غازي الصوراني [1]
27/أيار/2010
أبدأ ورقتي بطرح هذا السؤال الثقيل الذي سقط علينا من خلال التجربة: هل كان طرح خيار الدولة المستقلة حقيقة قابلة للتحقق أم وهم؟؟؟ هل كان يهدف إلى تجزئة الغاية؟ وبالتالي قاد إلى النهاية التي نحن بصددها..؟ ألم تكن هي فكرة الاستجابة للآخر، الذي حالما نقبلها، يخلق وقائع تمنع تحقيقها..!؟
27/ماي/2010
إنّ التزامي طوال العقدين الماضيين بالنضال من أجل تطبيق شعار الدولة المستقلة كاملة السيادة أو الحل المرحلي على أراضي الـ67 كان وما زال تجسيدا موضوعيا لانتمائي والتزامي بموقف وبرنامج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، آخذاً بعين الاعتبار تمايز ومصداقية الجبهة في تعاطيها مع هذا الشعار من حيث رفضها المطلق بالاعتراف بدولة إسرائيل، إلى جانب تأكيدها على أن الحل المرحلي لا يلغي حق شعبنا الفلسطيني في وطنه التاريخي ارتباطاً بالبعد القومي العربي في سياق النضال من أجل تحقيق الهدف الكبير وأقصد المجتمع العربي الاشتراكي الديمقراطي الموحد، إلا أن هناك متغيرات حادة أصابت النظام العربي صوب المزيد من تبعيته وخضوعه وارتهانه، بمثل ما أصابت أيضاً"النظام السياسي الفلسطيني" والقيادة المتنفذة في م.ت.ف التي يبدو أنها لم تعد قادرة بعد غياب الراحل ياسر عرفات على التفاوض مع العدو بشروطها ولو ضمن الحد الأدنى، حيث يبدو أن المقرر الخارجي وأقصد بذلك العدو الأمريكي الإسرائيلي بات محدّداً رئيسياً لما يسمى بعملية السلام، ومن ناحية ثانية فإن تحليل جوهر الصراع بيننا وبين العدو الإسرائيلي كصراع عربي إسرائيلي إلى جانب الوضعية الرئيسية لدولة العدو الإسرائيلي التي تحولت اليوم إلى حالة امبريالية صغرى عززت دورها ووظيفتها في تكريس أدوات ومظاهر التبعية والتخلف واستمرار احتجاز التطور في بلدان الوطن العربي بما يضمن حماية وتكريس مصالح نظام العولمة الامبريالي في بلادنا، وبالتالي لم يكن مستغرباً في مثل هذه الأوضاع تمسك التصور الصهيوني بلاءاته الخمسة: لا انسحاب من القدس، لا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة للاجئين، لا للدولة الفلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة.
أمام كل ذلك لم يعد مفهوماً الحديث عن حلول مرحلية، وقد عزز هذا الاستنتاج الفشل الذريع لكافة الاتفاقيات التي عقدتها م.ت.ف لأسباب تعود إلى طبيعة اتفاق أوسلو ومحدداته من ناحية ولأسباب سياسية وطبقية حكمت معظم هيئاتها القيادية، وبذريعة شعارها الزائف حول ما يسمى "القرار الفلسطيني المستقل" من منطلقها البائس في كون الصراع فلسطيني إسرائيلي وليس عربياً إسرائيلياً.
هنا تتبدى الضرورة لإعادة النظر –بمنهجية موضوعية وعميقة- في كافة المنطلقات السياسية التي ارتبطت بشعار الحل المرحلي، وصولاً إلى النضال من أجل تحقيق هدف دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية، الذي يتوجب اليوم أن يكون هدفاً استراتيجياً لكافة قوى التحرر العربية عموماً وللقوى اليسارية الديمقراطية في فلسطين بشكل خاص، دون أن يعني ذلك تقويضاً أو تأجيلاً لعملية النضال والمقاومة بكل أشكالها ضد العدو، آخذين بعين الاعتبار مسألة جوهرية وموضوعية يتوجب على كافة قوى اليسار الفلسطيني والعربي أن تتبناها للخروج من هذا المأزق الذي وصلنا إليه، والذي يتمثل في محددين رئيسيين يتصارعان لتحقيق هدفهما، الأول: يتمثل في قوى اليمين الكمبرادوري البيروقراطي ممثلاً في السلطة الفلسطينية وفي معظم الأنظمة العربية وأحزابها الحاكمة، والمحدد الثاني: هو التيار الديني أو على وجه الدقة الإسلام السياسي الذي لا يختلف من حيث جوهره الطبقي عن المحدد الأول، إلى جانب ما يمثله من تكريس للتخلف والتبعية، وما يزعمه من تحقيق الهوية الإسلامية باسم "الخلافة أو الأمة الإسلامية".
وبالتالي فإن حديثي عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية هو حديث يستدعي -على الأقل نظرياً في هذه المرحلة- استنفار كل طاقات اليسار من أجل إعادة النظر في الخطاب السياسي وصولاً إلى خطاب/برنامج يستجيب لمعطيات وضرورات المرحلة الراهنة والمستقبل، الأمر الذي يستدعي حواراً جاداً ومعمقاً بين أطراف اليسار الماركسي العربي لتحقيق هذه الغاية، ليبدأ مرحلة جديدة في نضاله من أجل إعادة تأسيس المشروع القومي التحرري الديمقراطي النهضوي، كفكرة مركزية توحيدية تلتف حولها الجماهير الشعبية في فلسطين وبلدان الوطن العربي، وفي الطليعة منها الطبقة العاملة وكل الكادحين والفقراء والمضطهدين والمُستَغَلين العرب الذين سيمثلون روح هذه النهضة وقيادتها وأدواتها.
إنّ تأكيدي على هدف دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية المرتبطة بمحيطها الديمقراطي العربي ارتباطا عضويا وثيقا في مقدماته الراهنة ونهاياته المستقبلية، ينطلق من أن صراعنا مع الحركة الصهيونية ودولتها هو صراع عربي ضد الامبريالية والنظام الرأسمالي وركيزته "دولة إسرائيل" ارتباطا بدورها ووظيفتها في بلادنا، ما يعني بوضوح أن النضال ضد الامبريالية والنظام الرأسمالي يبدأ عبر المقاومة بكل أشكالها في فلسطين أو في أي بقعة عربية محتلة، وفق رؤية إستراتيجية وآليات كفاحية موحدة، وعبر النضال السياسي الديمقراطي المطلبي –على الصعيد الفلسطيني والعربي الداخلي– الهادف إلى تجاوز أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد في بلادنا من خلال الحركات والقوى الثورية القومية الماركسية في كل قطر من أقطار هذا الوطن تمهيدا لوحدة الحركة الماركسية القومية العربية وانتصارها، بما سيحقق أهدافنا على الصعيد الوطني وإقامة فلسطين الديمقراطية الكفيلة وحدها بحل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، وهذه القضية قد يفترض البعض محقا أو بدون وجه حق بأنه موقف طوباوي، فإنني أقول بوضوح أن هذا ليس موقفا طوباويا بقدر ما هو حلم ثوري تتوافر مقوماته وإمكاناته في نسيج مجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية عموما، وفي أوساط الشرائح المضطهدة من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة التي تتطلع بشوق كبير إلى المشاركة في تحقيق هذا الحلم، بعد أن بات قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة 67، أقرب إلى الوهم في ظل ميزان القوى المختل راهناً، ولا يشكل حلاً أو هدفاً مرحلياً يلبي الحد الأدنى من أهداف شعبنا، وإنما يمثل ضمن موازين القوى في هذه المرحلة – تطبيقاً للرؤية الإسرائيلية الأمريكية، الأمر الذي يؤكد على ضرورة الحوار المعمق لتكريس التزامنا بالهدف الإستراتيجي وتجاوز كل حديث عن حل مرحلي بوسائل تسووية بعد أن توضح بأنه وهم قاد إلى انحدار نشهد اليوم نتائجه المدمرة.
ألم يكن أوسلو نفسه هو مرحلة المرحلية..؟ والمناقصات السياسية التي تلته باعتباره انتقالي صار دائما وانتقائيا، ولا يستخدمه العدو إلا لمزيد من خلق الوقائع وتقادم الأمر الواقع، كي تتحول المرحلية إلى نهائية في الأذهان، وتصبح الأجزاء المرحلية هي انجازات موهومه لدى أصحاب هذا الخيار. والأهم من كل هذا أن العدو بات في موقع إعادة رسم معالم الصراع، بإيجاد الحل النهائي له وفق رؤيته.. بانتوستانات ومعازل وجدار ومستوطنات على كل الأرض الفلسطينية التاريخية.
الحل الصهيوني إذن، هو الدولة الصهيونية على كامل الأرض الفلسطينية، وليواجه مستقبل تجنيب "دولته" خطر ديموغرافي يضرب نقاوتها اليهودية، تكون الكانتونات الفلسطينية في التجمعات الكبرى عبارة عن حكم محلي معزول أو حكم ذاتي شكلاني موسع يمكن أن يطلق عليه صفة "دولة"، ولكن لا حق وطني جامع له، بل كانتونات يتم تغذيتها بمخدر إغاثي تحت مسمى الرفاه والنماء وما أطلق عليه "نتانياهو" مؤخراً بالسلام الاقتصادي، حيث يتحوّل البحث عن الغذاء كغاية، وعن غاية البقاء الإنساني عند اللاجئين في مخيمات المنافي وبإعادة تأهيلها وليس عودتهم.
نستنتج من كل ما تقدم، أن اللهاث وراء أوهام أوسلو قاد شعبنا إلى النتائج الكارثية التي يعيشها اليوم، فهناك شرائح ونخب فلسطينية تجد مصالحها الضيقة باسترضاء التحالف الأمريكي-الصهيوني، عبر المزيد من الهبوط والتنازلات والاستسلام للوعود التخديرية لرؤساء الولايات المتحدة وصولاً إلى بوش وأوباما، التي تراكمت وتشابكت وتكررت بصور ممسوخة دون جدوى في مسار المفاوضات العبثية المبتذلة، التي أوصلت معظم أبناء شعبنا إلى حالة من الاقتناع بان شعار الدولتين وفق أوسلو والرؤية الإسرائيلية الأمريكية مدخل كاذب لحل كاذب، خاصة لحق العودة والسيادة على الأرض والموارد.
أمّا خط السير البديل الذي يتوجّب أن تتقدم من خلاله القوى الوطنية والسياسية بمختلف أطيافها في فلسطين، فهو يجمع –من منطلقه القومي- بين الخط التحرري المقاوم في المكان المناسب والظرف المناسب، الذي يحافظ على الاشتباك مع العدو بوتائر تتناسب مع إمكانيات الشعب ومتطلبات النضال الطويل الأمد، وفي ذات الوقت ينطلق من برنامج ديمقراطي تعددي يعزز الصمود والمقاومة، انطلاقاً من محددات سياسية وثقافية واقتصادية وتنموية واجتماعية تلتزم ببناء أسس مجتمع مدني تلتحم فيه الأهداف التحررية والديمقراطية عبر آليات تهدف إلى تطوير البنية الفلسطينية في الوطن والمنافي، لكي تصبح هذه البنية عصية على الانقسام أو الاختراق أو الصراع الدموي، وعلى كل مظاهر الإحباط واليأس التي تتجلى اليوم بصورة غير مسبوقة في أوساط شعبنا، وأخيراً لكي تصبح هذه البنية عصية على فرض الحلول الاستسلامية.
لذلك كله تتبدى فكرة دولة فلسطين الديمقراطية هي الحل الأمثل بالنسبة لحقوق شعبنا من جهة وبالنسبة للمسألة اليهودية برمتها من جهة ثانية، كحل استراتيجي دون الضياع في تفاصيل حلول وهمية تحت شعار الحل المرحلي.
على أيّ حال، إن المسألة لا تكمن في مجرد طرح الغاية والرؤية فحسب، بل في كيفية تحقيق هذه الرؤية، الأمر الذي يستدعي –عبر الحوار المقترح- تغيير الكثير من الشعارات، والتأسيس لأنماط عمل واستراتجيات جديدة، وهي على صعوبتها تحتاج إلى وضوح الرؤى المعرفية والسياسية بمنطلقاتها التقدمية، بمثل ما تحتاج إلى أدوات نضالية جديدة أشبه "بكتلة تاريخية" ذات مضمون وطني وقومي ماركسي كنقطة انطلاق صوب التغيير المنشود، وتشكل في نفس الوقت جزءاً لا يتجزأ من الإطار الأممي المناهض للإمبريالية وأدواتها العنصرية والرجعية، كتلة تاريخية تبدأ أنويتها في كل بلد عربي على حدة برؤية تقوم على الالتزام السياسي والتنظيمي والمعرفي والأخلاقي بمصالح وأهداف العمال والفلاحين وكل الفقراء والمضطهدين، لكي تمتد وتتواصل في الإطار القومي العربي كخطوة لاحقة، بحيث تضم هذه الكتلة، كافة المثقفين والمناضلين من أجل استعادة بناء المشروع القومي النهضوي الديمقراطي العربي، بما في ذلك هدف تفكيك وإزالة الدولة الصهيونية، عبر المقاومة الشاملة للمشروع الصهيوني بكل الوسائل المتاحة، تشق طريق الثورة الوطنية والقومية التحررية الديمقراطية كطريق ثالث، وبديل حقيقي ينطلق من ثوابت وأهداف الجماهير الشعبية الفقيرة، على المستويين الوطني والقومي، باعتبارها المحدد الرئيسي للقيادة والتنظيم، تمهيداً لتحقيق مبدأ الهيمنة السياسية والثقافية والمجتمعية، ذلك أن نجاح القوى اليسارية الماركسية العربية، بالمعنيين الطبقي والسياسي في أن تصبح قوة مهيمنة، سيمكنها من التجاوز أو الإزاحة السياسية الديمقراطية للتحالف البيروقراطي الكمبرادوري، وأن تصبح أيضا الإطار الذي يمثل ويجسّد مصالح العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة وكل الكادحيـن.
إن استعادة هدف الصراع والحل التاريخي، في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل الأرض الفلسطينية وإدماجها في المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، هي عملية استعادة لأصل الصراع، لكن لا ينبغي علينا استسهال الأمر، فهي ليست عملية ارتجالية ولا ميدانا للمزايدات، إنه تحدي المستقبل الذي يفرض علينا ثورة في الوعي، وثورة في الالتحام بالجماهير، وثورة في التوسع التنظيمي وأساليب النضال الكفاحية والديمقراطية، حيث ستفرض هذه الأهداف نفسها علينا كتحدي تاريخي، كي نكون بمستوى التحدي والإدراك العميق لآليات التاريخ ونطابق بنانا الفكرية والعملية والعلمية معها، ونصبح بمستوى الغاية الحقيقية المحركة للطاقات والخبرات والضمائر، وبأننا بمستوى وطن ننتمي إليه ونستحقه ونحن واعون لما نفعل، بوعي وإرادة.
لذلك كله، "ينبغي علينا أن نحلم" بشرط أن ندرك سر قوة الحلم الثوري الذي يشكل منبع التغيير والثورة، وأن القوة الثورية هي مالك هذا الحلم ودون أن تغادر أقدامه تعرّجات الواقع، للوصول لهدف نبيل وغاية واضحة، وهل هناك أنبل من غاية تحقيق دولة فلسطين الديمقراطية في مجتمع عربي اشتراكي موحد..؟
إن الوضع الفلسطيني الآن يفرض علينا المراجعة الجدية الهادئة والمعمقة لكافة الأفكار التي طرحت خلال العقود الثلاث الماضية، بعد أن بات الحل المطروح مذاك والقائم على أساس الدولة المستقلة، أسيراً للشروط الأمريكية الإسرائيلية، وبعد أن تحوّل النظام العربي إلى حالة –غير مسبوقة- من العجز والتخاذل عززت ضعف السلطة الفلسطينية وهبوطها وتخاذلها ومن ثم انقسامها، الذي أدى إلى انقسام الغاية والهدف، ففي ظل تجزئة الغاية جرى تفكيك أداوت النضال نفسها، والتخلي عن عناصر القوة والمقاومة والبعد العربي وتكريس الانقسام المؤسساتي والجغرافي بين الضفة والقطاع، وما جرى من حصيلة أفقدت الواقع الفلسطيني أسلحته المعنوية وعَرَّته بضمور الغاية وغيابها.
إن إعادة تأسيس رؤيتنا للصراع، وما يشبه إعادة التصميم لركائز قضيتا الفلسطينية، وإعادة إنتاجها في الواقع الفلسطيني، بكل مرتكزاته القومية والوطنية في الداخل والمنافي، إنما يستهدف استعادة روح القضية من براثن الهبوط والانقسام الفلسطيني الداخلي من ناحية واستعادتها من براثن الهزيمة والخضوع العربي الرسمي من ناحية ثانية.
إننا نطرح هذه الرؤية لكي نطلق من جديد حواراً شاملاً بمستويات فكرية وسياسية وتنظيمية إستراتيجية بين كافة قوى اليسار الماركسي العربي والفلسطيني من أجل بلورة بديل تحرري وديمقراطي على المستويين الوطني والقومي، يقطع مع النهج السائد وأدواته ومصالحه الطبقية ورؤاه السياسية الهابطـة.
[1] مسئول الدائرة الثفاقية المركزية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
تعليقات
إرسال تعليق