبح العفو التشريعي العامّ مطللبا يتبنّاه عموم الحركة الديمقراطية. ويتمثل الهدف من نشر كافة هذه النصوص في إبراز تماسك مواقف حزب العمال منذ تأسيسه وعدم حياده عن مبادئه الأساسية. وسيلاحظ القارئ أن هذه النصوص تتسم أحيانا بطابع سسجالي مرتبط بالظروف التي صدرت فيها. وقد ارتأينا نشرها، للأمانة كما هي.
نحن لا نخفي إطلاقا خلافاتنا الجوهرية والعميقة مع التيار "الإسلامي". ولكننا في نفس الوقت نرفض كل تواطؤ مع الدكتاتورية النوفمبرية التي تعيق نهضة شعبنا وبلادنا. إنّ هدفنا في المرحلة الحالية من نضال شعبنا هو إقامة نظام ديمقراطي، شعبي، وطني، وتقدّمي. وهذا الهدف وإن كان لا يتحقّق إلاّ بالنضال ضدّ الدكتاتورية النوفمبرية بل على أنقاضها فإنّه لا يحتمل من جهة أخرى المساومة في مرتكزاته الأساسية (الحرية والديمقراطية، والمساواة...) مع التيار "الاسلامي" أو أي طرف آخر لأنّ ذلك لن يقدم بلادنا ولن يخرج بها من التخلّف السياسي والإجتماعي والثقافي الذي تعاني منه.
تونس في ديسمبر 2002
تعليقات
إرسال تعليق