تونس في 10 جوان 2010
بقلم : نورالدين الورتتاني (*)
منذ مؤتمر المنستير، و بعد إخفاقها في التخلّص من الفصل العاشر، شنّت البيروقراطية النقابية حملات متلاحقة على النقابيين الديمقراطيين بصورة عامة و على اليسار النقابي بصورة خاصة بغية تغيير موازين القوى داخل المجلس الوطني الذي يرجّح أن تمرّ عبره أيّة محاولة لشرعنة الإنقلاب على الفصل العاشر. و قد أسال هذا الموضوع الكثير من الحبر طيلة السنوات الفارطة.
و قد استرعى انتباهي مؤخرا بعد تصريح الأخ رضا بوزريبة لجريدة الشروق و الذي لم يرى فيه مانعا من تحوير الفصل العاشر لعدم أهميّته أو بدعوى أنّه قد اعتمد في مؤتمر استثنائي أي بمعنى تحت مبرّرات لم تعد قائمة. كما لفت نظري انقضاض مجموعة صغيرة من النقابيين الموالين للبيروقراطية على نصيّ الرفيقين منجي العيساوي و الطيّب بوعائشة، الذين حاولا الردّ على ما ورد في الحديث المذكور و نشرا على صفحات الأنترنات، لتوجّه لهما العديد من الإنتقادات السطحية و لتكيل لهما العديد من التهم المجانية و أودّ في معرض هذا النص أن أعقّب عليها و أن أسوق الملاحظات الآتية :
1) من الناحية الشكلية أشتبه في أنّ هذه " الكتيبة "، التي تتشابه أسماءها و تتقارب و التي هبّت في نفس الوقت على صفحة منتدى " الديمقراطية النقابية و السياسية " في الفايس بوك لتوجّه نفس الانتقادات للنصّين، قد تدرّبت عند البيروقراطية النقابية و دفعت في الوقت المناسب للإيهام بوجود تيّار نقابي عريض (!!) يدعّم تغيير الفصل العاشر تمسّكا بمبادئ الديمقراطية (و كأنّ المتمسّك بالبقاء فوق الشجرة يقطع الغصن الذي يجلس عليه !!).
2) للذين يزعمون بأنّ الفصل العاشر قد وقع إقراره بصورة استثنائية، في المؤتمر الاستثنائي بجربة، و يمكن الآن التخلّي عنه بعد أن أصبح الاتحاد ديمقراطي التسيير نقول من تحاولون خداعه ؟
إنّ الأمثلة على انحرافات العديد من قيادات الاتحاد الحالية و على ممارساتها اللاديمقراطية تكاد تساوي " عدد شعرات الرأس " و ما على المشكّكين إلاّ الرجوع إلى مواقع النقابيين الديمقراطيين على الواب للاطلاع عليها.
و بالفعل مارست جوقة البيروقراطية النقابية بقيادة رئيس " قسم البوليس النقابي " علي رمضان و منذ بداية 2007 حملات تطهيريّة لاستئصال اليسار النقابي المناضل و النقابيين الديمقراطيين عموما و كلّ من يشتبه في معارضته لتحوير الفصل العاشر، خصوصا، و مساندته، عموما، لإعادة هيكلة الاتحاد بشكل يضمن تسييرا ديمقراطيا لهياكله و يعيد للقطاعات سيادتها على قراراتها ضمانا للحقّ النقابي، الذي أصبح مهدّدا من داخل الاتحاد جرّاء وابل المناشير التضييقيّة التي أصدرها " قسم البوليس الداخلي للاتحاد "، و للتسيير الديمقراطي.
و بخصوص اتّهامات النقابيين الديمقراطيين للاتحاد، بالتساوي مع السلطة، حول التضييق على الحقّ النقابي و مخالفة قواعد التسيير الديمقراطي للهياكل النقابية و حتّى نتجنّب الوقوع تحت طائلة الاتهام بالتحامل على الاتحاد نحيل القراء إلى التقارير السنوية لمنظمة العمل الدولية و للكنفيديرالية الدولية للنقابات و حينها يمكن للإطلاع على تواتر توجيه الانتقادات و لفت النظر للاتحاد و السلطة.
و بالفعل سيلاحظ القارئ بأنّ تلك المنظمات الدولية تعتبر اشتراط الاتحاد على القطاعات و الجهات إمضاء المركزية النقابية على قرارات القطاعات و خاصة قرارات الإضراب لتغطيتها أمام السلطة و اشتراطها موافقتها المسبّقة على نشاطات و اجتماعات الهياكل النقابية القطاعية و الجهوية تضييقا على الحقّ النقابي و مخالفة لقواعد التسيير الديمقراطي. كما سيلاحظ القارئ بأنّ نفس تلك المنظمات الدولية تعتبر اشتراط السلطة أن تذيّل قرارات القطاعات و الجهات بالإضراب بموافقة المركزية النقابية لتعتبرها قانونيّة تضييقا على الحقّ النقابي و تملّصا من التزاماتها الدولية في ذلك الشأن...إلخ
و قد استعمل " البوليس النقابي " في حملته الشعواء، على من يعترضون على الانقلاب على الفصل العاشر و المتمسّكين بالخطّ النضالي داخل الاتحاد، كلّ الطرق حتّى أوضعها.
فكان تجريد (من الإنخراط أو من المسؤولية النقابية ...حتّى لا نلعب على الكلمات) و تجميد العشرات من النقابيين الديمقراطيين، ثمّ كان إعطاء الضوء الأخضر للسلطة لتحيل عشرات النقابيين الديمقراطيين على مجالس التأديب و تقرّر في شأنهم عقوبات أقلّها شأنا نقلا تعسّفيّا من مراكز عملهم التي يتحمّلون فيها مسؤوليات نقابية في تنكّر واضح للاتفاقية 135 حول حماية المسؤولين النقابيين، ثمّ كان إعطاء الضوء الأخضر للسلطة لتحيل، من بين النقابيين الديمقراطيين، من لم تنفع معهم الإجراءات السابقة على المحاكم بتهم كيدية و ملفّات ملفّقة و تصدر ضدّهم أحكام بالسجن...إلخ
و في " أحسن الحالات " لجأت البيروقراطية النقابية في مئات الهياكل النقابية إلى التلاعب بالنيابات و تدليس المؤتمرات بغرض تصعيد مكاتب موالية لها ...
3) يزعم بعضهم، معتمدا على الجانب الشكلي، بأنّ المؤتمرات هي سيّدة نفسها و أنّه من الديمقراطية أن نقبل بقرار المؤتمر القادم إذا ما حسم أمره في اتّجاه تغيير الفصل العاشر و نحن نقول هنا بأنّ هذا تمسّك بالشكليات و ذرّ للرّماد على العيون و نقدّم الأسباب التالية لتدعيم ما ذهبنا له :
أ- أوّلا للأسباب المشروحة سابقا حول ما أقدمت عليه القيادات النقابية طيلة 3 سنوات من حملات تطهير بغية تغيير موازين القوى داخل أيّ مجلس وطني يقع استدعاءه للبتّ في طريقة للانقلاب على الفصل العاشر و بغية التأثير على عدد نيابات اليسار النقابي و النقابيين الديمقراطيين في المؤتمر القادم و هي الأفعال التي تسقط أيّة ادّعاء بالديمقراطية حول النتائج المرتقبة.
ب- ثانيا لأنّ مسألة الفصل العاشر هي مسألة مبدئيّة تخصّ جانب ضئيل من مطالب النقابيين الديمقراطيين، الذين يمثّلون اليوم تيّارا عريضا داخل الاتحاد رغم كلّ الحملات ضدّهم، في اتّجاه إعادة هيكلة متكاملة للاتحاد بشكل يعيد للقطاعات سيادتها على قراراتها و يضمن تسييرا ديمقراطيا لهياكل المنظمة. و قد ناضل النقابيون الديمقراطيون طويلا لإفتكاك ذلك التنازل الضئيل مستغلّين ضعف القيادة البيروقراطية في مؤتمر جربة إثر انتشار أخبار فضيحتها المالية عند الرأي العام النقابي. و قد تنازلت تلك البيروقراطية في خصوص الفصل العاشر مقابل بقائها في مواقعها و التضحية بزعيمها القديم السحباني.
و هكذا نرى أنّ مطالب القواعد النقابية عموما و التيّار النقابي الديمقراطي خصوصا هي في الحقيقة أعمق من الفصل العاشر و لا أهميّة لهذا الأخير في حدّ ذاته خارج سياق مشروع إعادة هيكلة متكاملة لهياكل المنظمة و لكنّه يمثّل بالنسبة لنا الحجر الأول المقتلع من هرم الهيمنة البيروقراطية و لهذا فنحن نلعب على رمزيّته و ننوي اقتلاع المزيد من الأحجار إلى غاية هدم الهرم نفسه.
و قد مثّل تصدّي نواب مؤتمر المنستير لتنقيح الفصل العاشر برهانا ساطعا على مدى تمسّك قواعد الاتحاد بكلّ مطالب التيّار النقابي الديمقراطي الرامية إلى دمقرطة تسيير هياكل الاتحاد و حجّة دامغة على حصولهم عليه بشكل ديمقراطي.
فإذا كانت القيادة الحالية للاتحاد ديمقراطية كما تزعم فلماذا العودة إلى طرح مسألة الانقلاب على الفصل العاشر ذلك المكسب الضئيل الذي تحصّلت عليه القاعدة النقابية ؟ و لماذا استنباط أشكال غير قانونية (من نوع مؤتمر استثنائي يقرّر فيه قانونية ترشّحهم !! أو مجلس وطني يقرّ الانقلاب بنفسه !!...إلخ) لهذا الانقلاب حتّى تتمكّن القيادة النقابية الحالية من الحفاظ على مواقعها ؟
إنّ الأمر واضح لا لبس فيه ...و الذي على المحكّ ليس مدى انضباط كلّ منّا لقواعد اللعبة الديمقراطية بل نوايا انتهازية لقيادة بيروقراطية، أقلّ ما يقال فيها هو أنّها تتّبع نهجا تفريطيّا بخصوص مصالح العمال، في الانقلاب على ما قرّره مؤتمران للاتحاد بكلّ " ديمقراطية " للمحافظة على مصالحها.
ت- و هنا نصل إلى الجانب الشكلي للمسألة لنقول أنّه بقطع النظر عن ما قدّمناه، في ما فوق، من براهين على تهاوي حجج البيروقراطية و زبانيتها يصرّ البعض على أنّ المؤتمر القادم يمكن أن يعيد النظر " بكلّ ديمقراطية !! " في إمكانيّة تنقيح الفصل العاشر فماذا نضيف لهم من إجابة ؟
- أوّلا : في دساتير البلدان الديمقراطية فعلا هناك فصولا أساسية تهمّ مبادئ أساسية لضمان ديمومة التسيير الديمقراطي و حقوق الإنسان و هي غير قابلة للتحوير. و هناك ملاحق عامة و ثانوية تنقّح عادة لسدّ بعض الثّغرات التي تظهر مع الوقت و عموما لمزيد ضمان التسيير الديمقراطي و حقوق الإنسان. فهل إنّ القانون الأساسي للاتحاد يخضع لهذا المنطق أم إنّه مثل دساتير العالم العربي كالسروال المليء بالثقوب و العديم القيمة أو القدسية يعتدا عليه كلّ عشريّة لتأبيد سلطة أحد الرؤساء أو لتوريث السلطة لعائلته ؟
إنّ كلامنا واضح و لا لبس فيه : الفصل العاشر " مقدّس " لأنّه البذرة الأولى من أجل دمقرطة تسيير الهياكل النقابية و لا يصحّ التفكير في وأده عوض تدعيمه فهل تفهمون ؟
- ثانيا : بعض الإخوة الذين علّقوا على نصوص الرفيقين العيساوي و بوعائشة يتصنّعون العبط أو السّذاجة فبعد أن تدرّبوا عند معلّميهم داخل " قسم البوليس النقابي " على المناوشة الكلامية ها هم يتقدّمون شكليّا بحجج تنقلب عليهم أو تضعهم في خانة الفاشيين و النازيين. فهم يتصورون كإخوانهم من الإسلاميين السلفيين الظلاميين بأنّ الركوب الشكلي على مبدأ الديمقراطية يمكّنهم لاحقا من الانقلاب عليها و ضرب مكاسبها و التخلّص من الحقوق الطبيعية للمواطنين.
إنّهم يذكرونني بصعود هتلر و موسيليني عن طريق صندوق الاقتراع ثمّ انقلابهما على النظام الديمقراطي و ما عانته بع ذلك كلّ شعوب العالم من ويلات حكمهما. كما يذكرونني بتصريح أحد رموز الإسلاميين في الجزائر عشيّة انتخابات الثمانينات التي كانوا سيتحصلون فيها على أغلبية مقاعد البرلمان الجزائري : "...هذا عرس الديمقراطية لأنّ الصناديق قد صعّدت الإسلاميين ...و هذا مأتمها لأنّ الديمقراطية كفر و لا تتماشى مع نظام الدولة الإسلامية...!!"
المغزى من كلّ هذا هو أنّ الشعوب الديمقراطية تقدّس اليوم النظام الديمقراطي و حقوق الإنسان و تحصّن نفسها ضدّ أيّ انقلاب فاشي و الدليل على ذلك هو منع بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة و تجريد بعض المنتخبين من مسؤولياتهم البرلمانية أو الحكومية ما إن يعبّروا عن معاداتهم للنظام الديمقراطي أو لحقوق الإنسان هذا فضلا عن تطوير قانون دولي على أساس المعاهدات و المواثيق الدولية لرفع مبادئ الحكم الديمقراطي الرشيد و حقوق الإنسان إلى مصاف المبادئ المقدسة. فبقطع النظر عن ما تفرزه السياسة حاليا من ازدواجية المعايير و التمييز بين الشعوب عند تطبيق القانون الدولي، و هو ما نرفضه طبعا، فإنّ الإنسانية تتقدّم عن طريق المصادقة على قوانين دولية تحصّن الشعوب ضدّ أيّة مفاجأة قد تعيد أنظمة فاشية للحكم و تضمن تمتّعهم الدائم بالديمقراطية و حقوق الإنسان.
لقد رفعت الإنسانية عموما، خلال القرن الماضي، مسألة التمتّع بنظام حكم ديمقراطي و بحقوق الإنسان الفردية و العامة إلى مصاف الحقوق الطبيعية التي تحميها الأعراف الدولية و التي لا يمكن إعادة النظر فيها أو عرضها على صندوق الاقتراع إلاّ بغاية تدعيمها.
و مثال أصحابنا الداعين إلى إعادة عرض مسألة التخلّي عن الفصل العاشر على المؤتمر القادم هو كمثال الحركة الإسلامية الظلامية التي تتصوّر انّه من الديمقراطية أن تستغلّ الوضع الاقتصادي الصعب للطبقات الشعبية و بؤسها بسبب تحميلها تبعات الخيارات الليبيرالية المتوحشة لكي ترشيها بأموال البيترودولار القادمة من جانب الأممية الظلامية الإرهابية بعد غسل أدمغتها لتكون وقود حربها و مشاريعها القروسطية و تدفع بها إلى صناديق الاقتراع ليس فقط للوصول إلى الحكم بل للانقلاب على النظام الديمقراطي و على مبادئ حقوق الإنسان و سنّ قوانين قروسطية تعيد " شرعنة " قطع الأيادي و الرقاب و رجم المرأة و تكفير المختلفين معهم و قتلهم تنفيذا لحدّ الردّة و المجاهرة بالإنسلاخ عن الملّة...إلخ
و كما إنّ أيّة إمارة قروسطية من ذلك النوع ستكون غير شرعية فإنّ أيّ تحوير للقانون الأساسي للاتحاد يمسّ من المبادئ الأساسية للتسيير الديمقراطي، على قلّتها، و يضيّق على الحقّ النقابي سيكون غير شرعيّ و غير ملزم لأنّه لا يحقّ لأحد إعادة النظر في هذه الحقوق و لا يكفي تبديد جموع المعارضين و تغيير موازين القوى داخل المجلس الوطني أو التلاعب بنيابات المؤتمر القادم لإكساب مثل ذلك الانقلاب أيّة شرعيّة.
و لكي أنهي هذه النقطة أضيف بأنّ الشعبويّة لا تفضي إلاّ إلى الفاشية و هذه الأخيرة مرفوضة فالتتظافر جهود كلّ النقابيين الديمقراطيين لكنس المنادين بها.
(يتبع)
نورالدين الورتتاني
(*) جامعي و نقابي ديمقراطي
تعليقات
إرسال تعليق