حفل توقيع رواية من نوع خاصّ بقلم الفاهم بوكدّوس


حفل توقيع رواية من نوع خاصّ


حين زرتُ يوم السّبت 05 جوان الجاري أستاذ الفلسفة السيد مهذّب السبوعي في قريته بالمزّونة كان ذلك لعدّة أسباب. أوّلهاوثانيها لتهنئته بباكورة أعماله الروائيّة "رماد ذاكرة" في وقت تراجع فيه فعل الكتابة بما هو فعل مقاومة ونضال. وثالثها لإرضاء فضول يتملّكني كلّما نُطق أمامي لفظ ذاكرة في وقت دأب فيه الكثير من كتّاب السيرة الروائيّة التّونسيين على تصفية الحساب مع تجاربهم الحياتيّة والسياسيّة منها بالخصوص سواء تحت يافطة النّقد الإيجابي للتجربة أو بحثا عن التموقع الاجتماعي والسياسي أو انسحاقا تحت ما أصاب الإيديولوجيا في العشريتين الأخيرتين من سياط العولمة المتوحّشة. ورابعها لإنجاز متابعة صحفيّة لحفل التّوقيع الذي حافظ على جميع عناصره، فقد حضرت نسخ الكتاب وعمليّة التّوقيع وأجهزة الصّوت وتقاطر عشرات المهتمّين بالكتابة من مناطق عدّة: صفاقس وسيدي بوزيد وطبلبة وقفصة... يتقدّمهم الشّاعر والروائي محمّد الخالدي. وقُدّمت عديد القراءات للأثر المُحتفي به وفُتح نقاش واسع ساهم فيه عديد الحضور. للتّأكّد من أنّه مازال يُقاوم الموت بعد التردّي الخطير لصحّته، فبالإضافة إلى معاناته من أثار زرع كلية فقد أصبح، في عزّ عمره، لا يقدر على السير على قدميه ولا الحديث بسهولة نتيجة إصابة عضلات جسده بمرض نادر.

ولأنّ الخبر ليس في أنّ كلبا عضّ مهذّبا بل في أن مهذّب عضّ كلبا.فإنّه في ذلك اليوم عضّتنا السّلطة جميعا واستكلبت على الحفل ومنظّميه وضيوفه إذ رحّلته من مكان عام إلى ريف قاس مقصيّ : فمسؤولي دار الثّقافة والمكتبة العموميّة وأحد المعاهد الثانويّة الذين وقع الاتفاق معهم واحدا تلو الآخر لاحتضان ذلك النّشاط ورحّبوا به واعتبروه تشريفا لهم تراجعوا في اللّحظات الأخيرة تحت حجج شتّى لم تستطع إخفاء"تعليمات عليا".

السيّد مهذّب السبوعي الذي نقل حفل التوقيع إلى بيته مُكرها لم يُخف إستياءه ممّا حصل وإن كان دبلوماسيا في تفسيره إذ لم ير فيه "أمرا مُشخصنا بل قرارا سياديّا محليّا" قد يعكس عقليّة ازدراء للنشاط الثّقافي خاصّة متى نبع من ذوات مستقلّة عن الإدارة والسّلطة الحاكمة، وقد ينبع من خوف من تبعات فتح الباب في المناطق المتروكة بالخصوص لمثل هذه المبادرات.

بعض الذين تحدّثنا إليهم أرجعوا الأمر إلى نوعيّة بعض المدعوين الذين إضافة إلى اهتماماتهم الأدبيّة لهم صفات نقابيّة وسياسيّة وحقوقيّة.البعض الآخر فسّروا ما حصل بكونه انتقاما من مسيرة الرّجل السياسيّة والطلابيّة.في حين لم يستبعد أحدهم فرضيّة التخوّف من تحوّل المناسبة إلى تحرّك مساند لأهالي غزّة على إثر الاستهداف الصّهيوني لأسطول الحرية في عرض المتوسّط، في منطقة معروفة تقليديّا بمناصرة القضايا القوميّة.

وسواء صحّ أحد هذه الاحتمالات أو كلّها أو عكس الأمر عقليّة سلطويّة متكلّسة لا يتّسع صدرها لمثل هذه الأعمال ولا ترغب في معرفة نبض الشّارع الذي قد ينعكس في مثل تلك الفعاليات، فإنّ حفل التّوقيع عرف نجاحا لافتا من حيث الحضور والتّفاعل وهو ما عبّر عنه شيخ المناضلين بجهة صفاقس السيد عزالدين الحزقي بقوله "ربّ ضارّة نافعة... الغباء يُولّد عكس ما هو منتظر... والوضع المأساوي الذي تمرّ به البلاد لا بدّ وأن يُولّد العكس" في إشارة إلى أنّ محاصرة حريّة التعبير والتفكير محفّز إضافي للمقاومة، وهو ما صرّح به بكلّ وضوح النّاشط الحقوقي لمين عليبي بقوله أنّ "المنع والرّقابة بوّابة الأحرار نحو الإبداع والحريّة وكسر القيد" داعيا إلى ضرورة تحرير الفضاء العامّ من الاحتكار السّلطوي.

النّاشط السياسي والصّحفي عمّار عمروسيّة أكّد أنّ المنع والمحاصرة والتضييق أصبحت قدر التّونسيات والتونسيين في جميع مجالات فعلهم، واعتبر أنّ عمليّة إلغاء الإيداع القانوني المُسبّق للنشر ليس سوى واجهة لقمع المبدعين وتهميشهم، معتبرا أنّ نجاح حفل التّوقيع رغم الظروف التي جرى فيها يؤكّد أهميّة التّصميم والإصرار لدحر العوائق مبيّنا أنّ ذلك منوط بعهدة كلّ الفعاليات المجتمعيّة.

إنّ منح فضاء عمومي للروائي مهذّب السبوعي كان سيُزوّده بأنفاس إضافيّة في وقت يتهدّده الموت بجديّة، ممّا جعل بعض أصدقائه يرون في المنع "محاولة قتل إداريّة"।

بقلم الفاهم بوكدّوس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

معلقة القدس في كف بغداد - للشاعر التونسي ادم فتحي

الاشتراكية أو البربرية : حمة الهمامي

خطير جدا تونس تتحول الى مزبلة نفايات مشعة و معفاة من الاداء الجمركي ..لن نسمح بأن تكون تونس مزبلة نفايات البلدان المتقدمة