النظام التونسيّ يُعدّ لموجة قمع جديدة

النظام التونسيّ يُعدّ لموجة قمع جديدة

بقلم : عــمّــار عمروسيّة

تناقلت في الأيّام القليلة الماضية وسائل الإعلام المحلّية "الوطنيّة" والعالمية أنباء أضحت مؤكّدة عن مصادقة مجلس الوزراء التونسي على مشروع قانون يتّصل بأحكام الفصل 61 مكرّر من القانون الجزائيّ وذلك بإضافة أحكام يعاقب بموجبها كلّ من "يتعمّد ربط الاتصالات مع الجهات الأجنبيّة للتحريض على الإضرار بالمصالح العليا للبلاد التونسيّة وكلّ ما يتعلّق بأمنها الاقتصادي".

ومن المُنتظر بطبيعة الحال أن تعمد الحكومة في المستقبل القريب إلى إحالة ذلك المشروع على البرلمان التونسيّ الذي سيسارع في أوّل جلسة ودون عناء كبير على إعطاء مُصادقته بأغلبية مُطلقة تقارب الإجماع. وهو أمر منطقيّ باعتبار حزب الحكومة - التجمّع الدستوري - يحتلّ 75% من مقاعده، أمّا ما تبقّى، أي 25%، فقد عمدت المصالح المختصّة بوزارة الداخليّة إلى تأثيثه بعناصر تدين بالولاء أوّلا وقبل كلّ شيء لها. وهو ما جعل إعلاميّا وسياسيا يعسُر اتهامه بالتطرّف مثل السيّد رشيد خشانة ينعت تشريعيّة أكتوبر 2009 بالتعيينات الفرديّة.

والمُلفت للانتباه مرّة أخرى، هو بقاء التونسيات والتونسيين ليس فقط بعيدين كلّ البعد عن إبداء آرائهم في مثل هكذا قانون خطير، وإنّما محرومون من مُجرّد المعلومة والإعلام في بلد يُفاخر نظام حكمه ويحصد الجوائز المشبوهة حول رعايته "الموصولة" للنهوض بالإعلام وتطويره!!!

فالكلّ يعلم أنّ وسائل إعلام عربيّة وعالميّة هي التي بادرت إلى إلقاء الضوء على ما حرصت السلطة على إبقائه طيّ الكتمان وكأنّ ما يقع إعداده يهمّ الحياة الخاصّة لأعضاء الحكومة ولا يمسّ من قريب أو بعيد هذا الشعب بمختلف طبقاته الاجتماعيّة.

وكعادة وسائل الإعلام، التي تقتات من الأموال العموميّة وتمارس وظائفها في قطيعة مع الشأن العامّ، سارعت إلى إعطاء المُسوّغات السياسيّة والأخلاقيّة ليس فقط لمشروعيّة مثل ذلك القانون، وإنّما لضرورة التعجيل باستصداره "لإنقاذ الوطن" (أنظر الشروق الصادرة يوم 26 ماي أو الحدث بنفس التاريخ)!!!

ومن المُرجّح أن تُعطي الحكومة التونسيّة الإيعاز لخدمها من الأحزاب والجمعيّات الديكوريّة المفضوحة والمتستّرة لإعطاء مواقفها الداعمة لهذا المشروع تحت دعاوي "نبذ الإستقواء بالخارج" و"الدفاع عن السيادة الوطنيّة"، الخ. من الشعارات الخادعة التي تعوّد الديكوريون الرسميون وغيرهم من الطامعين بالدّخول إلى ذات الدائرة ترديدها للتمويه على حقيقة اصطفافهم وراء نظام الحكم مقابل امتيازات مادّية وسياسيّة مدروسة تجعلهم على الدوام في مرتبة خدم الديكتاتوريّة والتنافس المحموم لمزيد موالاتها.

وبالنظر إلى خطورة القانون المُزمع المصادقة عليه قريبا، فقد رأيت من الضروريّ الإسهام في دفع النقاش حوله وذلك بالتطرّق إلى:
- لمحة حول المشروع
- ظروف استصداره
- في المُسوّغات السياسيّة وأهدافه
- المعارضة أمام تحدّي جديد.

لمحة حول المشروع

وحدها الحكومة التونسيّة التي تمتلك حتّى الآن مضمون مشروع القانون، وهو أمر لا يمكن أن يحدث إلاّ في ظلّ أنظمة شموليّة يتحوّل فيها المواطنون إلى مجرّد رعايا ملزمين بتأدية الواجبات بما فيها الخضوع التامّ لجميع ما يُسنّ من تشريعات قانونيّة.

ومنه فإنّ مجال تطرّقنا يظلّ مرتبطا بما رشح من تسريبات إعلاميّة في المدّة الأخيرة. والتي يصبّ جميعها في اتجاه تأكيد أنّ "مشروع القانون الجديد" يندرج ضمن "جريمة الأمن الاقتصادي" المتأتّية عبر "تحريض جهات حكوميّة أو غيرها ضدّ تونس بهدف النيل من المصالح العليا والحيويّة.." نفس المصادر أكّدت على أن المشروع الجديد يتنزّل ضمن تنقيحات اتصلت بالفصل 61 من المجلّة الجزائيّة الذي يعود تاريخ إصداره إلى 10 جانفي عام1957.

ومثلما هو معلوم فقد تضمّن الفصل المذكور تجريم النيل من مصالح تونس الخارجيّة فيما يتعلّق "بسلامتها الترابيّة" وأمن الدولة الخارجيّ وهي "جرائم" ذات صبغة عسكريّة ودبلوماسية. والجديد وفق المنطق الحكوميّ يأتي استكمالا "لثغرة" مرتبطة بما هو اقتصادي.

ظروف الاستصدار

ممّا لا شكّ فيه أنّ تحديد مقاصد أيّ نصّ قانونيّ مهما كانت مجالات تطبيقاته وأهمّيته يظلّ مرتبطا بالظروف الماديّة لاستصداره. فجميع التشريعات بقطع النظر عن ضمانها للحقوق والحرّيات أو دوسها، ليست إلاّ استجابة لمُتطلّبات واقعيّة في مكان ما ولحظة ما.

وعليه فإنّ مشروع القانون الحالي يتنزّل ضمن سياق سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ معلوم يمكن حوصلة أهمّ عناصره في النقاط التالية:

1) على المستوى السياسي:

تتجه الأوضاع السياسيّة ببلادنا نحو مزيد التدهور والانحطاط. فالسلطة صعّدت وتائر القمع السياسي منذ انتهاء المهزلة الانتخابية لرئاسية وتشريعية 2009 (اعتداءات، اعتقالات تعسّفيّة ومحاكمات جائرة، محاصرة مقرّات الأحزاب والجمعيات ومنازل النشطاء...) كما ارتفعت وتائر الحملات الإعلامية المشبوهة على رموز المعارضة الجدّية سواء المنتمين لأحزاب وجمعيات أو مستقلين. ولم تكتف هذه الحملات بالسبّ والشتم والتخوين وانتهاك الأعراض الخاصّة، بل تجاوزته إلى التحريض على الإعتاداءات البدنيّة والتصفية الجسديّة.

والحقيقة التي أصبحت محلّ إجماع وإن بدرجات مُتفاوتة داخل المعارضة الجدّية في البلاد هي إمعان نظام الحكم في معالجاته الأمنيّة لمجمل معضلات المجتمع التونسيّ ممّا أثمر حياة سياسيّة وجمعياتية مختنقة ترزح تحت تغوّل جهاز البوليس السياسي على المعارضة القانونية وغيرها المناوئة والمساندة.

وبالتوازي مع هذا التغوّل الذي يعكس تفاقم الطابع البوليسي للدولة، تسارع مروق الأخيرة (أي الدولة من لبوسها الشكلانيّ المتمثّل في ممارسة وظائفها القهريّة تحت يافطة القوانين والتشريعات الجائرة) إلى دوائر دولة التعليمات التي يجهل حتّى القائمون على تطبيقها مصادرها وأهدافها.

والملفت للانتباه في الأشهر الماضية إمعان نظام الحكم أكثر من أيّ وقت مضى في هذا النهج الاستبدادي بطرق وأساليب شديدة الفجاجة طالت المعارضة الراديكالية وسواها، ولا نستبعد بالمرّة اتساع دائرة ضحاياها في المستقبل القريب.

فجميع المؤشرات منذ انتخابات أكتوبر2009 وبلديات ماي 2010 تصبّ في خانة وحيدة هي تزايد القمع السافر من أجل تعبيد الطريق أمام، أوّلا الحصول على مرتبة الشريك المفضّل مع الاتحاد الأوروبي، وثانيا ترتيب الأوضاع إمّا لإدامة حكم "بن علي" أو لفرض بديل من الأوساط المقرّبة إليه.

2) على المستوى الاقتصادي:

عملت الطغمة الحاكمة على امتداد السنوات الماضية بكلّ الطرق على تلميع صورة الاقتصاد التونسيّ مستفيدة من بعض شهادات الزور الصادرة عن دوائر إمبريالية نهّابة (مؤسسات، رؤساء، خبراء اقتصاديون..) بعضها تحدّث عن المعجزة التونسيّة وبعضها الآخر عن نموذج تونسي رائد وغيرها من الشعارات المخادعة التي قصف بها الإعلام الرسمي الشعب التونسي على الأخصّ أثناء كلّ استحقاق انتخابيّ عامّ وقت تعالي أصوات الاحتجاج في الداخل والخارج ضدّ تزايد انتهاكات حقوق الإنسان وتدهور أوضاع الحرّيات.

وبعيدا عن هذا الضجيج يعرف كثيرون من متتبعيّ الشأن الاقتصاديّ أنّ الواقع الملموس لا يقترب من بعيد أو قريب لما يُروّج له، فالأرقام الرسميّة المُتّصلة بهذا الشأن لا يُعتدّ بها وقد وصلت الشكوك حتّى دوائر ماليّة كبيرة (تقارير البنك الدوليّ في السنوات الماضية..) كما أنّ نسبة النموّ الاقتصادي سنويّا (5.2%) إذا ما افترضنا صحّتها لا تبرّر بالمرّة الحديث عن معجزة و"نموذج" بما أنّ تونس عرفت نسبا أرفع من ذلك بكثير وتكفي الإشارة إلى الـ11% إبّان التجربة البنصالحيّة أواخر الستينات، إضافة إلى أنّ دولا كثيرة محدودة الإمكانيات المادية في كلّ من إفريقيا وآسيا كثيرا ما تجاوزت ما يُفاخرون به.

والأهمّ من ذلك كلّه هو الإجابة على الأسئلة التالية: كيف تمّت نسبة النموّ؟ ولفائدة من تمّت تلك النسب؟ وهل ما تحقّق كان بمنأى عن مزيد إغراق البلاد في التبعيّة؟

ولعلّ ما لا يمكن إنكاره من أيّ كان هو تمسّك السلطة التونسيّة التامّ والمُطلق بتطبيق "وصفة صندوق النقد الدوليّ والبنك العالميّ في إدارة الشأن الاقتصاديّ وهي ذات الوصفة التي شُرِعَ العمل بها في السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة (رشيد صفر) "فالإصلاح" الهيكلي وتأهيل المؤسسات انطلق منذ 1985 ولعلّ الامتياز الوحيد للسلطة الحالية هو الاستمرارية بنسق مرتفع في تفكيك القطاع العموميّ والعبث به لفائدة القطاع الخاصّ بشقّيه "المحلّي" والأجنبي.

فالموازنات المالية للدولة التونسية في العشريتين الماضيتين قامت أوّلا وقبل كلّ شيء على عائدات الأرباح المُتأتّية من الخصخصة التي طالت قطاعات إنتاجيّة إستراتيجية مثل الإسمنت والفلاحة وبعض قطاعات الخدمات.

وبالتوازي مع دفع الخصخصة التي لم تستثن قطاعا ومجالا (تعليم، صحّة، مواصلات، خدمات..) "بعيدا عن المعايير القانونية بما أنّ الزبونيّة السياسية والعلاقات الأسرية هي التي تحكّمت في مسار تلك العمليّة" فقد عمدت السلطة بصفة دائمة إلى الترفيع المُشطّ والعشوائي للمعاليم الجبائيّة وكلّ ما يتّصل بالأداءات المباشرة وغير المباشرة التي أثقلت كاهل الفئات الشعبية وأنعشت خزينة الدولة.

3) على المستوى الاجتماعي:

موّه النظام التونسيّ كثيرا في الداخل وخصوصا في الخارج بمنجزاته الاجتماعيّة، وزوّر الوقائع كما طاب له، ووصل به الأمر إلى ادّعاء الاقتراب من القضاء على الفقر والأميّة مُقدّما نفسه نموذجا للتنمية البشريّة والاجتماعيّة أيضا. متعلّلا كالعادة "بمعزوفة" "الاستقرار" و"السلم الاجتماعيّة"، إلاّ أنّ مجريات الأوضاع وتطوّر الحراك الاجتماعيّ وخصوصا بمنطقة "الحوض المنجميّ" وما تلاها من حركات احتجاجيّة في مناطق متفرّقة (فريانة بالقصرين، السخيرة بصفاقس..) كلّ ذلك قد وجّه ضربة مؤلمة لذلك الخطاب، فانتفاضة الحوض المنجميّ أبرزت على السطح حقائق مُفزعة منها حدّة التفاوت الجهوي وانتشار البطالة وتفشّي الفقر والعوز في مناطق أساسيّة وشاسعة بالبلاد قوّض نهائيّا ما ادعته الحكومة من نهايات قريبة لما تبقّى من مناطق الظلّ وجيوب الفقر.

فالبلاد كلّ البلاد جيب واسع للفقر ومنطقة ظلّ رحبة تعمّقت فيها الفوارق الطبقيّة كما لم يحدث من قبل، ممّا أفضى إلى نموذج طبقيّ شديد الجور وقابل للانفجار في أيّ وقت وتحت أيّ سبب كان فالسياسة النيولبراليّة المتوحّشة المُتبعة من الفريق الحاكم أسهمت في إحداث تغييرات طبقيّة واجتماعية حادّة على المجتمع، أوّلها التمركز المُفرط لوسائل الإنتاج وبالتالي رأس المال، وثانيها هيمنة الأجنحة الأكثر عمالة وجشعا من الوسط البورجوازي على شرايين الاقتصاد التونسي (البورجوازيّة الكمبرادوريّة)، وثالثها تضييق الخناق المادّي على البورجوازيّة الصغيرة ودفع شرائح واسعة منها إلى تخوم الخصاصة التي تضرب الطبقة العاملة والمُفقّرين عموما.

فالنموذج التونسي أنعش ولازال كلّ الآفات الاجتماعيّة. فمعدّل البطالة المُصرّح به 14% يتجاوز المعدّل الإفريقي بـ4% (10%) والعالمي بأكثر من 8% (6%) ونسبة الأميّة في تصاعد مستمرّ، وهناك مصادر كثيرة تُقدّرها بحوالي 25% في حين أنّها لا تتجاوز 8% في فلسطين المحتلّة!!!

والفقر الذي تزعم السلطة الحدّ من ضحاياه إلى حدود 3% يتّسع ويعُمّ في المدن والأرياف التونسيّة ويطال شرائح اجتماعيّة جديدة كانت في الوقت القريب مُصنّفة ضمن القاعدة العريضة لشريحة البورجوازيّة الصغيرة.

وبالتساوق مع هذا التدهور الخطير تنتشر آفات اجتماعيّة أخرى مثل الإدمان على المخدّرات وتعاطي البغاء والجريمة والتسوّل... ممّا أفرز أزمة قيميّة حادّة تطحن المجتمع التونسي الذي وجد نفسه ضحيّة تجاذبات تيّارات فكريّة وقيميّة أخلاقيّة متناقضة (ليبراليّة غربيّة متفسّخة يقابلها عودة سلفيّة للأصول).

في المُسوّغات السياسية

يُفترض من الحكومة التونسية تقديم المسوّغات السياسية لمشروع القانون الجديد وذلك ما أحجمت عن فعله وفق قناعة قديمة تتمثّل في معاملة التونسيين مثل العبيد والرعايا المدعوّين دوما إلى تطبيق القانون واحترامه بعيدا عن كلّ نقاش أو جدل.

وعليه فإننا مجبرون على تحديد المسوّغات من خلال بلاغ مُقتضب صادر على إثر اجتماع مجلس الوزراء يوم 20 ماي 2010 وما تلاه من تعليقات صحافيّة موالية للحكومة.

وبصفة عامّة يمكن حوصلة المُبررات في النقاط التالية:
- سدّ ثغرة قانونية
- الدفاع عن المصالح الاقتصادية العليا
- ضمان السيادة الوطنية

"رُبّ عذر أقبح من ذنب"

يحرص المُدافعون عن مشروع القانون الجديد على أنّ الأخير لا يتعدّى مجال التنقيحات المُتصلة بثغرة قديمة تتصل بالفصل 61 من المجلّة الجزائية. وذلك في محاولة بائسة لإخفاء الأسباب الظرفيّة المباشرة لسنّ مثل هذا القانون حتّى لا يتكشّف من جهة الطابع الزجريّ لهذه التنقيحات ومن جهة أخرى للتغطية على العقليّة الانتقامية المُتوتّرة للنظام وتبرّمه من تعالي الأصوات في الداخل والخارج ضدّ سياساته القهريّة التي أضحت عبئا ثقيلا حتّى على أسياده في عواصم غربيّة كثيرة.

ممّا لا جدال حوله أنّ المشروع الجديد ثمرة أوضاع سياسيّة مباشرة وآنيّة. والحكومة اختارت أن يكون التشريع الجديد مرفقا لفصول قانونيّة قديمة. وكان بالإمكان أن تنحو نهجا آخر لا يمتّ بصلة للتعديلات التي تأتي سدّا لثغرة قديمة.

فكلّ عاقل ليس بإمكانه قبول مثل هذه التخريجات دون طرح أسئلة عديدة من قبيل: ما هي المُبرّرات الحقيقيّة التي جعلت الحكومة التونسيّة تقدم على سنّ مثل هذا التشريع؟ وما الذي جعل النظام الحاليّ بخبرائه الكُثر في مجالات القانون والسياسة لا يتنبّهون لكذا ثغرة؟ وما هي الأضرار الاقتصاديّة التي لحقت البلاد طوال أكثر من نصف قرن في ظلّ غياب مثل هذا المشروع؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها مبرّرة، فالحديث عن "ثغرة" في المجلّة الجزائيّة بمثل هذا الحجم (الأمن الاقتصاديّ) يطرح بصفة جدّية في الميزان سنوات الحكم الطويلة من حكم النظام الدستوري بجميع مؤسّساته التشريعيّة والسياسيّة المتعاقبة.

كما أن القول بسدّ "الثغرة" في هذا الباب يفترض وجوبا مقاضاة الحكومة الحاليّة وما سبقها بتهمة التهاون في تأمين الأمن الاقتصادي، وأكثر من ذلك فإنّ الحزب الحاكم "التجمّع" حاليا، "الحزب الدستوري" قديما، مدعوّ لإعلان عدم أهليّته في إدارة شؤون البلاد وبالتحديد في المجال الاقتصادي الرافعة الضروريّة لتأمين كرامة الشعب وعزّة الوطن التي كثيرا ما لوّحوا بها في وجه المعارضة التونسيّة.

فتطوير المنظومة القانونيّة وسدّ الثغرات الحاصلة أمر مطلوب في كلّ مجتمع، إلاّ أنّ الحديث في هذا الظرف وبحجم هذا التعديل يُصبح من قبيل التبريرات الإيديولوجيّة المُضحكة. ذلك أنّ التشريع التونسي الحالي تطرّق في أكثر من مجلّة قانونيّة لجرائم النيل (بالتحريض) من مصالح البلاد الخارجيّة وتكفي الإشارة إلى قانون الأحزاب والفصل 51 من قانون الصحافة.

وعليه فإنّه حريّ بالحكومة التونسيّة التي تمتلك كلّ الإمكانات المادية والسياسية الإعلان صراحة عن سنّ قانون جديد والدفاع عنه بما تراه ملائما غير اللجوء إلى سدّ الثغرة الذي وضعها في زاوية ضيّقة.

"حاميها حراميها"

مرّة أخرى تلجأ السلطة إلى التمويه في استصدار هذا القانون وذلك باستنباط مقولة "الدفاع عن المصالح الاقتصاديّة العليا" ومعلوم أنّ التمويه يطال الأسباب السياسية المباشرة (صعوبة المفاوضات مع الطرف الأوروبي، تعالي الأصوات الناقدة للاستبداد بالداخل والخارج، الخ.) التي تحكّمت في الاستصدار.

ومن جديد تجد الأسئلة مشروعيتها. فما المقصود بالمصالح الاقتصادية العليا؟ ومن الجهة التي بإمكانها تحديد هذه المصالح والضرر الذي قد يلحقها؟ وهل هناك فهم موحّد وأوحد لماهية هذه المصالح؟ وهل الآن فقط انتبه نظام الحكم إلى توفير الضمانات القانونية لحماية المصالح الاقتصادية؟

والأهمّ من كلّ ذلك هل الحكومة الحاليّة بل النظام الدستوري برمّته تحمّل مسؤولياته ماضيا حتّى يستصدر قانونا يدّعي فيه حماية المصالح الاقتصادية في المستقبل؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير يُطرح في الأوساط السياسية والحقوقية بتونس وخارجها.

ولعلّ ما لا يرقى إليه الشكّ وأيّ كان الموقف من المشروع الجديد فالنصّ الحالي منظور إليه من الزاوية القانونية المحضة لا يمكن بالمرّة أن يُمثّل تشريعا جوهريّا لحماية المصالح الاقتصادية لبلادنا.

أكثر من ذلك يمكن الجزم أنّ إقحام الحديث عن "الاقتصاد" والأضرار التي قد تطاله وفق "الجرائم" التي يُحدّدها النصّ الجديد ليس سوى تبريرا لخطوة جديدة تخطوها الحكومة التونسيّة في اتجاه مزيد خنق المعارضة التونسيّة وقطعها عن محيطها العربي والعالمي.

والحقيقة أنّ استصدار مثل هذا القانون بهذه الحيثيات يمثّل بدعة تونسية خالصة على الأقلّ في الأنظمة السياسية القائمة في هذه الألفيّة. ومن الأكيد أنّ عديد الأنظمة الشمولية كالنازية والفاشية التي حكمت بلدانا مثل ألمانيا وإيطاليا قد عرفت تشريعات تقارب ما أقدمت عليه الحكومة التونسية فالمصالح الاقتصادية العليا وفق التعديلات القانونية الأخيرة مفهوم فضفاض من المؤكّد أنّ القائمين على تلك التعديلات خيّروا إبقائه على تلك الشاكلة لاستخدامه كيف ما شاءوا وضدّ من عنّ لهم.

ومعلوم أنّ مثل هذا الغموض له جذور ممتدّة في المنظومة القانونية التونسية، فهو علامة أوليّة على الطابع الديكتاتوري لهذا النظام الذي لم يعُد مكتفيا بالترسانة القانونية الزجريّة القائمة.

ثمّ إنّ هذه المصالح الاقتصاديّة العليا التي يزعمون حمايتها وقع العبث بها أكثر من 6 عقود. ومعلوم أنّ النظام الدستوري هو من تولّى ذلك العبث الذي تسارعت وتائره في 23 سنة الماضية. ممّا فاقم وضع التبعيّة الاقتصادية على كافّة الأصعدة وأثمر اقتصادا هجينا مُفكّكا بعيدا كلّ البُعد عن تحقيق الحاجيات الأساسية للشعب. فالمصالح الاقتصاديّة العليا تمّ التفريط فيها ولازال من خلال دفع قطار الخصخصة التي استفاد منها أوّلا وقبل كلّ شيء الرأسمال الأجنبي الإمبريالي (أفرادا ومؤسسات). ونفس تلك المصالح تمّ هتكها من خلال إقامة علاقات اقتصادية غير متكافئة بالمرّة مع جهات أجنبيّة استعمارية لا يهمّها سوى مراكمة الأرباح القصوى على حساب قوت التونسيين.

من كان بيته من زجاج...

يحتلّ الحديث عن الوطن والوطنيّة ركنا مُهمّا في استصدار المشروع الجديد أو في الحملة الإعلاميّة الواسعة التي ترافقه. فالحقيقة أنّ قرع الطبول على هذه الواجهة ليس سوى لعبا ديماغوجيا فجّا على المشاعر الوطنيّة للشعب التونسيّ. بل إنّ التلويح بالوطنيّة على هذه الشاكلة علامة أخرى على الطابع الديكتاتوري لنظام الحكم.

فالسيادة الوطنيّة ليست شعارات جوفاء وكلام سياسيين لتبرير الاستفراد بالحكم والتحكّم في الثروات، فهي ثمرة سياسات اقتصاديّة وعلاقات خارجيّة لا نجد ولو أثرا بسيطا لها في التاريخ الطويل لنظام الحكم الذي قام منذ الأيام الأولى على إجهاض التطلّعات الوطنيّة لأحرار الحركة الوطنيّة (تصفية التيار اليوسفي).

والعزّة الوطنيّة لا يمكن أن يعرفها من عمل أكثر من 6 عقود على ربط البلاد اقتصاديّا وسياسيّا وثقافيّا بالدوائر الإمبريالية النهّابة. والعزّة لا تمتّ بأيّة صلة لمن أقام علاقات عسكريّة تقوم على التبعيّة لدول وأحلاف عسكريّة معروفة بعدائها التاريخي ليس فقط للشعب التونسي وإنّما لكافّة الشعوب العربيّة.

والكرامة الوطنيّة لا تستقيم بالمرّة في ظلّ اللهث وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني وغضّ الطرف ليس فقط على جرائمه المرتكبة في حقّ أشقائنا الفلسطينيين بالأراضي المحتلّة وإنّما الصمت المُريب عن فظاعاته على الأراضي التونسيّة (حمّام الشطّ، اغتيال الشهيد أبو جهاد..).

في أهداف الشروع الجديد

إذا تركنا جانبا المسوغات المقدّمة في الخطاب الرسميّ يتّضح بسهولة أنّ الهدف الأوّل للتشريع الجديد يصبّ في اتجاه مساعي الديكتاتوريّة القائمة على مزيد إحكام القبضة القمعيّة الثقيلة على المجتمع وخصوصا على القوى المعارضة الراديكاليّة التي نجحت إلى حدّ ما في فضح الطابع المسرحيّ للاستحقاقات الانتخابيّة وما صاحبها من تعالي الأصوات الناقدة والمنتقدة لنظام الحكم في الخارج بما في ذلك في أوساط رسميّة (دول بالاتحاد الأوروبّي، أمريكا...) كانت ولازالت مرتكزات قويّة لوجود النظام وبقائه حتّى الآن. فأهداف القانون الجديد يمكن تحديدها دون لُبس في علاقة باللحظة التاريخيّة الحالية ومعلوم أنّ هذه اللحظة تُمثّل مجمل تقاطعات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة داخليّة وخارجيّة.

ومن الواضح أنّ جميع ما يتّصل بما هو داخلي يمثّل صعوبات جدّية للفريق الحاكم يدفعه نحو مزيد الانغلاق والتعويل أكثر فأكثر على القمع وتوسيع دائرة ضحاياه حتّى يتمّ تعبيد الطريق أمام فضّ مسألة "التوريث" أو "التمديد" ضمن مناخ سياسي واجتماعي هادئ ومُدجّن أكثر من ذي قبل.

ومن الواضح أيضا أنّ المعطيات المرتبطة بما هو خارجيّ فيها ما يمثّل منغّصات لترتيب البيت "الدستوري" في المستقبل القريب، وهو ما دفع نظام الحكم إلى اتخاذ قرار سنّ قانون "فاشستي" يكمّم الأفواه في الداخل والخارج وفي السياقين تظلّ الأصوات الحرّة للتونسيات والتونسيين هي الضحيّة.

وكعادة بعض التشريعات التي تمّ استحداثها في عهد "بن عليّ" أتى القانون الحالي محكوما أوّلا بعقليّة أمنيّة بوليسيّة وثانيا بنزعة انتقاميّة تنكيليّة وثالثا على مقاس ضحايا معروفين ومُحدّدين سلفا. وفي مسألة الحال فإنّ المرء لا يحتاج إلى فطنة كبيرة لمعرفة من الوجوه السياسية والحقوقية المُستهدفة سواء في تونس أو خارجها فهم وهنّ بطبيعة الحال من مثّلوا مادّة إعلامية لعويل الصحافة الصفراء طوال الأشهر الماضية.

ومن المفارقات العجيبة أنّ القانون الحالي يودّ التأسيس صراحة إلى عزل تونس وأحرار تونس عن العالم الخارجي بكلّ أبعاده الرسميّة وغير الرسميّة وهو ما لم يحدث في أيّ فترة من تاريخ تونس بما في ذلك زمن الاستعمار المباشر.

فهل من المبالغة اعتبار قانون بهذه المقاصد مروقا كليّا عن سياق العصر والتاريخ الحديث للبشريّة؟

فهل من المبالغة اعتبار هذا المشروع تأسيسا قانونيّا خطيرا يفتح الباب مشرعا على مزيد دهورة الحياة السياسية في تونس بما يخدم الديكتاتوريّة؟

فالقانون الجديد مثلما يتبادر للأذهان ليس فقط تجريما للنقد والانتقاد في بلادنا وإنّما تجريم لمجرّد نقل المعلومة كما هي في الواقع الموضوعي بعيدا عن إبداء الرأي والتحليل.

وبهذا المعنى فإنّ لا أحد في الداخل أو الخارج بإمكانه الحديث عن أيّ أمر يتعلّق بالشأن التونسي دون إمكانية أن يصبح متّهما بإلحاق الضرر بمصالح البلاد ويتحوّل إلى متهم بالخيانة والتعرّض إلى سنوات طويلة من السجن!!!

فالصمت التّام وفي كلّ المجالات ومن الجميع منضّمين أو مستقلّين وجوبيّ وفق هذا القانون وإن حصل العكس فالسلطة وحدها من تقرّر، إمّا غضّ الطرف أو تحريك دعوة قضائيّة. ومن الطبيعيّ أن يكون الاتصال بالخارج في بعديه الرسمي وغير الرسمي، بصفة مباشرة أو دونها فعل قابل للتجريم وفق الجهة الوحيدة (السلطة) التي لها حقّ تقرير الأفعال وأهدافها.

وبعد هنا تجد السلطة الجرأة للحديث عن حرّية التعبير والتفكير واحترام حقوق الإنسان؟!!

المعارضة أمام تحدّ جديد

منذ انعقاد قمّة المعلومات في 2005 واتّساع دوائر النقد داخليّا وخارجيّا لنظام الحكم دخلت السلطة تدريجيّا في مرحلة جديدة من خطّتها القمعيّة الهادفة لمزيد إخضاع المعارضة الحقيقية وتضييق الخناق أكثر فأكثر على مجمل فعاليات الحراك الاجتماعي والسياسي والحقوقي. ولعلّ الخيبات المتتالية لهذا النظام من زاوية افتضاح أمر مسرحياته الانتخابية في 2009 و2010 مضافا إليها صعوبات الحصول على مرتبة الشريك المُفضّل والخوف من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على اقتصاد "وطنيّ" منهك بالتبعيّة، هشّ باستشراء الفساد المالي وتبديد المال العامّ.

لعلّ كلّ هذا مضافا إليه الرعب من نهوض الحركة الاجتماعيّة والشعبيّة، يمثّل الأسباب المباشرة لتزايد الانغلاق السياسي الذي بلغ درجات مُفزعة في الأشهر الأخيرة (إيقافات نشطاء في الحقل الإعلامي والسياسي والطلاّبي...) رافقته حملة إعلاميّة واسعة طالت الأعراض والحياة الخاصّة بأفظع الشتائم والتخوين. وقد انصبّت هذه الحملات بصفة أساسية على القوى الديمقراطية العلمانية والليبرالية التي من المؤكّد أنّها المستهدفة الأولى من مشروع القانون الجديد الذي يقابله في الجهة الأخرى قانون "مقاومة الإرهاب" سيئ الصيت.

وممّا لاشكّ فيه أنّ الأشهر القادمة وربّما الأسابيع القليلة الآتية قد يكشفان عن ملامح تصعيد خطير يستهدف مزيد دهورة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب التونسي مما يُحتّم على كلّ المعارضة الجديّة استنهاض قواها وصهر كلّ فعاليات حراكها في تيّار واحد يستهدف على الأقلّ صدّ هجوم الديكتاتورية وتقليم أظافرها بما يوفّر الشروط الأنسب لتحقيق التغيير الديمقراطي المنشود.

قفصة في 12 جوان २०१०

المصدر:البديل العاجل


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة